.نقد القانون المدني
لفضيلة الشيخ إبراهيم جعفر السقا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
لم يتخلف المسلمون عن ركب العالم نتيجة لتمسكهم بدينهم أو تعصبهم لإسلامهم، وإنما بدأ هذا التخلف يوم تركوا هذا التمسك بدينهم وتساهلوا فيه، وسمحوا للحضارة الأجنبية أن تدخل ديارهم، وللمفاهيم الغربية أن تحتل أذهانهم وللقوانين غير الإسلامية أن تحكم بلادهم..
بل من يوم أن حاولوا عقد صلات ومشابهات وموافقات بين نظامهم الإلهي الإسلامي والنظم البشرية الأخرى التي صاغها الناس لأنفسهم في معزل عن الله تعالى ذلك أن الإسلام لا يعتز أن يكون بينه وبين النظم العالمية الأخرى مشابهة أو موافقة لأنه لن يزيد فضلاً ولا كمالاً بهذه النسبة أو المشابهة أو الموافقة لأن كماله المطلق في نسبته إلى صاحب الكمال المطلق وحده وهو الله تعالى جل شأنه، فالإسلام قدّم للبشرية نموذجا من النظام الإلهي ولم يحاول أن يقلد نظاماً من النظم بل اختار طريقه متفرداً فذاً، وقدم للإنسانية علاجاً إلهياً كاملاً لمشكلاتها جميعاً ولقد يحدث في تطور النظم البشرية - لا الإسلامية - أن تلتقي بالإسلام تارة وأن تفترق عنه تارة، ومع ذلك فهو نظام مستقل متكامل لا علاقة له بتلك النظم لا حين تلتقي معه، ولا حين تفترق عنه، فهذا الافتراق، وذلك الالتقاء عرضيان ووليدة مصادفات، وفي أجزاء متفرقة، ولا عبرة بالاتفاق والاختلاف في الجزئيات والعرضيات، إنما المعول عليه هي النظرة الأساسية وتصوره الخاص، وعنه تتفرع الجزئيات فتلتقي أو تفترق معه جزئيات من النظم الأخرى ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف، لأن قاعدته الأساسية التي يقوم عليها تختلف كلياً عن القواعد التي تقوم عليها الأنظمة البشرية جميعاً، فالإسلام يجعل السيادة لله وحده، فالأمر والحكم كله لله، وهو المرجع الأعلى في كل شيء والمصدر الوحيد لكل قانون أو دستور.
فالله تعالى وحده هو الذي يشرّع الأحكام في كل شيء، وسائر الأنظمة والقوانين تقوم على أساس أن المشرّع هو الإنسان فهو الذي يشرّع لنفسه، وهما قاعدتان متناقضتان لا تلتقيان.
فالقانون الإسلامي يتجلى فيه قدرة الخالق وعظمته، وإحاطته بما كان وبما هو كائن، خلافاً للقانون الوضعي ومنه القانون المدني الذي نحن بصدد نقضه والذي يتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم، وقلّة حيلتهم وعرضة قانونهم للتغيير والتبديل والتحريف كما سنرى ذلك جلياً في وقوفنا ساعة مع القانون المدني لنكشف عن وجه الحق، ونعرض فيها صواب الرأي بعمق واستنارة حتى تنجلي الحقائق، ويبرز زيف الباطل فلعل مطبقي هذا القانون يبصرون النور، فيثوبوا إلى الحق ويسيروا في طريق الهدى، ويدركوا مدى ما كانوا فيه من ضلال ما بعده من ضلال، ومن أحكام للطاغوت ولغير ما أنزل الله، ويرون أن واجبهم حرب هذا القانون واستعاضته بقانون الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
تعريف القانون:
كلمة القانون اصطلاح أجنبي معناه عندهم: الأمر الذي يصدره الحاكم ليسير عليه الناس، وقد عرّف بأنه: ((مجموع القواعد التي يجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم)) وقد أطلق على القانون الأساسي لكل حكومة كلمة الدستور، وأطلق على القانون الناتج من النظام الذي نص عليه الدستور كلمة القانون، وقد عرّف الدستور بأنه "القانون الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبيّن حدود واختصاص كل سلطة فيها" أو "القانون الذي ينظم السلطة العامة أي الحكومة ويحدد علاقتها مع الأفراد، ويبين حقوقها وواجباتهم قِبَلَهم، وحقوقهم وواجباتهم قِبَلَها.
هذه خلاصة الاصطلاحات الذي تعنيه كلمتا دستور وقانون، وهو في خلاصته يعني أن الدولة تأخذ من مصادر متعددة سواء أكانت مصدراً تشريعياً أو مصدراً تاريخياً أحكاماً معينة تتبناها وتأمر بالعمل بها فتصبح هذه الأحكام بعد تبنيها من قِبَل الدولة دستوراً إن كانت من الأحكام العامة، وقانوناً إن كانت من الأحكام الخاصة، ومن الجدير بالذكر أن هناك فرقاً بين الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية، وبين غيرها من الدساتير والقوانين، فإن باقي الدساتير والقوانين مصدرها العادات وأحكام المحاكم الخ، ومنشؤها جمعية تأسيسية تسن الدستور ومجالس منتخبة من الشعب تسن القوانين، لأن الشعب عندهم مصدر السلطات كما أن السيادة للشعب لديهم.
أما الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية فإن مصدرها الكتاب والسنة ومنشؤها اجتهاد المجتهدين حيث الحاكم يتبنى منهما أحكاماً معينة يأمر بها فيلزم الناس العمل بها، لأن السيادة للشرع، والاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية حق لجميع المسلمين، وفرض كفاية عليهم.
1_ نقد كلمة القانون المدني:
إن إطلاق اسم القانون المدني على هذا القانون إطلاق خاطئ لأنه قانون ينظم علاقات الناس، وهو قانون معاملات وليس هناك أي صلة بين لفظ المدني والمعاملات، فوصف القانون بأنه مدني وصف غير منطبق على حقيقته لأن حقيقته أنه ينظم علاقات الناس، وهذه معاملات ولا صلة للقانون بالمدنية مهما أريد بها من معان، فإن أريد بالمدنية الرقي ضدّ التأخر فالقانون يوصف بأنه ينظم العلاقات وبأنه قانون معاملات، وقد يكون راقياً وقد يكون غير راق.
فالقانون الفرنسي الذي وضع في أيام نابليون قد ظهر للفرنسيين فساده وتأخره، ووضع بدله قانون مدني جديد، ومع ذلك لا يزال يسمى القانون المدني، والقانون الروماني ظهر فساد نظرياته ومع ذلك لا يزال يقال عنه القانون المدني، وليس المراد من وصف القانون بالمدني بيان كونه راقياً أو غير راق بل المراد بيان حقيقته بأنه وضع لينظم المعاملات ولذلك لا علاقة مطلقا بين المدنية وبين المعاملات.
وإن أريد بالمدنية النسبة إلى المدينة فالقانون لم يوضع للمدينة فقط، وإنما وضع للمدينة والقرية ومضارب البدو فتخصيصه بالمدنية لا وجه له مطلقاً، وإن أريد بالمدنية الأشكال المادية المحسوسة فهي عاجلية وهي ليست المنظمة للعلاقات، فلا علاقة للقانون بالأشكال والصناعات، وعليه فلا وجه لتسمية القانون بالقانون المدني ولا لوصفه بأنه مدني، بل هو قانون معاملات.
1_ نقد الأصل الفقهي للقوانين المدنية:
"إن القانون المدني من حيث هو لدى جميع التقنينات اللاتينية والجرمانية والمتخيرة يقوم على نظرية الالتزام، ويبنى كله في إجماله وتفصيله عليها، وبما أن هذه النظريات فاسدة من أساسها، لذلك كان القانون المدني كله فاسداً وهاكم البيان:
لقد عرّف القانون المدني بأنه: ((القانون الذي ينظم علاقات الأفراد بعضها ببعض)) وقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات.
فقواعد الأحوال الشخصية هي التي تنظم علاقة الفرد بأسرته، وقواعد المعاملات هي التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال، وعرّف الحق في المعاملات "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون للفرد".
وقسم الحق إلى قسمين رئيسيين حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى "الحق الشخصي" وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى "الحق العيني"، والحق الشخصي في نظرهم رابطة ما بين شخصين دائن ومدين.
والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة، والصلح، والإجارة، والعارية، والوكالة، والوديعة، والرهان والكفالة.
والحق العيني هو ليس علاقة في نظرهم وإنما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وعلى أساسه عولجت المعاملات العينية مثل حق الملكية، وأسباب كسب الملكية، ورهن المنقول، والرهن العقاري، والتأمين على الحياة، وحقوق الامتياز.
هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون المدني،.. وهذا الأساس فاسد من عدّة وجوه!
أ_ إن الحق في المعاملات ليس مصلحة ذات قيمة مالية بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية وقد لا تكون ذات قيمة مالية، فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين:
أحدهما: أنه لا يشمل المصالح ذات القيمة المعنوية مثل الكرامة والشرف لأنه لا قيمة مالية لها، ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية على الإطلاق، ولذلك كانت نظرية التعويض على القذف خاطئة.
وثانيهما: أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير، والحق هو ذاته أساس، ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته، ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.
ب_ إن تقسيم الحق إلى قسمين: حق عيني، وحق شخصي لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي، وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق بين المعاملات التي فرّعوها عليها، فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جعلت الإجارة من الحق الشخصي، وجعل الرهن من الحق العيني على أن التعريف نفسه فرضي وليس حقيقياً.
فحين عرّفوا الحق بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين لم يفهم من هذا التعريف مطلقاً أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء، بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، فالعلاقة ما بين شخصين موجودة في الحق العيني، وحين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل.
حين عرّفوا الحق الشخصي بذلك لم يفهم من هذا التعريف نفي وجود علاقة بين الشخص والشيء، لأن موضوع العلاقة هو الشيء الذي نشأت من أجله الرابطة بين الشخصين، فتكون هناك رابطة بين الشخص والشيء في الحق الشخصي، وهو كالحق العيني عنصر من عناصر الذمة المالية يتصرف فيه صاحبه بالبيع والرهن سواء، ولذلك كان هذا التقسيم غير وارد ومخالفاً للواقع والحقيقة.
الالتزام: إن الحق الشخصي أي الالتزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وقد كانت هذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام تعطي للدائن على جسم المدين لا على ماله، وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي.
فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر، وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حق الإعدام، وحق الاسترقاق، وحق التصرف، ثم ظهر فساد هذه النظرية فلجأوا إلى تخفيف السلطة حتى صارت مقصورة على التنفيذ الذي يقول به القانون المدني وهو حبس المدين مثلا، ثم صار التنفيذ على مال المدين لا على شخصه، بالحجز مثلاً وأصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران: مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم حقاً لذمة الدائن ويترتب في ذمة المدين، وعلى ذلك ظهر فساد نظرية الالتزام ففسرت هذا التفسير حتى تكون لها ناحية شخصية وناحية مالية، فأدى ذلك إلى أن ينشأ اختلاف في الالتزام فنشأ مذهبان: أحدهما يغلب الناحية الشخصية للاحتفاظ بالنظرة الأصلية للقانون الروماني، وهذا ما سارت عليه التقنينات اللاتينية والآخر يغلب الناحية المالية ويجردها من الناحية الشخصية ويتحرر من القانون الروماني، وهذا هو ما سارت عليه التقنينات الجرمانية، وبذلك صارت نظرية الالتزام تفهم فهماً شخصياً عند اللاتينيين، ويترتب على هذا الفهم عدم لحاق المال والاقتصار على الشخص، ولذلك لم يجيزوا حوالة الدين وأخذ بذلك القانون الفرنسي القديم.
وصارت نظرية الالتزام تفهم فهماً مادياً عند الجرمانيين ويترتب على هذا الفهم لحاق المال وليس الشخص، ولذلك أجازوا حوالة الدين فكان في الالتزام مذهبان:
المذهب الشخصي، والمذهب المادي ولكل وجهة نظر تخالف الآخر، فالمذهب الشخصي يرى أن الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ويترتب على هذا أن لا يدخل فيه معاملات كثيرة منها أن لا تدخل فيه الكفالة، ولا يدخل فيه الوعد بجائزة وما شاكل ذلك من المعاملات فيكون مذهباً قاصراً لأنه لا يشتمل المعاملة التي تنشأ من جانب واحد، والمذهب المادي يرى أن العبرة في الالتزام بمحله دون أشخاصه، وأن الرابطة الشخصية ليست هي الأمر الجوهري، ويترتب على هذا أنه يجوز وجود معاملة إذا وجد المال وحده دون شخص، وجعل العلاقة الشخصية غير ضرورية، وهذا لا يجوز إذ لا تتصور أي معاملة تحصل دون وجود شخص آخر حتى الكفالة، والوعد بجائزة، وعقود التأمين لمصلحة الغير والسند لحامله، وكان المذهب الثاني غير واقع هذا بالنسبة لنشوء فكرة الالتزام.
أما بالنسبة لتعريف الالتزام فقد وجدت له عدّة تعاريف وكلّها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، فقد عرّف الالتزام بأنه اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، وهذا يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وهذا التعريف لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق، وعرّف الالتزام بأنه ((حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل)) وهذا التعريف جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرّها القانون، فتعريفه بحالة قانونية يجعله فضفاضاً غير مانع من دخول حالات قانونية لا صلة لها بالالتزام.
هذه خلاصة الالتزام بوجه عام، وهذا كله خطأ محض؛ إذ لا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين ولا يوجد هذه الرابطة مطلقاً، ولا هي رابطة بين شخص ومال أو سلطة لشخص على مال مطلقاً، وإنما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ، وهذه العلاقة يوجدها جلب مصلحة أو رفع مفسدة للإنسان، وينظمها القانون فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال، وعلى ذلك فالالتزام بالمفهوم الذي ذكره القانون المدني غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي، والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية غير موجودة، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة شخصين، وإنما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرّها القانون، وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجازة أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل، وإذا كان الأمر كذلك كان الالتزام بأكمله غير موجود فضلاً عن كونه بالمعنى الذي أوردوه غير صحيح لا فيما ورد بالمذهب الشخصي ولا فيما ورد بالمذهب المادي، ولذلك كان القانون المدني ترتب على الالتزام وبني عليه قانونا غير صحيح.
نظرية الالتزام:
تعتبر نظرية الالتزام أهم النظريات الفقهية في التقنينات الغربية جميعها، والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات جميعها يستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم، وهي في نظرهم أصلح النظريات القانونية ميداناً للتفكير وأفسحها مجالا للتعميم وأخصبها تربة لا نبات القواعد العامة، ويرونها بأنها أولى النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة ولذلك يجعلونها الأصل الذي يتفرع عنه القانون المدني، فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات التي بنيت عليها، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها ولا سيّما القانون عنها ولا سيّما القانون المدني الذي هو في حقيقته نظرية الالتزام وفروعها، والناظر في هذه النظرية يجد أنها كانت منذ عهد الرومان وأن جميع التقنينات نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يذكر، لكن لما بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها وبرز لهم عدم صلاحيتها فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات، وأخذوا يغيرونها زاعمين أنها تتطور.
والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً، وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوربا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام، فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام، فعقد العمل قد أدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب، ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد، ولا يبيح مثل هذه الحقوق.
ونظرية العقد ذاتها كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.
وهذه نظرية الغبن لم تكن موجودة بل لم تكن نظرية الالتزام تجيزها فقد كانت النظريات الفردية تقضي بوجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك، ولما تبين فساد هذه النظريات أدخلت نظرية الغبن على بعض العقود ثم أخذت تتسع حتى أصبحت في القوانين الحديثة نظرية عامة تنطبق على جميع العقود، وهكذا كان لنشوء أفكار عن الحياة تخالف الأفكار القديمة أثر في بيان نظرية الالتزام ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان استعمالها مختلف الآلات الميكانيكية وتقدم الصناعة ووجود حروب عالمية قد أوجد مسائل عملية تبرز فساد نظرية الالتزام إذ إن استعمال الآلات اقترن بمخاطر جمة يستهدف لها الناس ولم تكن نظرية الالتزام تجعل المسؤولية إلا على الشخص، فظهر عدم صلاحيتها ووضعت المسؤولية على الخطأ المفروض، وصار إلحاق أي أذى في العامل يلزم صاحب العمل بالتعويض وهذا لا تقتضي به نظرية الالتزام، وصار عقد التأمين لا يقتصر على الشخص بل يشمل الغير فوجدت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير، كما إذا أمّن شخص على حياته لمصلحة أولاده سواء أكان له أولاد وقت التأمين أم لم يكن له أولاد حين التأمين، وهذا يخالف نظرية الالتزام بأنها رابطة بين شخصين، والأولاد الذين لم يوجدوا لا يدخلون في هذه الرابطة مع أن العقد أصبح يدخلهم، وعلاوة على ذلك فإن نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها، وفي التسعير الجبري للسلع والتقدير الجبري للأجر، وفي عقود التزام المرافق العامة ما يناقض نظرية الالتزام ومع ذلك أدخلت في القوانين الحديثة وهي تدل على فساد نظرية الالتزام وعدم صلاحها، وزيادة على ذلك فإن النظرية التي تقضي بأن الغش يفسد العقد، والقاعدة القائلة بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب، والنظام العام والالتزام بوجوب الامتناع عن الإضرار بالغير دون حق والإثراء بلا سبب الذي يمنع الشخص أن ينتفع على حساب غيره، كل ذلك يخالف نظرية الالتزام ويدل على فسادها لأنها تقييد وليس حرية، وهي تناقض الحق الشخصي وتهدمه على اعتبار أنه حق مطلق غير مقيد على أن الالتزام من حيث هو باعتباره الحق الشخصي، وباعتباره الحق العيني يقوم على رابطة قانونية بين الدائن والمدين توجب على الشخص أن ينقل حقا، وهذا يعني عدم اشتراط الرضا بالحوالة دون رضا المحال عليه بحوالة الحق، وعدم اشتراط رضا الدائن بحوالة الدين، لأن الحالة القانونية في الالتزام تلزم الشخص بنقل الحق عيناً أو ديناً، وهذا لا يضمن تحقيق العدل ولذلك ظهر فساده، فمجرد تبليغ المحال عليه لا يكفي بل لابد من قبوله لأن العقد في الحوالة _ كما في غيرها _ يجب أن تكون برضا أطراف العقد.
هذا إجمال في نظرية الالتزام، ومنه يتبين أنها لا تصلح ميداناً للتفكير لأن كثيراً من أنواع العلاقات بين بني الإنسان لا يمكن استنباطها منها بل على العكس هي تمنع استنباطها مثل كون الغش يفسد العقد وهي لا تصلح لأن تكون مجالاً للتعميم لأن المسؤولية على الخطأ المفروض وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير والإرادة المنفردة وما شابه ذلك لا يمكن أن تشملها لا بمنطوق ولا بمفهوم، ولذلك فهي قاصرة وهي لا تصلح لا نبات قواعد عامة بدليل وجود نظريات وقواعد عامة تناقضها مثل قاعدة عدم جواز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، ومثل نظرية الغبن في العقود وليس فيها قابلية للتوحيد في شرائع الأمم بدليل ظهور قصورها وعجزها حين ظهرت النظريات الاشتراكية، رغم كونها فاسدة، وحين تقدمت الصناعة وهي من أساسها خاطئة لأنها تقوم على حرية الملكية والحرية الشخصية، وهذه الحرية للشخص وفي الملك هي التي تسبب الفساد بين الناس وهي التي تمكن من الاستقلال والاستعمار لأن إعطاء الحرية في التملك وإعطاء الحرية الشخصية يحميه القانون حين بني على نظرية الالتزام وفي ذلك الفساد والشقاء.
والذي يبرز فساد نظرية الالتزام أيضاً تعريف مصدر الالتزام وترتيب مصادر الالتزام التي ذكرتها التقنينات القديمة والحديثة كما سنرى في الحلقة المقبلة من هذا الموضوع بمشيئة الله تعالى ذلك جليا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لفضيلة الشيخ إبراهيم جعفر السقا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
لم يتخلف المسلمون عن ركب العالم نتيجة لتمسكهم بدينهم أو تعصبهم لإسلامهم، وإنما بدأ هذا التخلف يوم تركوا هذا التمسك بدينهم وتساهلوا فيه، وسمحوا للحضارة الأجنبية أن تدخل ديارهم، وللمفاهيم الغربية أن تحتل أذهانهم وللقوانين غير الإسلامية أن تحكم بلادهم..
بل من يوم أن حاولوا عقد صلات ومشابهات وموافقات بين نظامهم الإلهي الإسلامي والنظم البشرية الأخرى التي صاغها الناس لأنفسهم في معزل عن الله تعالى ذلك أن الإسلام لا يعتز أن يكون بينه وبين النظم العالمية الأخرى مشابهة أو موافقة لأنه لن يزيد فضلاً ولا كمالاً بهذه النسبة أو المشابهة أو الموافقة لأن كماله المطلق في نسبته إلى صاحب الكمال المطلق وحده وهو الله تعالى جل شأنه، فالإسلام قدّم للبشرية نموذجا من النظام الإلهي ولم يحاول أن يقلد نظاماً من النظم بل اختار طريقه متفرداً فذاً، وقدم للإنسانية علاجاً إلهياً كاملاً لمشكلاتها جميعاً ولقد يحدث في تطور النظم البشرية - لا الإسلامية - أن تلتقي بالإسلام تارة وأن تفترق عنه تارة، ومع ذلك فهو نظام مستقل متكامل لا علاقة له بتلك النظم لا حين تلتقي معه، ولا حين تفترق عنه، فهذا الافتراق، وذلك الالتقاء عرضيان ووليدة مصادفات، وفي أجزاء متفرقة، ولا عبرة بالاتفاق والاختلاف في الجزئيات والعرضيات، إنما المعول عليه هي النظرة الأساسية وتصوره الخاص، وعنه تتفرع الجزئيات فتلتقي أو تفترق معه جزئيات من النظم الأخرى ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف، لأن قاعدته الأساسية التي يقوم عليها تختلف كلياً عن القواعد التي تقوم عليها الأنظمة البشرية جميعاً، فالإسلام يجعل السيادة لله وحده، فالأمر والحكم كله لله، وهو المرجع الأعلى في كل شيء والمصدر الوحيد لكل قانون أو دستور.
فالله تعالى وحده هو الذي يشرّع الأحكام في كل شيء، وسائر الأنظمة والقوانين تقوم على أساس أن المشرّع هو الإنسان فهو الذي يشرّع لنفسه، وهما قاعدتان متناقضتان لا تلتقيان.
فالقانون الإسلامي يتجلى فيه قدرة الخالق وعظمته، وإحاطته بما كان وبما هو كائن، خلافاً للقانون الوضعي ومنه القانون المدني الذي نحن بصدد نقضه والذي يتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم، وقلّة حيلتهم وعرضة قانونهم للتغيير والتبديل والتحريف كما سنرى ذلك جلياً في وقوفنا ساعة مع القانون المدني لنكشف عن وجه الحق، ونعرض فيها صواب الرأي بعمق واستنارة حتى تنجلي الحقائق، ويبرز زيف الباطل فلعل مطبقي هذا القانون يبصرون النور، فيثوبوا إلى الحق ويسيروا في طريق الهدى، ويدركوا مدى ما كانوا فيه من ضلال ما بعده من ضلال، ومن أحكام للطاغوت ولغير ما أنزل الله، ويرون أن واجبهم حرب هذا القانون واستعاضته بقانون الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
تعريف القانون:
كلمة القانون اصطلاح أجنبي معناه عندهم: الأمر الذي يصدره الحاكم ليسير عليه الناس، وقد عرّف بأنه: ((مجموع القواعد التي يجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم)) وقد أطلق على القانون الأساسي لكل حكومة كلمة الدستور، وأطلق على القانون الناتج من النظام الذي نص عليه الدستور كلمة القانون، وقد عرّف الدستور بأنه "القانون الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبيّن حدود واختصاص كل سلطة فيها" أو "القانون الذي ينظم السلطة العامة أي الحكومة ويحدد علاقتها مع الأفراد، ويبين حقوقها وواجباتهم قِبَلَهم، وحقوقهم وواجباتهم قِبَلَها.
هذه خلاصة الاصطلاحات الذي تعنيه كلمتا دستور وقانون، وهو في خلاصته يعني أن الدولة تأخذ من مصادر متعددة سواء أكانت مصدراً تشريعياً أو مصدراً تاريخياً أحكاماً معينة تتبناها وتأمر بالعمل بها فتصبح هذه الأحكام بعد تبنيها من قِبَل الدولة دستوراً إن كانت من الأحكام العامة، وقانوناً إن كانت من الأحكام الخاصة، ومن الجدير بالذكر أن هناك فرقاً بين الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية، وبين غيرها من الدساتير والقوانين، فإن باقي الدساتير والقوانين مصدرها العادات وأحكام المحاكم الخ، ومنشؤها جمعية تأسيسية تسن الدستور ومجالس منتخبة من الشعب تسن القوانين، لأن الشعب عندهم مصدر السلطات كما أن السيادة للشعب لديهم.
أما الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية فإن مصدرها الكتاب والسنة ومنشؤها اجتهاد المجتهدين حيث الحاكم يتبنى منهما أحكاماً معينة يأمر بها فيلزم الناس العمل بها، لأن السيادة للشرع، والاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية حق لجميع المسلمين، وفرض كفاية عليهم.
1_ نقد كلمة القانون المدني:
إن إطلاق اسم القانون المدني على هذا القانون إطلاق خاطئ لأنه قانون ينظم علاقات الناس، وهو قانون معاملات وليس هناك أي صلة بين لفظ المدني والمعاملات، فوصف القانون بأنه مدني وصف غير منطبق على حقيقته لأن حقيقته أنه ينظم علاقات الناس، وهذه معاملات ولا صلة للقانون بالمدنية مهما أريد بها من معان، فإن أريد بالمدنية الرقي ضدّ التأخر فالقانون يوصف بأنه ينظم العلاقات وبأنه قانون معاملات، وقد يكون راقياً وقد يكون غير راق.
فالقانون الفرنسي الذي وضع في أيام نابليون قد ظهر للفرنسيين فساده وتأخره، ووضع بدله قانون مدني جديد، ومع ذلك لا يزال يسمى القانون المدني، والقانون الروماني ظهر فساد نظرياته ومع ذلك لا يزال يقال عنه القانون المدني، وليس المراد من وصف القانون بالمدني بيان كونه راقياً أو غير راق بل المراد بيان حقيقته بأنه وضع لينظم المعاملات ولذلك لا علاقة مطلقا بين المدنية وبين المعاملات.
وإن أريد بالمدنية النسبة إلى المدينة فالقانون لم يوضع للمدينة فقط، وإنما وضع للمدينة والقرية ومضارب البدو فتخصيصه بالمدنية لا وجه له مطلقاً، وإن أريد بالمدنية الأشكال المادية المحسوسة فهي عاجلية وهي ليست المنظمة للعلاقات، فلا علاقة للقانون بالأشكال والصناعات، وعليه فلا وجه لتسمية القانون بالقانون المدني ولا لوصفه بأنه مدني، بل هو قانون معاملات.
1_ نقد الأصل الفقهي للقوانين المدنية:
"إن القانون المدني من حيث هو لدى جميع التقنينات اللاتينية والجرمانية والمتخيرة يقوم على نظرية الالتزام، ويبنى كله في إجماله وتفصيله عليها، وبما أن هذه النظريات فاسدة من أساسها، لذلك كان القانون المدني كله فاسداً وهاكم البيان:
لقد عرّف القانون المدني بأنه: ((القانون الذي ينظم علاقات الأفراد بعضها ببعض)) وقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات.
فقواعد الأحوال الشخصية هي التي تنظم علاقة الفرد بأسرته، وقواعد المعاملات هي التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال، وعرّف الحق في المعاملات "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون للفرد".
وقسم الحق إلى قسمين رئيسيين حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى "الحق الشخصي" وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى "الحق العيني"، والحق الشخصي في نظرهم رابطة ما بين شخصين دائن ومدين.
والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة، والصلح، والإجارة، والعارية، والوكالة، والوديعة، والرهان والكفالة.
والحق العيني هو ليس علاقة في نظرهم وإنما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وعلى أساسه عولجت المعاملات العينية مثل حق الملكية، وأسباب كسب الملكية، ورهن المنقول، والرهن العقاري، والتأمين على الحياة، وحقوق الامتياز.
هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون المدني،.. وهذا الأساس فاسد من عدّة وجوه!
أ_ إن الحق في المعاملات ليس مصلحة ذات قيمة مالية بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية وقد لا تكون ذات قيمة مالية، فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين:
أحدهما: أنه لا يشمل المصالح ذات القيمة المعنوية مثل الكرامة والشرف لأنه لا قيمة مالية لها، ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية على الإطلاق، ولذلك كانت نظرية التعويض على القذف خاطئة.
وثانيهما: أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير، والحق هو ذاته أساس، ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته، ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.
ب_ إن تقسيم الحق إلى قسمين: حق عيني، وحق شخصي لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي، وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق بين المعاملات التي فرّعوها عليها، فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جعلت الإجارة من الحق الشخصي، وجعل الرهن من الحق العيني على أن التعريف نفسه فرضي وليس حقيقياً.
فحين عرّفوا الحق بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين لم يفهم من هذا التعريف مطلقاً أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء، بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، فالعلاقة ما بين شخصين موجودة في الحق العيني، وحين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل.
حين عرّفوا الحق الشخصي بذلك لم يفهم من هذا التعريف نفي وجود علاقة بين الشخص والشيء، لأن موضوع العلاقة هو الشيء الذي نشأت من أجله الرابطة بين الشخصين، فتكون هناك رابطة بين الشخص والشيء في الحق الشخصي، وهو كالحق العيني عنصر من عناصر الذمة المالية يتصرف فيه صاحبه بالبيع والرهن سواء، ولذلك كان هذا التقسيم غير وارد ومخالفاً للواقع والحقيقة.
الالتزام: إن الحق الشخصي أي الالتزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وقد كانت هذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام تعطي للدائن على جسم المدين لا على ماله، وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي.
فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر، وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حق الإعدام، وحق الاسترقاق، وحق التصرف، ثم ظهر فساد هذه النظرية فلجأوا إلى تخفيف السلطة حتى صارت مقصورة على التنفيذ الذي يقول به القانون المدني وهو حبس المدين مثلا، ثم صار التنفيذ على مال المدين لا على شخصه، بالحجز مثلاً وأصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران: مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم حقاً لذمة الدائن ويترتب في ذمة المدين، وعلى ذلك ظهر فساد نظرية الالتزام ففسرت هذا التفسير حتى تكون لها ناحية شخصية وناحية مالية، فأدى ذلك إلى أن ينشأ اختلاف في الالتزام فنشأ مذهبان: أحدهما يغلب الناحية الشخصية للاحتفاظ بالنظرة الأصلية للقانون الروماني، وهذا ما سارت عليه التقنينات اللاتينية والآخر يغلب الناحية المالية ويجردها من الناحية الشخصية ويتحرر من القانون الروماني، وهذا هو ما سارت عليه التقنينات الجرمانية، وبذلك صارت نظرية الالتزام تفهم فهماً شخصياً عند اللاتينيين، ويترتب على هذا الفهم عدم لحاق المال والاقتصار على الشخص، ولذلك لم يجيزوا حوالة الدين وأخذ بذلك القانون الفرنسي القديم.
وصارت نظرية الالتزام تفهم فهماً مادياً عند الجرمانيين ويترتب على هذا الفهم لحاق المال وليس الشخص، ولذلك أجازوا حوالة الدين فكان في الالتزام مذهبان:
المذهب الشخصي، والمذهب المادي ولكل وجهة نظر تخالف الآخر، فالمذهب الشخصي يرى أن الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ويترتب على هذا أن لا يدخل فيه معاملات كثيرة منها أن لا تدخل فيه الكفالة، ولا يدخل فيه الوعد بجائزة وما شاكل ذلك من المعاملات فيكون مذهباً قاصراً لأنه لا يشتمل المعاملة التي تنشأ من جانب واحد، والمذهب المادي يرى أن العبرة في الالتزام بمحله دون أشخاصه، وأن الرابطة الشخصية ليست هي الأمر الجوهري، ويترتب على هذا أنه يجوز وجود معاملة إذا وجد المال وحده دون شخص، وجعل العلاقة الشخصية غير ضرورية، وهذا لا يجوز إذ لا تتصور أي معاملة تحصل دون وجود شخص آخر حتى الكفالة، والوعد بجائزة، وعقود التأمين لمصلحة الغير والسند لحامله، وكان المذهب الثاني غير واقع هذا بالنسبة لنشوء فكرة الالتزام.
أما بالنسبة لتعريف الالتزام فقد وجدت له عدّة تعاريف وكلّها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، فقد عرّف الالتزام بأنه اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، وهذا يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وهذا التعريف لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق، وعرّف الالتزام بأنه ((حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل)) وهذا التعريف جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرّها القانون، فتعريفه بحالة قانونية يجعله فضفاضاً غير مانع من دخول حالات قانونية لا صلة لها بالالتزام.
هذه خلاصة الالتزام بوجه عام، وهذا كله خطأ محض؛ إذ لا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين ولا يوجد هذه الرابطة مطلقاً، ولا هي رابطة بين شخص ومال أو سلطة لشخص على مال مطلقاً، وإنما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ، وهذه العلاقة يوجدها جلب مصلحة أو رفع مفسدة للإنسان، وينظمها القانون فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال، وعلى ذلك فالالتزام بالمفهوم الذي ذكره القانون المدني غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي، والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية غير موجودة، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة شخصين، وإنما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرّها القانون، وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجازة أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل، وإذا كان الأمر كذلك كان الالتزام بأكمله غير موجود فضلاً عن كونه بالمعنى الذي أوردوه غير صحيح لا فيما ورد بالمذهب الشخصي ولا فيما ورد بالمذهب المادي، ولذلك كان القانون المدني ترتب على الالتزام وبني عليه قانونا غير صحيح.
نظرية الالتزام:
تعتبر نظرية الالتزام أهم النظريات الفقهية في التقنينات الغربية جميعها، والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات جميعها يستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم، وهي في نظرهم أصلح النظريات القانونية ميداناً للتفكير وأفسحها مجالا للتعميم وأخصبها تربة لا نبات القواعد العامة، ويرونها بأنها أولى النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة ولذلك يجعلونها الأصل الذي يتفرع عنه القانون المدني، فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات التي بنيت عليها، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها ولا سيّما القانون عنها ولا سيّما القانون المدني الذي هو في حقيقته نظرية الالتزام وفروعها، والناظر في هذه النظرية يجد أنها كانت منذ عهد الرومان وأن جميع التقنينات نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يذكر، لكن لما بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها وبرز لهم عدم صلاحيتها فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات، وأخذوا يغيرونها زاعمين أنها تتطور.
والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً، وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوربا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام، فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام، فعقد العمل قد أدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب، ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد، ولا يبيح مثل هذه الحقوق.
ونظرية العقد ذاتها كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.
وهذه نظرية الغبن لم تكن موجودة بل لم تكن نظرية الالتزام تجيزها فقد كانت النظريات الفردية تقضي بوجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك، ولما تبين فساد هذه النظريات أدخلت نظرية الغبن على بعض العقود ثم أخذت تتسع حتى أصبحت في القوانين الحديثة نظرية عامة تنطبق على جميع العقود، وهكذا كان لنشوء أفكار عن الحياة تخالف الأفكار القديمة أثر في بيان نظرية الالتزام ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان استعمالها مختلف الآلات الميكانيكية وتقدم الصناعة ووجود حروب عالمية قد أوجد مسائل عملية تبرز فساد نظرية الالتزام إذ إن استعمال الآلات اقترن بمخاطر جمة يستهدف لها الناس ولم تكن نظرية الالتزام تجعل المسؤولية إلا على الشخص، فظهر عدم صلاحيتها ووضعت المسؤولية على الخطأ المفروض، وصار إلحاق أي أذى في العامل يلزم صاحب العمل بالتعويض وهذا لا تقتضي به نظرية الالتزام، وصار عقد التأمين لا يقتصر على الشخص بل يشمل الغير فوجدت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير، كما إذا أمّن شخص على حياته لمصلحة أولاده سواء أكان له أولاد وقت التأمين أم لم يكن له أولاد حين التأمين، وهذا يخالف نظرية الالتزام بأنها رابطة بين شخصين، والأولاد الذين لم يوجدوا لا يدخلون في هذه الرابطة مع أن العقد أصبح يدخلهم، وعلاوة على ذلك فإن نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها، وفي التسعير الجبري للسلع والتقدير الجبري للأجر، وفي عقود التزام المرافق العامة ما يناقض نظرية الالتزام ومع ذلك أدخلت في القوانين الحديثة وهي تدل على فساد نظرية الالتزام وعدم صلاحها، وزيادة على ذلك فإن النظرية التي تقضي بأن الغش يفسد العقد، والقاعدة القائلة بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب، والنظام العام والالتزام بوجوب الامتناع عن الإضرار بالغير دون حق والإثراء بلا سبب الذي يمنع الشخص أن ينتفع على حساب غيره، كل ذلك يخالف نظرية الالتزام ويدل على فسادها لأنها تقييد وليس حرية، وهي تناقض الحق الشخصي وتهدمه على اعتبار أنه حق مطلق غير مقيد على أن الالتزام من حيث هو باعتباره الحق الشخصي، وباعتباره الحق العيني يقوم على رابطة قانونية بين الدائن والمدين توجب على الشخص أن ينقل حقا، وهذا يعني عدم اشتراط الرضا بالحوالة دون رضا المحال عليه بحوالة الحق، وعدم اشتراط رضا الدائن بحوالة الدين، لأن الحالة القانونية في الالتزام تلزم الشخص بنقل الحق عيناً أو ديناً، وهذا لا يضمن تحقيق العدل ولذلك ظهر فساده، فمجرد تبليغ المحال عليه لا يكفي بل لابد من قبوله لأن العقد في الحوالة _ كما في غيرها _ يجب أن تكون برضا أطراف العقد.
هذا إجمال في نظرية الالتزام، ومنه يتبين أنها لا تصلح ميداناً للتفكير لأن كثيراً من أنواع العلاقات بين بني الإنسان لا يمكن استنباطها منها بل على العكس هي تمنع استنباطها مثل كون الغش يفسد العقد وهي لا تصلح لأن تكون مجالاً للتعميم لأن المسؤولية على الخطأ المفروض وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير والإرادة المنفردة وما شابه ذلك لا يمكن أن تشملها لا بمنطوق ولا بمفهوم، ولذلك فهي قاصرة وهي لا تصلح لا نبات قواعد عامة بدليل وجود نظريات وقواعد عامة تناقضها مثل قاعدة عدم جواز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، ومثل نظرية الغبن في العقود وليس فيها قابلية للتوحيد في شرائع الأمم بدليل ظهور قصورها وعجزها حين ظهرت النظريات الاشتراكية، رغم كونها فاسدة، وحين تقدمت الصناعة وهي من أساسها خاطئة لأنها تقوم على حرية الملكية والحرية الشخصية، وهذه الحرية للشخص وفي الملك هي التي تسبب الفساد بين الناس وهي التي تمكن من الاستقلال والاستعمار لأن إعطاء الحرية في التملك وإعطاء الحرية الشخصية يحميه القانون حين بني على نظرية الالتزام وفي ذلك الفساد والشقاء.
والذي يبرز فساد نظرية الالتزام أيضاً تعريف مصدر الالتزام وترتيب مصادر الالتزام التي ذكرتها التقنينات القديمة والحديثة كما سنرى في الحلقة المقبلة من هذا الموضوع بمشيئة الله تعالى ذلك جليا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب