موانع
فسخ العقد الفاسد في الشريعة الإسلامية
دراسة
مقارنة بقانون الأحوال الشخصية الأردني والقانون المدني
د.أحمد
ياسين القرالة*
ملخــص
تهدف هذه
الدراسة إلى التعريف بالعقد الفاسد الذي ابتكره الفقه الحنفي وبيان أسباب فساد هذا
العقد ومبررات وجوده، كما تتناول أحكام هذا العقد بوجه عام والأحكام المتعلقة
بفسخه على وجه الخصوص، وركزت هذه الدراسة على الموانع التي تمنع من فسخ هذا العقد
بعد أن كان مستحقاً للفسخ.
Abstract
The
goal of this study is to define the "fasid" (Vitiated) contract,
which is created by the 'Hanafi" jurisprudence, and to clarify the reasons
for the "fasad" (Vitiaton) of the contract, and the Justifications
for such a contract.
This
study is also deals with the rules of this kind of contracts in general, and
the rules related to its rescission in particular. In addition, this study has
concentrated on the obstacles that prevent the rescission of the contract,
where it deserves to be rescinded.
العقد
الفاسد منزلة بين منزلتي الصحة والبطلان، وهو صناعة حنفية(1) ، فالعقد عند الحنفية
يتدرج من الصحة إلى الفساد إلى البطلان(2) ، أي أنهم يرون الفاسد
مبايناً(3) للباطل،
أما بقية المذاهب الإسلامية فلا ترى فرقاً بين الفاسد والباطل(4) ،
فهما اسمان لمسمى واحد أي أنهما مترادفان
فالفاسد هو الباطل، والباطل هو الفاسد، فالعقد عندهم إما أن يكون
صحيحاً منتجاً لآثاره، وإما أن يكون باطلاً أو فاسداً لا فرق بينهما ولا أثر لهما.
فما هو
هذا العقد الفاسد الذي ابتدعه الحنفية وأخذ به الزيدية(5) :
للحنفية
تعريف شائع ومشهور للعقد الفاسد هو:
ما كان
مشروعاً بأصله دون وصفه(6).
وأصل
العقد عند الحنفية هو الركن والشروط المتعلقة به(7) ،
وركن العقد عندهم هو الصيغة وحدها(
، أما شروط الركن فهي الشروط المتعلقة بالعاقدين ومحل العقد زيادة
على شروط الصيغة، ويسميها الحنفية بشروط الانعقاد(9) وهي(10) :
أ-شروط
العاقدين:
العقل أو
التمييز.
التعدد . (11)
ب- شروط
الصيغة:
تطابق
الإيجاب والقبول.
اتحاد
مجلس العقد.
ج- شروط محل
العقد.
1-أن يكون
المحل مقدور التسليم.
2-أن يكون
المحل صالحاً للتعامل فيه أي أنهُ يكون مالاً متقوَماً او مشروعاً.
3-أن يكون
المحل معيناً أو قابلاً للتعيين.
والإخلال
بشرط من هذه الشروط يجعل العقد غير منعقد، أي أن يكون باطلاً لا أثر له.
أما أوصاف
العقد عندهم فهي ما كان خارجاً عن الشروط السابقة(12) ،
ويسميها الحنفية بشروط الصحة(13)
، وهي كثيرة أهمها(14):
أن لا
يكون في العقد غرر فاحش.
أن لا
يشتمل على الربا.
أن لا
يكون مشتملاً على شرط فاسد.
أن لا
يكون هناك ضرر في التسليم.
أن يخلو
العقد من الإكراه.
العجز عن
التسليم.
جهالة
المعقود عليه أو ثمنه.
والإخلال
بهذه الشروط أو بواحد منها يجعل العقد فاسداً، لذلك عرف الكاساني العقد الفاسد بأنه:
ما اختل فيه أحد شروط الصحة(15).
فالحنفية
يرون أنه إذا توفرت في العقد شروط الانعقاد السبعة فقد أضحى العقد منعقداً، ولكن
انعقاده لا يلزم منه صحته، فقد يكون العقد منعقداً إلا أنه فاسد (16). وما دام أن العقد الفاسد
منعقد وله وجود، فلا يجوز اعتباره كالعقد الباطل غير المنعقد.
وقد انتقد
المرحوم مصطفى الزرقاء تعريف الحنفية للعقد الفاسد وبين أنه: "لا يعطي صورة
واضحة عن حقيقة معنى الفساد، وإنما يكشف عن سببه فقط" لذلك فهو يقترح تعريف
الفساد بأنه: "اختلال في العقد المخالف لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة
يجعله مستحقاً للفسخ"(17).
وهذا
التعريف لا يختلف كثيراً عن تعريف الحنفية، لذلك فإنني أرى الاقتصار على تعريف
الحنفية، هو ما أخذت به مجلة الأحكام العدلية في المادة (109) والتي تنص على:
"أن
البيع الفاسد هو المشروع أصلاً لا وصفاً يعني أنه يكون صحيحاً باعتبار ذاته فاسداً
باعتبار أوصافه الخارجة" والقانون المدني الأردني في المادة (170) الفقرة
(1):
العقد
الفاسد هو ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفة فإذا زال سبب فساده صح.
أما قانون
الأحوال الشخصية الأردني فهو وإن أخذ بفكرة العقد الفاسد إلا أنه لم يذكـر له
تعريفاً، وإنما ذكر في المادة (34) الحالات التي يكون العقد فيها فاسداً.
حكم العقد
الفاسد:
يمر العقد
الفاسد بمرحلتين:
المرحلة
الأولى: وهي ما قبل تنفيذه.
المرحلة
الثانية: وهي ما بعد تنفيذه.
ويختلف
حكم العقد الفاسد باختلاف المرحلة التي هو فيها على النحو الآتي:
العقد الفاسد
قبل تنفيذه:
لا فرق
بين العقد الفاسد قبل تنفيذه وبين العقد الباطل من حيث الأثر، فكما أن العقد
الباطل لا أثر له، لأنه عقد منهي عنه، كذلك العقد الفاسد قبل قبض المعقود عليه لا
ينتج أثراً(18)
، لأنه عقد فيه معصية لورود النهي عن وصفه، ويجب على كل من العاقدين(19) فسخه بل للقاضي فسخه إن علم به حقاً الشرع.
فالمبيع
في هذه الحالة مثلاً يبقى على ملك البائع، فإذا تصرف فيه بالبيع أو الهبة أو غيره
فتصرفه صحيح نافذ، ويعتبر فسخاً ضمنياً للعقد الفاسد، ولو هلك فإنه يهلك على
حسابه. ولو تصرف فيه المشتري بالهبة أو الاعتاق أو غيره فتصرفه غير نافذ لعدم
الملك. وعدم ترتب آثار على العقد الفاسد في هذه الحالة يرجع إلى الأمور الآتية:
لأن ترتيب
آثار عليه قبل القبض، والحكم بانتقال الملكية يؤدي إلى التناقض من جهة أنه إذا ثبت
الملك للمشتري قبل قبضه، فهذا يعني أنه يجب على البائع تسليم المبيع إلى المشتري،
وفي هذا تقرير للفساد، وفساد العقد يوجب على كل منهما فسخ العقد رفعاً للفساد،
فيؤول الأمر إلى أن يصبح تنفيذ العقد واجباً على العاقد ومنهياً عنه في نفس الوقت
وهذا تناقض(20).
إنه ليس
من المصلحة الاستعجال في بناء حكم على عقد يوجب الشرع نقضه وإعدامه(21) .
والعقد
الفاسد قبل تنفيذه وقبض المعقود عليه واجب الفسخ دائماً، ولا يوجد مانع يمنع من
فسخه(22) .
العقد
الفاسد بعد تنفيذه:
إذا تم
تنفيذ العقد الفاسد بتسليم المعقود عليه وقام المتعاقد الآخر بقبضه فإن العقد
الفاسد يفيد حكماً ويعتبر القابض مالكاً للمعقود عليه. وهذا ما نصت عليه مجلة
الأحكام، فقد جاءَ في المادة 371 ما نصه: البيع الفاسد يفيد حكمـاً بعد القبض.
والقانون المدني الأردني، حيث نصت الفقرة الثانية من المادة (170) على أن العقد
الفاسد "لا يفيد الملك في المعقود عليه إلا بقبضه".
وهذا
الملك لا يثبت إلا بشروط وهي:
الشرط
الأول:
أن يكون
القبض قد تم بإذن البائع، فإذا قبضه بغير إذنه لا يثبت الملك، وكذلك إذا نهاه عن
قبضه، أو قبضه بغير محضر منه من غير إذنه(23). أما لو قبضه المشتري
بحضرة البائع دون نهيه أو الأذن له في القبض فهناك روايتان(24):
الأولى: يثبت الملك بهذا القبض، لأنه تسليط له على
القبض، فهو إذن دلالة، والقبض دلالة قبض صحيح كما في قبض الهبة.
الثانية:
وهي المشهورة لا يثبت الملك، لأن الاذن لم يوجد صراحة، ولا يمكن إثباته دلالة، لأن
فساد العقد مانع من إثباته(25). والرواية الأولى هي الصحيحة في المذهب كما بين
ذلك صاحب الهداية(26).
الشرط
الثاني:
أن لا
يشتمل العقد على خيار شرط، لأن خيار الشرط يثبت في البيع الفاسد كما يثبت في البيع
الصحيح(27)، والعقد
مع وجود الخيار يمنع من انتقال الملك في مدة الخيار هذا في العقد الصحيح
"فكيف بالفاسد"(28).
والملك في العقد الفاسد بعد القبض يمتاز بالخصائص الآتية:
إن الملك
الثابت بالعقد الفاسد ملك خبيث لا يبيح للإنسان الانتفاع بعين المملوك بالأكل
والشرب وغيرها، لأن الانتفاع به يؤدي إلى استقرار الفساد(29)، وإذا كان المشتري في
العقد الفاسد لا يملك الانتفاع بعين المملوك.
فإنه يملك التصرف فيه واستغلاله بلا خلاف عند الحنفية، وذلك بالبيع والهبة
والرهن والإجارة (30).
وقد استدل الحنفية لقولهم بجواز التصرف دون الانتفاع بما روي أن عائشة رضي الله
عنها لما أرادت أن تشتري بريرة فأبى مواليها أن يبيعوها إلا بشرط أن يكون الولاء
لهم، فاشترت واشترطت الولاء لهم، ثم أعتقتها، وذكرت ذلك لرسول الله r فأجازَ العتق وأبطل الشرط"(31). ووجه الدلالة في الرواية
أن " النبيu أجازَ العتق مع فساد البيع بالشرط"(32) وهذا
يدل على أن المشتري يملك التصرف، أما الانتفاع فبقي على أصله وهو المنع للنهي.
إن هذا
الملك لم ينقطع به حق البائع بالمبيع، والمشتري بالثمن، وبالتالي فإن الشفعة لا
تثبت بالبيع الفاسد، لأنها إنما تجب بانقطاع حق البائع، لا بملك المشتري(33).
إن هذا
الملك غير لازم، فلكل من الطرفين فسخ العقد(34) لاسترداد
ما سلم وهذا الفسخ لا يحتاج إلى رضا الطرف الآخر، كما لا يحتاج إلى قضاء القاضي(35) ،
وهذا الفسخ يبقى قائماً ومستمراً ما لم يوجد مانع يؤدي إلى بطلانه. وليس صحيحاً ما
ذهب إليه د. صحبي محمصاني من أن العقد
الفاسد ينقلب صحيحاً بالقبض، لأن العقد الفاسد لا ينقلب صحيحاً إلا إذا زال سبب
فساده(36) ،
أما مجرد القبض فهو لا يجعل من العقد الفاسد صحيحاً، فالقبض يؤثر في انتقال
الملكية لاعتبارات معينة. وفيما يلي نص كلام الدكتور محمصاني: "ومن أهم أسباب
الفساد في العقود صفة الجهالة في المعقود عليه، فمن العقود الفاسدة مثلاً البيع
الواقع على شيء غير معلوم، أو البيع بدون تسمية الثمن، أو الإجارة التي لم تتعين
فيها المنفعة ، وهذه العقود بعضها ينقلب صحيحاً بالقبض كما في البيع والقرض،
ففيهما إذا قبض المشتري المبيع، أو إذا قبض المستقرض الشيء موضوع القرض صح العقد(37). وقد استند الدكتور
في رأيه
ذلك إلى نص المادة 366 من المجلة والتي جاء فيها: البيع الفاسد يصير نافذاً عند
القبض يعني يصير تصرف المشتري في المبيع جائزاً. فالمادة كما هو واضح لم تذكر أن
العقد الفاسد يصبح بالقبض صحيحاً وكل ما فيها أنها بينت أن البيع الفاسد يصير
نافذاً بالقبض. فما المقصود بالنفاذ في هذه المادة ؟ لم تتركنا هذه المادة حيارى
لنعرف المراد بالنفاذ، إذ إنها تولت تفسيرها بقولها: "يعني يصير تصرف المشتري
في المبيع جائزاً".
موانع
الفسخ:
بينا فيما
سبق أن العقد الفاسد "عقد مخالف للدين"(38) وهو
"معصية يجب رفعها"(39)
والتوبة منها، ورفع هذه المعصية يكون بفسخ العقد، وفي هذا الفسخ زجر
عن تلك المعصية، لأن المتعاقد إذا علم أن العقد الفاسد مستحق للفسخ، فالظاهر أنه
لا يقدم عليه(40).
وكنا بينا أن هذا الفسخ حق للشرع، لا يسقط بصريح الرضا والإسقاط ولكنه قد يسقط
ضرورة(41) ،
في حالات معينة محددة عندها يمتنع الفسخ،
فما هي هذه الموانع، وقبل أن نجيب عن ذلك لا بد من بيان مفهوم كل من المانع
والفسخ، والفرق بين الفسخ والانفساخ من جهة وبينه وبين البطلان من جهة أخرى
فالمانع: هو ما يلزم من وجوده العدم (42) أما الفسخ
فهو حل ارتباط (43).
وهذا قد يكون بإرادة الطرفين ويسمى إقالة، وقد يكون بإرادة أحدهما وقد يكون
بحكم القاضي(44) فهو فعل إرادي(45) لا يرد إلا على عقد منعقد.
أما
الانفساخ: فهو ارتفاع العقد بسبب طارئ غير إرادي(46) كانفساخ
عقد البيع ببطلان المبيع قبل تسليمه(47) لاستحالة
تنفيذ العقد.
أما
البطلان: فهو عدم اكتساب التصرف وجوده الاعتباري وآثاره في نظر الشارع(48). هذا
وإن كان الفقهاء يعبرون عن الانفساخ بالبطلان(49) تسامحاً،
إلا أن بينهما فروقاً جوهرية(50)
:
أن
الانفساخ لا يكون إلا لعقد صحيح بسبب طارئ عليه يمتنع معها بقاء العقد، أو
الاستمرار فيه بعد وجوده كهلاك المبيع، أو المأجور في عقد الإيجارة. أما البطلان
فهو حكم على تصرف فقد عنصراً جوهرياً من عناصر تكوينه - وهي التي تسمى بأصل العقد
كأهلية المتعاقد، ومشروعية المحل - بعدم وجوده أصلاً من الناحية الشرعيـة حتى وإن
كان موجوداً من الناحية الحسية لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً.
أن العقد
في البطلان يكون معدوماً من أصله دائماً، أما في الانفساخ فقد يرفع العقد من أصله
كما في هلال المبيع قبل التسليم، وقد يكون مقتصراً لا يستند إلى الماضي كما في
انفساح عقد الإجارة.
أما موانع
فسخ العقد الفاسد فهي:
أولاً: خروج المبيع عن ملك المشتري
انتهينا فيما
سبق إلى أن تصرف المشتري بما اشتراه بعقد فاسد تصرف جائز، لأنه تصرف في ملكه(51) ،
فلو باع المشتري ما اشتراه بعقد فاسد لغيره، فتصرفه صحيح ويعتبر ذلك البيع مانعاً
من الفسخ بالشروط الآتية:
أن يكون
العقد الثاني صحيحاً، فإذا كان باطلاً أو فاسداً فإن الفسخ لا يمتنع(52) لما
ذكرناه سابقاً.
أن لا
يشتمل العقد على خيار الشرط، فإذا اشتمل العقد على خيار شرط للبائع فإنه لا يكون
مانعاً من الفسخ في مدة الخيار، لأن ملك البائع لا ينتقل مع وجود الخيار(53).
أن يكون
البيع لغير بائعه الأول، فإن كان للبائع الأول فهو فسخ للعقد الفاسد(54).
أن لا
يكون الفساد بسبب الإكراه، فإن كان بسببه كان للمكره أن ينقض كل تصرفات المشتري التي يمكن نقضها(55).
وامتناع
الفسخ هذا يرجع إلى الأمور الآتية(56):
لتعلق حق
المشتري الثاني بالمبيع، فيقدم حقه على حق الشرع في وجوب الفسخ، ليس تهاوناً بحق
الشرع، وإنما لضعف العبد وحاجته.
ولأن
العقد الأول مشروع بأصله دون وصفه، لذلك كان مستحقاً للفسخ، أما العقد الثاني فهو
مشروع بأصله ووصفه.
وهنالك
فرق بين العقد الفاسد والعقد الصحيح الذي بنى عليه يظهر في الأمور الآتية:
إن الملك
في العقد الثاني يثبت بمجرد العقد ولا يحتاج إلى القبض، أما في العقد الفاسد
فالملك لا يثبت إلا بالقبض(57).
إن الملك
في العقد الثاني يطيب للمشتري لأنه ملكه بعقد صحيح، ولا يطيب للمشتري الأول بالعقد
الفاسد(58).
ولو عاد
المبيع إلى ملك المشتري الأول فإن سقوط حق الفسخ يختلف بكيفية عودة المبيع إليه،
وهذه الكيفية لها حالتان:
الحالة
الأولى: أن يعود إلى ملك المشتري
بالسبب الأول الذي خرج به، كأن يرد عليه بخيار الشرط، أو خيار الرؤية، أو خيار
العيب(59).
وفي هذه
الحالة يعود حق الفسخ لزوال المانع عملاً بقاعدة "إذا زال المانع عاد
الممنوع"(60)
، ومعنى القاعدة أنه "إذا كان شيء جائزاً ومشروعاً ثم امتنع حكم
مشروعيته بمانع عارض، فإذا زال ذلك المانع يعود حكم مشروعيته"(61).
وهنا يصير
المبيع كأنه لم يخرج من ملك المشتري(62).
الحالة
الثانية: أن يعود إليه بسبب جديد
غير السبب الذي خرج به من ملكه.
كأن يعود
إليه بهبة أو إرث أو شراء جديد، وهنا يمتنع الفسخ ولا يعود الحق عملاً
بقاعدة" تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات(63) ،
أي "إذا تبدل سبب تملك شيء ما، وإن لم يتبدل هو حقيقة يعتبر متبدلاً(64).
ويدخل في
هذه الحالة الرد بخيار العيب، إذا كان بغير قضاء، بأن كان برضا البائع (أي
المشتري الأول بعقد فاسد) فهو مانع من
الفسخ، لأن الرد هنا "وإن كان فسخاً في حق العاقدين فهو بيع في حق غيرهما"(65).
لأن الرد
بالتراضي فيه معنى البيع، لأن البيع هو مبادلة المال بالمال على وجه التراضي، إلا
أنه أعطى حكم الفسخ في حق المتعاقدين، فيبقى بيعاً جديداً في حق غيرهما كالبيع
المبتــدأ، (66)
فشبهة البيع قائمة في هذا البيع، لذلك يمتنع معها الفسخ ويستقر
العقد، وهذا بخلاف مالو كان الرد بقضاء القاضي فليس فيه شبهة البيع لانعدام
التراضي، فهو فسخ في حق الجميع(67).
والدليل على أن الفسخ بالتراضي فيه معنى البيع، هو ثبوت الشفعة للطرف الثالث،
والشفعة تثبت بالبيع لا بالفسخ.(68) وتعدّ
الهبة والصدقة من الموانع التي من فسخ العقد الفاسد، فلو وهب المشتري ما اشتراه
بعقد فاسد أو تصدق به فإن الفسخ يمتنع عندئذ، وذلك بشرط أن يتم القبض في الهبة
والصدقة، لأنهما لا تفيدان الملك إلا بالقبض، أما قبل القبض فالمال لا يخرج عن ملك
المشتري، وبالتالي لا يمتنع الفسخ(69).
ولو رجع الواهب في هبته(70)
، عندها يعود حق الفسخ لزوال المانع، ولا فرق في هذا الرجوع بين أن
يكون بقضاء القاضي وبين غيره(71). ولا تعتبر الإجارة مانعة من الفسخ، فالإجارة وإن كانت عقداً لازماً، إلا أنها ليست
بمانعة من الفسخ وذلك لما يأتي:
لأن
الإجارة تفسخ بالأعذار(72)
، ولا عذر أقوى من رفع الفساد(73). ولأن الإجارة عقد على
المنافع، وهي غير موجودة وقت العقد "فهي تنعقد شيئاً فشيئاً، فيكون زيادة على
المنافع التي لم تحدث امتناعاً عن العقد عليها"(74). فيكون الفسخ للآتي منها.
ولأن
المشتري لو اطلع على عيب في المبيع بعد أن أجره كان له فسخ الإجارة برد المبيع إلى
صاحبه، وهذا أولى لأنه لحق الشرع(75).
وإذا فسخت
الإجارة فإن الأجرة للمشتري، لأن المنافع عند الحنفية لا تتقوم إلا بالعقد، لأنها
معدومة قبله، وقد حصلت في ملك المشتري وهو الذي أجرى العقد عليها، فإن كان قد أدى
ضمان القيمة ثم أجر فقد طابت له الأجرة، لأن الضمان بدل المضمون قائم مقامه، فكانت
الأجرة ربح ما قد ضمن، وإن أجر قبل أداء القيمة، فإن الأجرة لا تطيب له، لأنه ربح
ما لم يضمن.
وما ينطبق
على البيع الفاسد ينطبق على الإجارة الفاسدة، فلو أجر المستأجر فساداً ما استأجره
لغيره إجارة صحيحة، فالإجارة جائزة إذا كان المأجور مما تجوز إجارته كالعقار، وكان
ذلك بعد قبضه(76).
وهذا لا
يمنع أيضاً من فسخ الإجارة الثانية لفساد الأولى، ويجب على المستأجر الأول أجرة
المثل لفساد العقد، وعلى المستأجر الثاني الأجرة المسماة في العقد لصحته(77). أما لو وصَّى(78) المشتري
بما اشتراه فاسداً لغيره صحت الوصية، وجواز الفسخ له حالتان(79):
الحالة
الأولى: قبل موت الموصي، وفي هذه الحالة لا تكون الوصية مانعة من الفسخ، لأن
الوصية هي تصرف غير لازم حال الحياة، لأن الثابت قبل موته مجرد إيجاب، وهو يحتمل
الرجوع في عقد المعاوضة كالبيع والإجارة وغيرهما قبل القبول، ففي التبرع أولى(80).
ثم إن هذا
الرجوع قبل القبول ليس فيه إبطال لحق الغير، لأن الثابت له بعد الإيجاب حق التملك، والموجب هو الذي
أثبت له هذه الولاية، فله أن يرفعها كعزل الوكيل، ولأن حق التملك لا يعارض حقيقة
الملك، فلو لم يجز الرجوع للزم تعطيل حق الملك بحق التملك وهو غير جائز، لأن حق
الملك أقوى من حق التملك، بدليل أن للأب حق في أن يتملك بعض مال ولده عند الحاجة،
وهذا الحق لا يمنع الولد من حق التصرف في ماله إذا لم يملكه الأب فعلاً(81).
الحالة
الثانية: بعد موت الموصي، فإن الفسخ يمتنع، لأن المبيع انتقل إلى ملك الموصى
له، وهو ملك مبتدأ، فأصبح كما لو باعه إياه، وذلك بشرط أن لا يرد الموصى له
الوصية، لأنه بقبوله يتم الركن، هذا عند جمهور الحنفية أما عند الإمام زفر
فالإيجاب وحده هو ركن الوصية، ويصبح الموصى له كالوراث يملك الموصى به بموت
الموصى، أما إذا رد الموصى له الوصية فأن حق الفسخ يبقى قائماً لزول المانع. ولا
يعتبر موت أحد العاقدين مانعاً من الفسخ(82) ،
بل يثبت للورثة حق الفسخ" لأن الوارث قائم مقام المورث"(83) ،
فيثبت له ما كان ثابتاً لمورثه، لأنه خلف عنه، وملك الوارث مضمون الرد مستحق الفسخ
فيثبت ذلك كله للمورث(84).
وهذا الحق ليس ثابتاً للوارث بطريق الوراثة، لأن حق الفسخ مشيئة وإرادة، وهي لا
تورث، وإنما هو ثابت بطريق الخلفية، أي أنه ثابت له ابتداء، لأن الملك الفاسد قد
انتقل اليه ، وهو يحتاج للفسخ للخلاص منه كما كان ثابتاً لمورثه(85).
جاء في
الفتاوى الخانية:
"وللبائع
أن يسترد المبيع ما لم يوجد ما يبطل حق الفسخ، ولا يبطل حق الفسخ بالإجارة، ولا
بموت المشتري، لأن الملك الفاسد ينتقل إلى وارث المشتري ويقوم الوارث مقام
المشتري، أما مجرد الحق فلا يورث(86)
". والغاية من تصحيح تصرف المشتري بما اشتراه بعقد فاسد، والقول
بامتناع الفسخ هو حماية الغير الذي تصرف له المشتري من أن تستحق العين من تحت يده(87).
يقول ابن
نجيم: "العقد الفاسد إذا تعلق به حق الغير لزم وارتفع الفساد"(88).
ويقول
السنهوري:
"إن
الشرع هو الذي تولى ترتيب هذا الأثر على العقد الفاسد لمصلحة قصد تحقيقها، وهذه
المصلحة هي حماية الغير الذي تصرف له المشتري، فحتى يكفل الشرع حماية هذا الغير من أن يسترد المبيع من تحت يده باستعماله حق الفسخ-وليست هناك
وسيلة للشهر تنبه الغير إلى فساد العقد مع كثرة أسباب الفساد وتنوعها- لجأ الفقه
الحنفي إلى ضرب من الصناعة الفقهية يستوقف النظر"(89).
وقد ابتكر
الحنفية لذلك صناعة فقهية تفترض انتقال ملكية العين المبيعة بعقد فاسد بعد قبضها
إلى المشتري، لا لينتفع بها كما هو الحال في الملكية العادية المستفادة بالعقد
الصحيح، وإنما الغرض منها تصحيح التصرف الذي يصدر من المشتري للغير، إذ إنه من
الأمر البديهي أن الإنسان لا يستطيع أن يملك غيره ما لا يملكه، فحتى تكون ملكية
الغير ملكية مستقرة لا بد من القول بانتقال الملكية(90).
*
كلية الدراسات الفقهية والقانونية، جامعة آل
البيت، الأردن.
فسخ العقد الفاسد في الشريعة الإسلامية
دراسة
مقارنة بقانون الأحوال الشخصية الأردني والقانون المدني
د.أحمد
ياسين القرالة*
ملخــص
تهدف هذه
الدراسة إلى التعريف بالعقد الفاسد الذي ابتكره الفقه الحنفي وبيان أسباب فساد هذا
العقد ومبررات وجوده، كما تتناول أحكام هذا العقد بوجه عام والأحكام المتعلقة
بفسخه على وجه الخصوص، وركزت هذه الدراسة على الموانع التي تمنع من فسخ هذا العقد
بعد أن كان مستحقاً للفسخ.
Abstract
The
goal of this study is to define the "fasid" (Vitiated) contract,
which is created by the 'Hanafi" jurisprudence, and to clarify the reasons
for the "fasad" (Vitiaton) of the contract, and the Justifications
for such a contract.
This
study is also deals with the rules of this kind of contracts in general, and
the rules related to its rescission in particular. In addition, this study has
concentrated on the obstacles that prevent the rescission of the contract,
where it deserves to be rescinded.
العقد
الفاسد منزلة بين منزلتي الصحة والبطلان، وهو صناعة حنفية(1) ، فالعقد عند الحنفية
يتدرج من الصحة إلى الفساد إلى البطلان(2) ، أي أنهم يرون الفاسد
مبايناً(3) للباطل،
أما بقية المذاهب الإسلامية فلا ترى فرقاً بين الفاسد والباطل(4) ،
فهما اسمان لمسمى واحد أي أنهما مترادفان
فالفاسد هو الباطل، والباطل هو الفاسد، فالعقد عندهم إما أن يكون
صحيحاً منتجاً لآثاره، وإما أن يكون باطلاً أو فاسداً لا فرق بينهما ولا أثر لهما.
فما هو
هذا العقد الفاسد الذي ابتدعه الحنفية وأخذ به الزيدية(5) :
للحنفية
تعريف شائع ومشهور للعقد الفاسد هو:
ما كان
مشروعاً بأصله دون وصفه(6).
وأصل
العقد عند الحنفية هو الركن والشروط المتعلقة به(7) ،
وركن العقد عندهم هو الصيغة وحدها(
، أما شروط الركن فهي الشروط المتعلقة بالعاقدين ومحل العقد زيادة
على شروط الصيغة، ويسميها الحنفية بشروط الانعقاد(9) وهي(10) :
أ-شروط
العاقدين:
العقل أو
التمييز.
التعدد . (11)
ب- شروط
الصيغة:
تطابق
الإيجاب والقبول.
اتحاد
مجلس العقد.
ج- شروط محل
العقد.
1-أن يكون
المحل مقدور التسليم.
2-أن يكون
المحل صالحاً للتعامل فيه أي أنهُ يكون مالاً متقوَماً او مشروعاً.
3-أن يكون
المحل معيناً أو قابلاً للتعيين.
والإخلال
بشرط من هذه الشروط يجعل العقد غير منعقد، أي أن يكون باطلاً لا أثر له.
أما أوصاف
العقد عندهم فهي ما كان خارجاً عن الشروط السابقة(12) ،
ويسميها الحنفية بشروط الصحة(13)
، وهي كثيرة أهمها(14):
أن لا
يكون في العقد غرر فاحش.
أن لا
يشتمل على الربا.
أن لا
يكون مشتملاً على شرط فاسد.
أن لا
يكون هناك ضرر في التسليم.
أن يخلو
العقد من الإكراه.
العجز عن
التسليم.
جهالة
المعقود عليه أو ثمنه.
والإخلال
بهذه الشروط أو بواحد منها يجعل العقد فاسداً، لذلك عرف الكاساني العقد الفاسد بأنه:
ما اختل فيه أحد شروط الصحة(15).
فالحنفية
يرون أنه إذا توفرت في العقد شروط الانعقاد السبعة فقد أضحى العقد منعقداً، ولكن
انعقاده لا يلزم منه صحته، فقد يكون العقد منعقداً إلا أنه فاسد (16). وما دام أن العقد الفاسد
منعقد وله وجود، فلا يجوز اعتباره كالعقد الباطل غير المنعقد.
وقد انتقد
المرحوم مصطفى الزرقاء تعريف الحنفية للعقد الفاسد وبين أنه: "لا يعطي صورة
واضحة عن حقيقة معنى الفساد، وإنما يكشف عن سببه فقط" لذلك فهو يقترح تعريف
الفساد بأنه: "اختلال في العقد المخالف لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة
يجعله مستحقاً للفسخ"(17).
وهذا
التعريف لا يختلف كثيراً عن تعريف الحنفية، لذلك فإنني أرى الاقتصار على تعريف
الحنفية، هو ما أخذت به مجلة الأحكام العدلية في المادة (109) والتي تنص على:
"أن
البيع الفاسد هو المشروع أصلاً لا وصفاً يعني أنه يكون صحيحاً باعتبار ذاته فاسداً
باعتبار أوصافه الخارجة" والقانون المدني الأردني في المادة (170) الفقرة
(1):
العقد
الفاسد هو ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفة فإذا زال سبب فساده صح.
أما قانون
الأحوال الشخصية الأردني فهو وإن أخذ بفكرة العقد الفاسد إلا أنه لم يذكـر له
تعريفاً، وإنما ذكر في المادة (34) الحالات التي يكون العقد فيها فاسداً.
حكم العقد
الفاسد:
يمر العقد
الفاسد بمرحلتين:
المرحلة
الأولى: وهي ما قبل تنفيذه.
المرحلة
الثانية: وهي ما بعد تنفيذه.
ويختلف
حكم العقد الفاسد باختلاف المرحلة التي هو فيها على النحو الآتي:
العقد الفاسد
قبل تنفيذه:
لا فرق
بين العقد الفاسد قبل تنفيذه وبين العقد الباطل من حيث الأثر، فكما أن العقد
الباطل لا أثر له، لأنه عقد منهي عنه، كذلك العقد الفاسد قبل قبض المعقود عليه لا
ينتج أثراً(18)
، لأنه عقد فيه معصية لورود النهي عن وصفه، ويجب على كل من العاقدين(19) فسخه بل للقاضي فسخه إن علم به حقاً الشرع.
فالمبيع
في هذه الحالة مثلاً يبقى على ملك البائع، فإذا تصرف فيه بالبيع أو الهبة أو غيره
فتصرفه صحيح نافذ، ويعتبر فسخاً ضمنياً للعقد الفاسد، ولو هلك فإنه يهلك على
حسابه. ولو تصرف فيه المشتري بالهبة أو الاعتاق أو غيره فتصرفه غير نافذ لعدم
الملك. وعدم ترتب آثار على العقد الفاسد في هذه الحالة يرجع إلى الأمور الآتية:
لأن ترتيب
آثار عليه قبل القبض، والحكم بانتقال الملكية يؤدي إلى التناقض من جهة أنه إذا ثبت
الملك للمشتري قبل قبضه، فهذا يعني أنه يجب على البائع تسليم المبيع إلى المشتري،
وفي هذا تقرير للفساد، وفساد العقد يوجب على كل منهما فسخ العقد رفعاً للفساد،
فيؤول الأمر إلى أن يصبح تنفيذ العقد واجباً على العاقد ومنهياً عنه في نفس الوقت
وهذا تناقض(20).
إنه ليس
من المصلحة الاستعجال في بناء حكم على عقد يوجب الشرع نقضه وإعدامه(21) .
والعقد
الفاسد قبل تنفيذه وقبض المعقود عليه واجب الفسخ دائماً، ولا يوجد مانع يمنع من
فسخه(22) .
العقد
الفاسد بعد تنفيذه:
إذا تم
تنفيذ العقد الفاسد بتسليم المعقود عليه وقام المتعاقد الآخر بقبضه فإن العقد
الفاسد يفيد حكماً ويعتبر القابض مالكاً للمعقود عليه. وهذا ما نصت عليه مجلة
الأحكام، فقد جاءَ في المادة 371 ما نصه: البيع الفاسد يفيد حكمـاً بعد القبض.
والقانون المدني الأردني، حيث نصت الفقرة الثانية من المادة (170) على أن العقد
الفاسد "لا يفيد الملك في المعقود عليه إلا بقبضه".
وهذا
الملك لا يثبت إلا بشروط وهي:
الشرط
الأول:
أن يكون
القبض قد تم بإذن البائع، فإذا قبضه بغير إذنه لا يثبت الملك، وكذلك إذا نهاه عن
قبضه، أو قبضه بغير محضر منه من غير إذنه(23). أما لو قبضه المشتري
بحضرة البائع دون نهيه أو الأذن له في القبض فهناك روايتان(24):
الأولى: يثبت الملك بهذا القبض، لأنه تسليط له على
القبض، فهو إذن دلالة، والقبض دلالة قبض صحيح كما في قبض الهبة.
الثانية:
وهي المشهورة لا يثبت الملك، لأن الاذن لم يوجد صراحة، ولا يمكن إثباته دلالة، لأن
فساد العقد مانع من إثباته(25). والرواية الأولى هي الصحيحة في المذهب كما بين
ذلك صاحب الهداية(26).
الشرط
الثاني:
أن لا
يشتمل العقد على خيار شرط، لأن خيار الشرط يثبت في البيع الفاسد كما يثبت في البيع
الصحيح(27)، والعقد
مع وجود الخيار يمنع من انتقال الملك في مدة الخيار هذا في العقد الصحيح
"فكيف بالفاسد"(28).
والملك في العقد الفاسد بعد القبض يمتاز بالخصائص الآتية:
إن الملك
الثابت بالعقد الفاسد ملك خبيث لا يبيح للإنسان الانتفاع بعين المملوك بالأكل
والشرب وغيرها، لأن الانتفاع به يؤدي إلى استقرار الفساد(29)، وإذا كان المشتري في
العقد الفاسد لا يملك الانتفاع بعين المملوك.
فإنه يملك التصرف فيه واستغلاله بلا خلاف عند الحنفية، وذلك بالبيع والهبة
والرهن والإجارة (30).
وقد استدل الحنفية لقولهم بجواز التصرف دون الانتفاع بما روي أن عائشة رضي الله
عنها لما أرادت أن تشتري بريرة فأبى مواليها أن يبيعوها إلا بشرط أن يكون الولاء
لهم، فاشترت واشترطت الولاء لهم، ثم أعتقتها، وذكرت ذلك لرسول الله r فأجازَ العتق وأبطل الشرط"(31). ووجه الدلالة في الرواية
أن " النبيu أجازَ العتق مع فساد البيع بالشرط"(32) وهذا
يدل على أن المشتري يملك التصرف، أما الانتفاع فبقي على أصله وهو المنع للنهي.
إن هذا
الملك لم ينقطع به حق البائع بالمبيع، والمشتري بالثمن، وبالتالي فإن الشفعة لا
تثبت بالبيع الفاسد، لأنها إنما تجب بانقطاع حق البائع، لا بملك المشتري(33).
إن هذا
الملك غير لازم، فلكل من الطرفين فسخ العقد(34) لاسترداد
ما سلم وهذا الفسخ لا يحتاج إلى رضا الطرف الآخر، كما لا يحتاج إلى قضاء القاضي(35) ،
وهذا الفسخ يبقى قائماً ومستمراً ما لم يوجد مانع يؤدي إلى بطلانه. وليس صحيحاً ما
ذهب إليه د. صحبي محمصاني من أن العقد
الفاسد ينقلب صحيحاً بالقبض، لأن العقد الفاسد لا ينقلب صحيحاً إلا إذا زال سبب
فساده(36) ،
أما مجرد القبض فهو لا يجعل من العقد الفاسد صحيحاً، فالقبض يؤثر في انتقال
الملكية لاعتبارات معينة. وفيما يلي نص كلام الدكتور محمصاني: "ومن أهم أسباب
الفساد في العقود صفة الجهالة في المعقود عليه، فمن العقود الفاسدة مثلاً البيع
الواقع على شيء غير معلوم، أو البيع بدون تسمية الثمن، أو الإجارة التي لم تتعين
فيها المنفعة ، وهذه العقود بعضها ينقلب صحيحاً بالقبض كما في البيع والقرض،
ففيهما إذا قبض المشتري المبيع، أو إذا قبض المستقرض الشيء موضوع القرض صح العقد(37). وقد استند الدكتور
في رأيه
ذلك إلى نص المادة 366 من المجلة والتي جاء فيها: البيع الفاسد يصير نافذاً عند
القبض يعني يصير تصرف المشتري في المبيع جائزاً. فالمادة كما هو واضح لم تذكر أن
العقد الفاسد يصبح بالقبض صحيحاً وكل ما فيها أنها بينت أن البيع الفاسد يصير
نافذاً بالقبض. فما المقصود بالنفاذ في هذه المادة ؟ لم تتركنا هذه المادة حيارى
لنعرف المراد بالنفاذ، إذ إنها تولت تفسيرها بقولها: "يعني يصير تصرف المشتري
في المبيع جائزاً".
موانع
الفسخ:
بينا فيما
سبق أن العقد الفاسد "عقد مخالف للدين"(38) وهو
"معصية يجب رفعها"(39)
والتوبة منها، ورفع هذه المعصية يكون بفسخ العقد، وفي هذا الفسخ زجر
عن تلك المعصية، لأن المتعاقد إذا علم أن العقد الفاسد مستحق للفسخ، فالظاهر أنه
لا يقدم عليه(40).
وكنا بينا أن هذا الفسخ حق للشرع، لا يسقط بصريح الرضا والإسقاط ولكنه قد يسقط
ضرورة(41) ،
في حالات معينة محددة عندها يمتنع الفسخ،
فما هي هذه الموانع، وقبل أن نجيب عن ذلك لا بد من بيان مفهوم كل من المانع
والفسخ، والفرق بين الفسخ والانفساخ من جهة وبينه وبين البطلان من جهة أخرى
فالمانع: هو ما يلزم من وجوده العدم (42) أما الفسخ
فهو حل ارتباط (43).
وهذا قد يكون بإرادة الطرفين ويسمى إقالة، وقد يكون بإرادة أحدهما وقد يكون
بحكم القاضي(44) فهو فعل إرادي(45) لا يرد إلا على عقد منعقد.
أما
الانفساخ: فهو ارتفاع العقد بسبب طارئ غير إرادي(46) كانفساخ
عقد البيع ببطلان المبيع قبل تسليمه(47) لاستحالة
تنفيذ العقد.
أما
البطلان: فهو عدم اكتساب التصرف وجوده الاعتباري وآثاره في نظر الشارع(48). هذا
وإن كان الفقهاء يعبرون عن الانفساخ بالبطلان(49) تسامحاً،
إلا أن بينهما فروقاً جوهرية(50)
:
أن
الانفساخ لا يكون إلا لعقد صحيح بسبب طارئ عليه يمتنع معها بقاء العقد، أو
الاستمرار فيه بعد وجوده كهلاك المبيع، أو المأجور في عقد الإيجارة. أما البطلان
فهو حكم على تصرف فقد عنصراً جوهرياً من عناصر تكوينه - وهي التي تسمى بأصل العقد
كأهلية المتعاقد، ومشروعية المحل - بعدم وجوده أصلاً من الناحية الشرعيـة حتى وإن
كان موجوداً من الناحية الحسية لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً.
أن العقد
في البطلان يكون معدوماً من أصله دائماً، أما في الانفساخ فقد يرفع العقد من أصله
كما في هلال المبيع قبل التسليم، وقد يكون مقتصراً لا يستند إلى الماضي كما في
انفساح عقد الإجارة.
أما موانع
فسخ العقد الفاسد فهي:
أولاً: خروج المبيع عن ملك المشتري
انتهينا فيما
سبق إلى أن تصرف المشتري بما اشتراه بعقد فاسد تصرف جائز، لأنه تصرف في ملكه(51) ،
فلو باع المشتري ما اشتراه بعقد فاسد لغيره، فتصرفه صحيح ويعتبر ذلك البيع مانعاً
من الفسخ بالشروط الآتية:
أن يكون
العقد الثاني صحيحاً، فإذا كان باطلاً أو فاسداً فإن الفسخ لا يمتنع(52) لما
ذكرناه سابقاً.
أن لا
يشتمل العقد على خيار الشرط، فإذا اشتمل العقد على خيار شرط للبائع فإنه لا يكون
مانعاً من الفسخ في مدة الخيار، لأن ملك البائع لا ينتقل مع وجود الخيار(53).
أن يكون
البيع لغير بائعه الأول، فإن كان للبائع الأول فهو فسخ للعقد الفاسد(54).
أن لا
يكون الفساد بسبب الإكراه، فإن كان بسببه كان للمكره أن ينقض كل تصرفات المشتري التي يمكن نقضها(55).
وامتناع
الفسخ هذا يرجع إلى الأمور الآتية(56):
لتعلق حق
المشتري الثاني بالمبيع، فيقدم حقه على حق الشرع في وجوب الفسخ، ليس تهاوناً بحق
الشرع، وإنما لضعف العبد وحاجته.
ولأن
العقد الأول مشروع بأصله دون وصفه، لذلك كان مستحقاً للفسخ، أما العقد الثاني فهو
مشروع بأصله ووصفه.
وهنالك
فرق بين العقد الفاسد والعقد الصحيح الذي بنى عليه يظهر في الأمور الآتية:
إن الملك
في العقد الثاني يثبت بمجرد العقد ولا يحتاج إلى القبض، أما في العقد الفاسد
فالملك لا يثبت إلا بالقبض(57).
إن الملك
في العقد الثاني يطيب للمشتري لأنه ملكه بعقد صحيح، ولا يطيب للمشتري الأول بالعقد
الفاسد(58).
ولو عاد
المبيع إلى ملك المشتري الأول فإن سقوط حق الفسخ يختلف بكيفية عودة المبيع إليه،
وهذه الكيفية لها حالتان:
الحالة
الأولى: أن يعود إلى ملك المشتري
بالسبب الأول الذي خرج به، كأن يرد عليه بخيار الشرط، أو خيار الرؤية، أو خيار
العيب(59).
وفي هذه
الحالة يعود حق الفسخ لزوال المانع عملاً بقاعدة "إذا زال المانع عاد
الممنوع"(60)
، ومعنى القاعدة أنه "إذا كان شيء جائزاً ومشروعاً ثم امتنع حكم
مشروعيته بمانع عارض، فإذا زال ذلك المانع يعود حكم مشروعيته"(61).
وهنا يصير
المبيع كأنه لم يخرج من ملك المشتري(62).
الحالة
الثانية: أن يعود إليه بسبب جديد
غير السبب الذي خرج به من ملكه.
كأن يعود
إليه بهبة أو إرث أو شراء جديد، وهنا يمتنع الفسخ ولا يعود الحق عملاً
بقاعدة" تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات(63) ،
أي "إذا تبدل سبب تملك شيء ما، وإن لم يتبدل هو حقيقة يعتبر متبدلاً(64).
ويدخل في
هذه الحالة الرد بخيار العيب، إذا كان بغير قضاء، بأن كان برضا البائع (أي
المشتري الأول بعقد فاسد) فهو مانع من
الفسخ، لأن الرد هنا "وإن كان فسخاً في حق العاقدين فهو بيع في حق غيرهما"(65).
لأن الرد
بالتراضي فيه معنى البيع، لأن البيع هو مبادلة المال بالمال على وجه التراضي، إلا
أنه أعطى حكم الفسخ في حق المتعاقدين، فيبقى بيعاً جديداً في حق غيرهما كالبيع
المبتــدأ، (66)
فشبهة البيع قائمة في هذا البيع، لذلك يمتنع معها الفسخ ويستقر
العقد، وهذا بخلاف مالو كان الرد بقضاء القاضي فليس فيه شبهة البيع لانعدام
التراضي، فهو فسخ في حق الجميع(67).
والدليل على أن الفسخ بالتراضي فيه معنى البيع، هو ثبوت الشفعة للطرف الثالث،
والشفعة تثبت بالبيع لا بالفسخ.(68) وتعدّ
الهبة والصدقة من الموانع التي من فسخ العقد الفاسد، فلو وهب المشتري ما اشتراه
بعقد فاسد أو تصدق به فإن الفسخ يمتنع عندئذ، وذلك بشرط أن يتم القبض في الهبة
والصدقة، لأنهما لا تفيدان الملك إلا بالقبض، أما قبل القبض فالمال لا يخرج عن ملك
المشتري، وبالتالي لا يمتنع الفسخ(69).
ولو رجع الواهب في هبته(70)
، عندها يعود حق الفسخ لزوال المانع، ولا فرق في هذا الرجوع بين أن
يكون بقضاء القاضي وبين غيره(71). ولا تعتبر الإجارة مانعة من الفسخ، فالإجارة وإن كانت عقداً لازماً، إلا أنها ليست
بمانعة من الفسخ وذلك لما يأتي:
لأن
الإجارة تفسخ بالأعذار(72)
، ولا عذر أقوى من رفع الفساد(73). ولأن الإجارة عقد على
المنافع، وهي غير موجودة وقت العقد "فهي تنعقد شيئاً فشيئاً، فيكون زيادة على
المنافع التي لم تحدث امتناعاً عن العقد عليها"(74). فيكون الفسخ للآتي منها.
ولأن
المشتري لو اطلع على عيب في المبيع بعد أن أجره كان له فسخ الإجارة برد المبيع إلى
صاحبه، وهذا أولى لأنه لحق الشرع(75).
وإذا فسخت
الإجارة فإن الأجرة للمشتري، لأن المنافع عند الحنفية لا تتقوم إلا بالعقد، لأنها
معدومة قبله، وقد حصلت في ملك المشتري وهو الذي أجرى العقد عليها، فإن كان قد أدى
ضمان القيمة ثم أجر فقد طابت له الأجرة، لأن الضمان بدل المضمون قائم مقامه، فكانت
الأجرة ربح ما قد ضمن، وإن أجر قبل أداء القيمة، فإن الأجرة لا تطيب له، لأنه ربح
ما لم يضمن.
وما ينطبق
على البيع الفاسد ينطبق على الإجارة الفاسدة، فلو أجر المستأجر فساداً ما استأجره
لغيره إجارة صحيحة، فالإجارة جائزة إذا كان المأجور مما تجوز إجارته كالعقار، وكان
ذلك بعد قبضه(76).
وهذا لا
يمنع أيضاً من فسخ الإجارة الثانية لفساد الأولى، ويجب على المستأجر الأول أجرة
المثل لفساد العقد، وعلى المستأجر الثاني الأجرة المسماة في العقد لصحته(77). أما لو وصَّى(78) المشتري
بما اشتراه فاسداً لغيره صحت الوصية، وجواز الفسخ له حالتان(79):
الحالة
الأولى: قبل موت الموصي، وفي هذه الحالة لا تكون الوصية مانعة من الفسخ، لأن
الوصية هي تصرف غير لازم حال الحياة، لأن الثابت قبل موته مجرد إيجاب، وهو يحتمل
الرجوع في عقد المعاوضة كالبيع والإجارة وغيرهما قبل القبول، ففي التبرع أولى(80).
ثم إن هذا
الرجوع قبل القبول ليس فيه إبطال لحق الغير، لأن الثابت له بعد الإيجاب حق التملك، والموجب هو الذي
أثبت له هذه الولاية، فله أن يرفعها كعزل الوكيل، ولأن حق التملك لا يعارض حقيقة
الملك، فلو لم يجز الرجوع للزم تعطيل حق الملك بحق التملك وهو غير جائز، لأن حق
الملك أقوى من حق التملك، بدليل أن للأب حق في أن يتملك بعض مال ولده عند الحاجة،
وهذا الحق لا يمنع الولد من حق التصرف في ماله إذا لم يملكه الأب فعلاً(81).
الحالة
الثانية: بعد موت الموصي، فإن الفسخ يمتنع، لأن المبيع انتقل إلى ملك الموصى
له، وهو ملك مبتدأ، فأصبح كما لو باعه إياه، وذلك بشرط أن لا يرد الموصى له
الوصية، لأنه بقبوله يتم الركن، هذا عند جمهور الحنفية أما عند الإمام زفر
فالإيجاب وحده هو ركن الوصية، ويصبح الموصى له كالوراث يملك الموصى به بموت
الموصى، أما إذا رد الموصى له الوصية فأن حق الفسخ يبقى قائماً لزول المانع. ولا
يعتبر موت أحد العاقدين مانعاً من الفسخ(82) ،
بل يثبت للورثة حق الفسخ" لأن الوارث قائم مقام المورث"(83) ،
فيثبت له ما كان ثابتاً لمورثه، لأنه خلف عنه، وملك الوارث مضمون الرد مستحق الفسخ
فيثبت ذلك كله للمورث(84).
وهذا الحق ليس ثابتاً للوارث بطريق الوراثة، لأن حق الفسخ مشيئة وإرادة، وهي لا
تورث، وإنما هو ثابت بطريق الخلفية، أي أنه ثابت له ابتداء، لأن الملك الفاسد قد
انتقل اليه ، وهو يحتاج للفسخ للخلاص منه كما كان ثابتاً لمورثه(85).
جاء في
الفتاوى الخانية:
"وللبائع
أن يسترد المبيع ما لم يوجد ما يبطل حق الفسخ، ولا يبطل حق الفسخ بالإجارة، ولا
بموت المشتري، لأن الملك الفاسد ينتقل إلى وارث المشتري ويقوم الوارث مقام
المشتري، أما مجرد الحق فلا يورث(86)
". والغاية من تصحيح تصرف المشتري بما اشتراه بعقد فاسد، والقول
بامتناع الفسخ هو حماية الغير الذي تصرف له المشتري من أن تستحق العين من تحت يده(87).
يقول ابن
نجيم: "العقد الفاسد إذا تعلق به حق الغير لزم وارتفع الفساد"(88).
ويقول
السنهوري:
"إن
الشرع هو الذي تولى ترتيب هذا الأثر على العقد الفاسد لمصلحة قصد تحقيقها، وهذه
المصلحة هي حماية الغير الذي تصرف له المشتري، فحتى يكفل الشرع حماية هذا الغير من أن يسترد المبيع من تحت يده باستعماله حق الفسخ-وليست هناك
وسيلة للشهر تنبه الغير إلى فساد العقد مع كثرة أسباب الفساد وتنوعها- لجأ الفقه
الحنفي إلى ضرب من الصناعة الفقهية يستوقف النظر"(89).
وقد ابتكر
الحنفية لذلك صناعة فقهية تفترض انتقال ملكية العين المبيعة بعقد فاسد بعد قبضها
إلى المشتري، لا لينتفع بها كما هو الحال في الملكية العادية المستفادة بالعقد
الصحيح، وإنما الغرض منها تصحيح التصرف الذي يصدر من المشتري للغير، إذ إنه من
الأمر البديهي أن الإنسان لا يستطيع أن يملك غيره ما لا يملكه، فحتى تكون ملكية
الغير ملكية مستقرة لا بد من القول بانتقال الملكية(90).
*
كلية الدراسات الفقهية والقانونية، جامعة آل
البيت، الأردن.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب