نقل وزراعة الأعضاء البشرية
مصدرها: مركز
الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء
التاريخ: 20/5/2007
إن شريعة الإسلام مبناها
وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فلقد جاءت لتحفظ على الناس
أنفسهم، وعقولهم، ودينهم، وأعراضهم، وأموالهم، فهذه الأمور الخمسة هي مقاصد الشرع
الكليّة، أو الضروريات المراعاة في كل ملة.
وحفظ النَّفس من أهم هذه
المقاصد بل هو أوَّلها؛ فقد نهى الشرع الإنسان عن إلحاق الضرر بنفسه بأي شكل من
الأشكال، وأمره باتخاذ كل الوسائل التي تحافظ على ذاته وحياته وصحته، وتمنع عنها
الأذى والضرر، فأمره بالبُعد عن المحرَّمات والمفسدات والمهلكات، وأرشده للتداوي عند
المرض باتخاذ كل سبل العلاج والشفاء.
ومن الوسائل الطبية
المستحدثة التي ثبت جدواها العلاجية والتي تحقق هذا المقصد: "نقلُ وزراعة
الأعضاء البشرية".
والمقصود بالعضو
هو:
أيُّ جزء من الإنسان، بما يعم الأنسجة والخلايا والدماء.
وعملية زراعة العضو تبدأ بأخذ
العضو المراد زراعته من صاحبه الأصلي (المنقول منه)، ثم استئصال نظيره إن لزم الاستئصال؛ لإحلال العضو
الجديد محله، ثم وضع العضو المنقول في موضعه المهيأ له في جسد الشخص المنقول إليه.
وقد قمنا
بتفصيل الكلام فيما يتعلق بهذه المسألة من الناحية الشرعية، في أربعة أبواب كما
يلي:
الباب الأول: في نقل
الأعضاء من آدمي حيّ وزراعتها في آدمي مثله.
الباب الثاني: في نقل
الأعضاء من الآدمي الميت وزراعتها في الحي.
الباب الثالث: في بيان
أدلة المانعين ومناقشتها.
الباب الرابع: في مسائل
متفرقة.
الباب الأول
في نقل
الأعضاء من آدمي حيّ وزراعتها في آدمي مثله
الفصل الأول
في
نقل العضو من مكان في الجسدإلى مكان آخر في الجسد نفسه
الصورة الأولى من صور نقل
الأعضاء من إنسان حيّ إلى إنسان حيّ، هي نقل عضو من جسد الإنسان إلى ذات الجسد في موضع
آخر. ولا تخلو الحاجة الداعية إليه
من أن تكون إما ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية.
فالذي يقع في رتبة الضرورات
هو ما تعلق بحفظ أحد المقاصد الشرعية الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل،
والعرض، والمال. والذي يقع في رتبة الحاجيات هو: ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع
الضيق المؤدي غالبًا إلى الحرج والمشقة اللاحقة بالمكلف بفوت المطلوب، والتحسيني
هو: كل ما قصر عن رتبة الضرورات أو الحاجيات.
ومن أمثلة الحاجة الداعية
التي تصل إلى مرتبة الضروريات: ما يجري في جراحات القلب والأوعية الدموية، حيث يحتاج الطبيب إلى
استخدام طعم وريدي أو شرياني ([1]) لعلاج انسداد أو تمزق في الشرايين أو الأوردة، ويكون
إنقاذ المريض من الهلاك بسبب هذا الانسداد أو التمزق متوقفًا على زرع هذا الطعم
المأخوذ من جسم المصاب نفسه ([2]).
ومن أمثلة الحاجة الداعية
التي تصل إلى مرتبة الحاجيات: ما يجري في جراحة الجلد المحترق، حيث يحتاج الطبيب إلى أخذ قطعة سليمة
من جلد المصاب نفسه وزرعها بدلا من الجزء المصاب.
ومن أمثلة الحاجة الداعية
التي هي من قبيل التحسينيات: ما يحدث في عمليات زراعة الشعر التي تعتمد على نقل
الشعر من منطقة مشعرة إلى منطقة صلعاء، فتؤخذ شريحة جلدية من مؤخرة فروة الرأس
بعدها يتم غلق الجرح تماماً بحيث لا يكون هناك أثر مكانه، ثم يتم تقطيع هذه الشريحة إلى
شعيرات رفيعة يتم وضعها على أبر خاصة، وزرعها فى المناطق
الصلعاء.
والحالتان الأوليان جائزتان
طالما غلب على ظن الطبيب أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها.
والحكم بجواز هاتين الصورتين
مبني على القياس؛ لأنه إذا جاز قطع العضو وبتره لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها، فلأن
يجوز أخذ جزء منه ونقله لموضع آخر لإنقاذ النفس أو دفع الضرر الحاجي فيها أولى
وأحرى.
ووجه ذلك: أن الأصل جازت
فيه الإزالة والبتر للعضو دون استبقاء له طلبًا لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها،
والفرع يزال فيه جزء من العضو مع استبقاء العضو والجزء المزال في موضع آخر، إضافة إلى
أن الموضع المنقول قد يتعوض ويتجدد كما في صورة أخذ الجلد السليم لترقيع
المحترق، فيكون هنا أولى بالاعتبار والحكم بالجواز من الأصل.
وهذا النوع من الجراحة
يعتبر مخرَّجًا على قول الفقهاء بجواز بتر الأعضاء المحتاج لبترها ([3]).
أما الحالة الثالثة الخاصة
بالجراحة التحسينية فيختلف الحكم فيها باختلاف صورها، فمتى ما كان ثم احتياج لها،
ورجحت المصالح الحاصلة بها على المفاسد، وانتفى العبث بإجرائها كان القول بالجواز وجيهًا، والله أعلم.
الفصل الثاني
في نقل
العضو من جسد إلى جسد آخر
الصورة الثانية من صور نقل
الأعضاء من الحيّ إلى الحيّ، هي نقل العضو من جسد إنسان إلى جسد إنسان آخر، والعضو
المراد نقله إما أن يكون عضوًا فرديًّا، بمعنى أن لا بديل له يقوم بوظيفته، أو يكون
على خلاف ذلك، وهذا العضو إما أن يكون قد بذل نظير عوض بالبيع، أو تم بذله على وجه الهبة والتبرع،
وفيما يلي تفصيل الكلام في ذلك.
المبحث الأول
في نقل
الأعضاء الفردية
الأعضاء الفردية هي الأعضاء
التي لا يوجد لها بديل يقوم بوظيفتها ويؤدي نقلها إلى وفاة صاحبها، كالقلب أو
الكبد مثلا، فهذه الأعضاء يحرم على الإنسان بذلها لغيره أو أخذها من غيره من الناس سواء
كان ذلك على وجه البيع أو على وجه الهبة والتبرع، وكذلك يحرم على الطبيب الإعانة
على نقلها وزرعها؛ وذلك لما يترتب عليه من موت الشخص المنقول منه، وقد قال تعالى:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقال تعالى أيضًا: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقال تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} [المائدة :2].
فالآية الأولى دلت على حرمة
تعاطي الإنسان ما يوجب هلاكه، والآية الثانية دلت على حرمة قتل الإنسان نفسه، والتبرع
بأحد الأعضاء الفردية المذكورة مفض إلي هلاك النفس وقتلها، فكان محرمًا، وإذا ثبت
التحريم في التصرف بالهبة
فلأن يحرم في التصرف بالبيع
أولى؛ فالبيه والهبة يشتركان في ترتب التمليك عليهما والبيع يزيد على الهبة
بوجود الثمن في المقابل.
أما الآية الثالثة فيؤخذ
منها تحريم مشاركة الطبيب في إجراء عملية النقل أو الزرع؛ لأنه يكون بهذا معينًا على
معصية وإثم، والتعاون على الإثم منهي عنه بنص الآية.
ومن القواعد الشرعية
المقررة أن الضرر لا يزال بالضرر ([4])، فلا يجوز أن نزيل الضرر عن صاحب العضو التالف،
بأن نتلف على إنسان آخر عضوه ونفوته عليه، وليست مهجة الأول بأولى في الحفاظ عليها
من مهجة الثاني وحياته، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
في نقل
الأعضاء غير الفردية
الأعضاء غير الفردية، هي التي
يوجد لها بديل يقوم بوظيفتها، ولا يؤدي نقلها إلى الوفاة غالبًا، ويتحقق ذلك في الأعضاء الشفعية كالكلية
أو المتجددة كالجلد والدم، وبذل هذه الأعضاء يتصور أن يكون عن طريق البيع أو عن
طريق الهبة، وفيما يلي تفصيل ذلك.
المطلب الأول
في
نقل الأعضاء غير الفرديةبيعًا
لا يجوز التصرف في الإنسان
المكرم عند الله، ببيعه، أو بيع أي عضو منه، ولا ينفذ ذلك البيع، بل هو
باطل.
ودليل التحريم ما رواه
البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى:
" ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل
استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره" ([5]).
فهذا الحديث دال على حرمة
بيع الحر -ونقل ابن المنذر الإجماع عليه ([6])- وكذلك على حرمة بيع أجزائه؛ أما بيع
ذات
الحر فحرمته ثابتة بمنطوق الحديث، وأما بيع أجزائه فلأن سبب
الحرمة في الحديث هو الحرية، والقاعدة أن تعليق الحكم بالمشتق مُؤذِنٌ
بعليّة ما منه أصل الاشتقاق، وكل جزء من أجزاء الآدمي الحر يثبت له أيضًا حكم الحرية
الثابت للذات ككل، بدليل العبد الذي يشترك في ملكه اثنان إذا اعتق أحدهما نصيبه،
صار ذلك العبد مُبَعَّضًا، يعني أن بعضه رقيق، وبعضه حر، فدل ذلك على أن الحرية
تتبعض، وأنها تثبت لكل جزء جزء من الإنسان.
أما كون البيع باطلا؛ فلأن
ذات الحر أو أعضاءه ليست محلا قابلا للتعاقد، فمن شروط صحة عقد البيع -بالإجماع-
أن يكون محله قابلا للتعاقد، وذلك بأن يكون: مالا متقومًا مملوكًا يجوز الانتفاع
به. والأدمي ليس بمال متقوم فلا يجوز بيعه، ولا بيع شيء من أعضائه، وبيان ذلك: أن
المال مخلوق لإقامة مصالحنا به, أما الآدمي فقد خلق مالكًا للمال، وبين كونه مالا
وبين كونه مالكًا للمال منافاة، وإليه أشار الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: 29].
ومما يشهد لهذا في فروع
الفقه، ما جاء في مذهب الحنفية من قولهم بحرمة بيع لبن الآدمية معللين ذلك بأنه ليس
مالا متقومًا ([7]).
فإن منع مانع قولنا بعدم
مالية الآدمي بأن الشرع يلزم المعتدي بالدية، وهذا يدل أن لجسم الإنسان قيمة مالية
يضمنها متلفه. فجوابه: أن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي، هو المثلية الكاملة،
وذلك يتمثل في القصاص، أما الدية فليست بمثل، قال السرخسي: "لأن
المماثلة بين الشيئين تعرف صورة أو معنى , ولا مماثلة بين المال , والآدمي صورة , ولا معنى"
اهـ ([8])، فالدية إذ تجب في الخطأ، وفي العمد بعد سقوط القصاص، إنما تجب صيانة للدم
عن الهدر واحترامًا للإنسان ([9])، والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني
في نقل
الأعضاء غير الفرديةهبة
يجوز شرعًا نقل وزرع
الأعضاء غير الفردية من الآدمي الحي إلى مثله عن طريق الهبة والتبرع مع مراعاة الضوابط
الآتية:
1- قيام حالة الضرورة أو
الحاجة الشرعية التي يكون فيها الزرع هو الوسيلة المتعينة للعلاج، وتقدير
التعين مرده إلى الأطباء.
2- موافقة المنقول منه مع
كونه بالغًا عاقلا مختارًا.
3- أن يكون هذا النقل
محققًا لمصلحة مؤكدة للمنقول إليه من الوجهة الطبية، ويمنع عنه ضررًا مؤكدًا
يحل به إذا استمر حاله دون نقل.
4- ألا يؤدى نقل العضو إلى
ضرر محقق بالمنقول منه يضر به كليًّا أو جزئيًّا، أو يؤثر عليه سلبًا
في الحال أو في المآل بطريق مؤكد من الناحية الطبية؛ لأن مصلحة المنقول إليه ليست
بأولى شرعًا من مصلحة المنقول منه؛ والضرر لا يزال بالضرر، ولا ضرر ولا ضرار في
الإسلام، ويكفى في ذلك المصلحة الغالبة الراجحة. والضرر القليل المحتمل عادة
وعرفًا وشرعًا لا يمنع هذا الجواز في الترخيص إذا تم العلم به مسبقًا وأمكن تحمله أو
الوقاية منه ماديًا ومعنويًا بالنسبة للمنقول منه، والذي يحدد ذلك هم أهل الخبرة الطبية العدول.
5- صدور إقرار كتابي من
اللجنة الطبية قبل النقل بالعلم بهذه الضوابط وإعطائه لذوي الشأن من
الطرفين -المنقول منه العضو والمنقول إليه- قبل إجراء العملية الطبية، على أن تكون
هذه اللجنة متخصصة ولا تقل عن ثلاثة أطباء عدول وليس لأحد منهم مصلحة في عملية
النقل.
6- يشترط ألا يكون العضو
المنقول مؤديًا إلى اختلاط الأنساب بأي حال من الأحوال.
أما دليل القول بجواز أخذ
العضو من الغير على الوجه الذي قررناه فهو قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْـمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ }[البقرة: 173]، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ
ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[المائدة: 3]، وقوله
تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ}[الأنعام: 118، 119]، ووجه الدلالة من هذه الآيات الكريمة أنها اتفقت على
استثناء حالة الضرورة من التحريم المنصوص عليه فيها، والإنسان المريض إذا احتاج
إلى نقل العضو فإنه سيكون في حكم المضطر؛ لأن حياته مهددة بالموت كما في حالة
الفشل الكلوي، وتلف القلب ونحوهما من الأعضاء المهمة في جسد الإنسان.
فإذا كان الأمر كذلك فإنه
يدخل في عموم الاستثناء المذكور فيباح نقل ذلك العضو إليه ([10]).
وأما دليل جواز بذل الإنسان
عضوه لمن احتاجه فقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا﴾[المائدة: 32]، فالآية تشمل إنقاذ من تهلكة، ويدخل فيه
من تبرع لأخيه بعضو من أعضائه لكي ينقذه من الهلاك ([11])، لأنه يصدق
عليه حينئذ أنه أحيى نفس أخيه.
وكذلك فقد مدح الله تعالى من
آثر أخاه على نفسه بطعام أو شراب أو مال؛ فقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر: 9]، فإذا كان ذلك في هذه
الأمور اليسيرة، فمن آثر أخاه بعضوه
أو جزئه لكي ينقذه من الهلاك المحقق لا شك أنه أولى وأحرى بالمدح والثناء، ومن ثم يعتبر
فعله مشروعًا ممدوحًا ([12]).
وقواعد الشرع الكلية لا تأبى
ذلك؛ فما قررناه من الجواز يتفق مع قاعدة الضرر يزال، وقاعدة الضرورات تبيح
المحظورات، وقاعدة إذا ضاق الأمر اتسع([13])؛ فالشخص المريض متضرر بتلف العضو المصاب أو
عدمه، كما أن مقامه يعتبر مقام اضطرار، وفيه ضيق ومشقة؛ إذ يصل به الحال إلى درجة
خوف الهلاك والموت كما في حالة الفشل الكلوي مثلا ([14]).
وقد أجاز الشرع التداوي
بلبس الحرير لمن به حكة، وأجاز التداوي باستعمال الذهب لمن احتاج إليه، فيقاس
التداوي بنقل الأعضاء الآدمية على ذلك بجامع وجود الحاجة الداعية إلى ذلك في كلٍّ ([15]).
وذلك هو ما يقتضيه ميزان
الترجيح بين المفاسد؛ حيث يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف، ويختار أهون الشرين
([16])، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ([17]). ففي
مسألتنا هذه قد وقع التعارض بين مفسدة أخذ العضو الحي وحصول بعض الألم له، وبين مفسدة هلاك
الحي المتبرع له، ولا شك أن مفسدة هلاك الحي المتبرع له المريض أعظم من المفسدة
الواقعة على الشخص المتبرع الحي، فتقدم حينئذٍ؛ لأنها أعظم ضررًا وأشد خطرًا ([18]).
الباب الثاني
في نقل
الأعضاء من الآدمي الميت وزراعتها في الحي
الصورة الثانية من صور نقل
الأعضاء هي أن يكون المنقول منه آدميٌ ميت، والمنقول إليه حي، فلا يجوز بذل عضو
الميت المراد نقله نظير عوض بالبيع؛ لأن البيع فرع الملك، وجسد الميت ليس ملكًا لأحد
حتى يجوز بيعه.
أما بذل عضو الميت على وجه
الإذن، فهو مشروط بقيام حالة الضرورة أو الحاجة الشرعيتين بحيث يسوغ الانتقال من
أصل الحظر والمنع إلى الإجازة استثناء؛ دفعًا لأعظم الضررين ودرئًا لأكبر
المفسدتين، فكرامة أجزاء الميت لا تمنع من انتفاع الحي بها؛ تقديمًا للأهم على المهم،
والضرورات تبيح المحظورات، وقد قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا
عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام: 145].
والإذن يتصور صدوره من الميت
قبل وفاته بأن يوصي بذلك، أو يصدر من أهله وأوليائه بعد موته، وليس اعتبار وصية
المتوفى أو إذن أوليائه إلا مسألة تنظيمية، فمدار جواز الاستفادة
بأعضاء الميت هو قيام حالة الضرورة الشرعية المبيحة للمحظور، ولكن حتى لا يترك
الأمر بلا ضابط أو رابط ويخضع لتحكمات بعض الأطباء، قلنا بلزوم وجود الوصية قبل
الوفاة أو إذن الأولياء بعد الوفاة من باب السياسة الشرعية بما يحقق المصالح ويدفع
المفاسد.
وجاء في
فروع الفقه القديم ما يؤيد القول بالجواز منه كلامهم في باب الجنائز عن شق بطن من
ماتت حاملا وجنينها حي يضطرب في بطنها، وما إذا مات الجنين في بطن أمه، وهي ما زالت
حية، وعن شق بطن الميت لاستخراج ما كان قد ابتلعه من مال قبل وفاته.
وفى هذا
يقول فقهاء الحنفية: " حامل ماتت وولدها حي يضطرب، شق بطنها من الجانب الأيسر،
ويخرج ولدها، ولو بالعكس - بأن مات الولد في بطن أمه وهى حية - وخيف على الأم قطع
وأخرج، ولو بلع مال غيره - أي ليس مملوكًا له - ومات - وليس في تركته ما يضمنه -
هل يشق ؟ قولان: والأولى نعم؛ لأنه وإن كان حرمة الآدمي أعلى من صيانة المال لكنه
أزال احترامه بتعديه" ([19]).
وفى فقه
المالكية أنه يشق بطن الميت لاستخراج المال الذي ابتلعه حيًا، سواء كان
المال له أو لغيره، ولا يشق لإخراج جنين وإن كانت حياته مرجوة.
ففي مختصر
خليل وشرحه للشيخ عليش: " (وبُقِر) بضم الموحدة, وكسر القاف أي
شق بطن الميت (عن مال)
ابتلعه في حياته ومات, وهو في بطنه سواء كان له أو لغيره.
و(لا) تبقر بطن ميتة عن
(جنين) حي رجي لإخراجه; لأن سلامته مشكوكة فلا تنتهك حرمتها له والمال محقق الخروج
" ([20]).
وفى فقه
الشافعية أنه إن ماتت امرأة وفى جوفها جنين حي، شق بطنها؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من
الميت، فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، وهذا إذا رجي حياة الجنين بعد إخراجه،
أما إذا لم ترج حياته، فلا تشق بطنها ولكن لا تدفن حتى يموت.
ففي حاشية
البجيرمي على شرح المنهج: " وحَرُم نبش القبر قبل البلاء - بكسر
الباء مع القصر وبفتحها مع المد - عند أهل الخبرة بتلك
الأرض بعد دفنه لنقل وغيره إلا لضرورة كدفن بلا طهر، وكما لو دفنت امرأة حامل بجنين
ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر، فيشق جوفها ويخرج؛ إذ شقه لازم قبل
دفنها أيضًا، فإن لم ترج حياته فلا، لكن يترك دفنها إلى موته ثم تدفن، وما قيل من أنه
يوضع على بطنها شيء ليموت غلط فاحش فليحذر" ([21]).
وعن ابتلاع الميت
المال قالوا: إن بلع الميت جوهرة لغيره، وطالب بها صاحبها، شق جوفه وردت
الجوهرة، إلا إذا ضمنها أحد الورثة، وإن كانت الجوهرة له فلا يشق؛ لأنه استهلكها في
حياته، فلم يتعلق بها حق الورثة.
ففي حاشية
الجمل على شرح المنهج: " ولو بلع مالا لنفسه ومات لم ينبش؛
لاستهلاكه له حال حياته، أو مال غيره وطلبه مالكه نبش وشق جوفه
وأخرج منه ورد لصاحبه, ولو ضمنه الورثة كما نقله في المجموع عن إطلاق الأصحاب
رادًا به على ما في العدة من أن الورثة إذا ضمنوا لم يشق، ويؤيده ما اقتضاه
كلامها من أنه يشق حيث لا ضمان وله تركة، أي أنه إذا شق جوفه مع وجود التركة فكذلك
يشق مع ضمان الورثة، والمعتمد ما في العدة، فمتى ضمنه أحد من الورثة أو غيرهم حرم
نبشه وشق جوفه؛ لقيام بدله مقامه، وصونًا للميت من انتهاك حرمته، ويجاب عما في
المجموع بأنه لا تأييد; لأن الضمان أثبت من التركة بدليل أنها معرضة للتلف بخلاف
مـا فـي الذمة الحاصل بالضمان " ([22]).
ويقول فقه
الحنابلة: إن الميت إذا كان قد بلع مالا حال حياته، فإن كان مملوكًا
له لم يشق؛ لأنه استهلكه في حياته إذا كان يسيرًا، وإن
كثرت قيمته شق بطنه واستخرج المال حفظًا له من الضياع ولنفع الورثة الذين تعلق بهم حقهم
بمرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذن مالكه فهو كحكم ماله، لأن صاحبه أذن في
إتلافه، وإن بلعه غصبا ففيه وجهان أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من تركته، والثاني
يشق إن كان كثيرا لأنه فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء
ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم.
ففي الإقناع
وشرحه للبهوتي: " (وإن وقع في القبر ما له قيمة عرفًا, أو رماه ربه
فيه نبش) القبر (وأخذ) ذلك منه لما روي " أن
المغيرة بن شعبة وضع خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: خاتمي فدخل وأخذه
وكان يقول: أنا أقربكم عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أحمد: إذا نسي
الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش أهـ؛ ولتعلق حق ربه بعينه , مع عدم الضرر في
أخذه. (أو بلع مال غيره بغير إذنه وتبقى ماليته, كخاتم, طلبه ربه لم ينبش وغرم
ذلك من تركته) صونًا لحرمته مع عدم الضرر (فإن تعذر الغرم) أي: المال الذي بلعه
الميت (لعدم تركة ونحوه نبش) القبر (وشق جوفه, وأخذ المال) فدفع لربه (إن لم يبذل
له قيمته) أي: إن لم يتبرع وارث أو غيره ببذل قيمة الكفن أو المال لربه وإلا فلا
ينبش لما سبق (وإن بلعه) أي: مال الغير (بإذن ربه أخذ إذا بلي) الميت, لأن مالكه
هو المسلط له على ماله بالإذن له. (ولا يعرض له) أي: للميت (قبله) أي: قبل أن يبلى
لما تقدم (ولا يضمنه) أي: المال الذي بلعه بإذن ربه فلا طلب لربه على تركته
لأنه الذي سلطه عليه. (وإن بلع مال نفسه, لم ينبش قبل أن يبلى) لأن ذلك استهلاك
لمال نفسه في حياته أشبه ما لو أتلفه (إلا أن يكون عليه دين) فينبش ويشق جوفه فيخرج
ويوفي دينه , لما في ذلك من المبادرة إلى تبرئة ذمته من الدين " ([23]).
مصدرها: مركز
الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء
التاريخ: 20/5/2007
إن شريعة الإسلام مبناها
وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فلقد جاءت لتحفظ على الناس
أنفسهم، وعقولهم، ودينهم، وأعراضهم، وأموالهم، فهذه الأمور الخمسة هي مقاصد الشرع
الكليّة، أو الضروريات المراعاة في كل ملة.
وحفظ النَّفس من أهم هذه
المقاصد بل هو أوَّلها؛ فقد نهى الشرع الإنسان عن إلحاق الضرر بنفسه بأي شكل من
الأشكال، وأمره باتخاذ كل الوسائل التي تحافظ على ذاته وحياته وصحته، وتمنع عنها
الأذى والضرر، فأمره بالبُعد عن المحرَّمات والمفسدات والمهلكات، وأرشده للتداوي عند
المرض باتخاذ كل سبل العلاج والشفاء.
ومن الوسائل الطبية
المستحدثة التي ثبت جدواها العلاجية والتي تحقق هذا المقصد: "نقلُ وزراعة
الأعضاء البشرية".
والمقصود بالعضو
هو:
أيُّ جزء من الإنسان، بما يعم الأنسجة والخلايا والدماء.
وعملية زراعة العضو تبدأ بأخذ
العضو المراد زراعته من صاحبه الأصلي (المنقول منه)، ثم استئصال نظيره إن لزم الاستئصال؛ لإحلال العضو
الجديد محله، ثم وضع العضو المنقول في موضعه المهيأ له في جسد الشخص المنقول إليه.
وقد قمنا
بتفصيل الكلام فيما يتعلق بهذه المسألة من الناحية الشرعية، في أربعة أبواب كما
يلي:
الباب الأول: في نقل
الأعضاء من آدمي حيّ وزراعتها في آدمي مثله.
الباب الثاني: في نقل
الأعضاء من الآدمي الميت وزراعتها في الحي.
الباب الثالث: في بيان
أدلة المانعين ومناقشتها.
الباب الرابع: في مسائل
متفرقة.
الباب الأول
في نقل
الأعضاء من آدمي حيّ وزراعتها في آدمي مثله
الفصل الأول
في
نقل العضو من مكان في الجسدإلى مكان آخر في الجسد نفسه
الصورة الأولى من صور نقل
الأعضاء من إنسان حيّ إلى إنسان حيّ، هي نقل عضو من جسد الإنسان إلى ذات الجسد في موضع
آخر. ولا تخلو الحاجة الداعية إليه
من أن تكون إما ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية.
فالذي يقع في رتبة الضرورات
هو ما تعلق بحفظ أحد المقاصد الشرعية الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل،
والعرض، والمال. والذي يقع في رتبة الحاجيات هو: ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع
الضيق المؤدي غالبًا إلى الحرج والمشقة اللاحقة بالمكلف بفوت المطلوب، والتحسيني
هو: كل ما قصر عن رتبة الضرورات أو الحاجيات.
ومن أمثلة الحاجة الداعية
التي تصل إلى مرتبة الضروريات: ما يجري في جراحات القلب والأوعية الدموية، حيث يحتاج الطبيب إلى
استخدام طعم وريدي أو شرياني ([1]) لعلاج انسداد أو تمزق في الشرايين أو الأوردة، ويكون
إنقاذ المريض من الهلاك بسبب هذا الانسداد أو التمزق متوقفًا على زرع هذا الطعم
المأخوذ من جسم المصاب نفسه ([2]).
ومن أمثلة الحاجة الداعية
التي تصل إلى مرتبة الحاجيات: ما يجري في جراحة الجلد المحترق، حيث يحتاج الطبيب إلى أخذ قطعة سليمة
من جلد المصاب نفسه وزرعها بدلا من الجزء المصاب.
ومن أمثلة الحاجة الداعية
التي هي من قبيل التحسينيات: ما يحدث في عمليات زراعة الشعر التي تعتمد على نقل
الشعر من منطقة مشعرة إلى منطقة صلعاء، فتؤخذ شريحة جلدية من مؤخرة فروة الرأس
بعدها يتم غلق الجرح تماماً بحيث لا يكون هناك أثر مكانه، ثم يتم تقطيع هذه الشريحة إلى
شعيرات رفيعة يتم وضعها على أبر خاصة، وزرعها فى المناطق
الصلعاء.
والحالتان الأوليان جائزتان
طالما غلب على ظن الطبيب أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها.
والحكم بجواز هاتين الصورتين
مبني على القياس؛ لأنه إذا جاز قطع العضو وبتره لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها، فلأن
يجوز أخذ جزء منه ونقله لموضع آخر لإنقاذ النفس أو دفع الضرر الحاجي فيها أولى
وأحرى.
ووجه ذلك: أن الأصل جازت
فيه الإزالة والبتر للعضو دون استبقاء له طلبًا لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها،
والفرع يزال فيه جزء من العضو مع استبقاء العضو والجزء المزال في موضع آخر، إضافة إلى
أن الموضع المنقول قد يتعوض ويتجدد كما في صورة أخذ الجلد السليم لترقيع
المحترق، فيكون هنا أولى بالاعتبار والحكم بالجواز من الأصل.
وهذا النوع من الجراحة
يعتبر مخرَّجًا على قول الفقهاء بجواز بتر الأعضاء المحتاج لبترها ([3]).
أما الحالة الثالثة الخاصة
بالجراحة التحسينية فيختلف الحكم فيها باختلاف صورها، فمتى ما كان ثم احتياج لها،
ورجحت المصالح الحاصلة بها على المفاسد، وانتفى العبث بإجرائها كان القول بالجواز وجيهًا، والله أعلم.
الفصل الثاني
في نقل
العضو من جسد إلى جسد آخر
الصورة الثانية من صور نقل
الأعضاء من الحيّ إلى الحيّ، هي نقل العضو من جسد إنسان إلى جسد إنسان آخر، والعضو
المراد نقله إما أن يكون عضوًا فرديًّا، بمعنى أن لا بديل له يقوم بوظيفته، أو يكون
على خلاف ذلك، وهذا العضو إما أن يكون قد بذل نظير عوض بالبيع، أو تم بذله على وجه الهبة والتبرع،
وفيما يلي تفصيل الكلام في ذلك.
المبحث الأول
في نقل
الأعضاء الفردية
الأعضاء الفردية هي الأعضاء
التي لا يوجد لها بديل يقوم بوظيفتها ويؤدي نقلها إلى وفاة صاحبها، كالقلب أو
الكبد مثلا، فهذه الأعضاء يحرم على الإنسان بذلها لغيره أو أخذها من غيره من الناس سواء
كان ذلك على وجه البيع أو على وجه الهبة والتبرع، وكذلك يحرم على الطبيب الإعانة
على نقلها وزرعها؛ وذلك لما يترتب عليه من موت الشخص المنقول منه، وقد قال تعالى:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقال تعالى أيضًا: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقال تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} [المائدة :2].
فالآية الأولى دلت على حرمة
تعاطي الإنسان ما يوجب هلاكه، والآية الثانية دلت على حرمة قتل الإنسان نفسه، والتبرع
بأحد الأعضاء الفردية المذكورة مفض إلي هلاك النفس وقتلها، فكان محرمًا، وإذا ثبت
التحريم في التصرف بالهبة
فلأن يحرم في التصرف بالبيع
أولى؛ فالبيه والهبة يشتركان في ترتب التمليك عليهما والبيع يزيد على الهبة
بوجود الثمن في المقابل.
أما الآية الثالثة فيؤخذ
منها تحريم مشاركة الطبيب في إجراء عملية النقل أو الزرع؛ لأنه يكون بهذا معينًا على
معصية وإثم، والتعاون على الإثم منهي عنه بنص الآية.
ومن القواعد الشرعية
المقررة أن الضرر لا يزال بالضرر ([4])، فلا يجوز أن نزيل الضرر عن صاحب العضو التالف،
بأن نتلف على إنسان آخر عضوه ونفوته عليه، وليست مهجة الأول بأولى في الحفاظ عليها
من مهجة الثاني وحياته، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
في نقل
الأعضاء غير الفردية
الأعضاء غير الفردية، هي التي
يوجد لها بديل يقوم بوظيفتها، ولا يؤدي نقلها إلى الوفاة غالبًا، ويتحقق ذلك في الأعضاء الشفعية كالكلية
أو المتجددة كالجلد والدم، وبذل هذه الأعضاء يتصور أن يكون عن طريق البيع أو عن
طريق الهبة، وفيما يلي تفصيل ذلك.
المطلب الأول
في
نقل الأعضاء غير الفرديةبيعًا
لا يجوز التصرف في الإنسان
المكرم عند الله، ببيعه، أو بيع أي عضو منه، ولا ينفذ ذلك البيع، بل هو
باطل.
ودليل التحريم ما رواه
البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى:
" ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل
استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره" ([5]).
فهذا الحديث دال على حرمة
بيع الحر -ونقل ابن المنذر الإجماع عليه ([6])- وكذلك على حرمة بيع أجزائه؛ أما بيع
ذات
الحر فحرمته ثابتة بمنطوق الحديث، وأما بيع أجزائه فلأن سبب
الحرمة في الحديث هو الحرية، والقاعدة أن تعليق الحكم بالمشتق مُؤذِنٌ
بعليّة ما منه أصل الاشتقاق، وكل جزء من أجزاء الآدمي الحر يثبت له أيضًا حكم الحرية
الثابت للذات ككل، بدليل العبد الذي يشترك في ملكه اثنان إذا اعتق أحدهما نصيبه،
صار ذلك العبد مُبَعَّضًا، يعني أن بعضه رقيق، وبعضه حر، فدل ذلك على أن الحرية
تتبعض، وأنها تثبت لكل جزء جزء من الإنسان.
أما كون البيع باطلا؛ فلأن
ذات الحر أو أعضاءه ليست محلا قابلا للتعاقد، فمن شروط صحة عقد البيع -بالإجماع-
أن يكون محله قابلا للتعاقد، وذلك بأن يكون: مالا متقومًا مملوكًا يجوز الانتفاع
به. والأدمي ليس بمال متقوم فلا يجوز بيعه، ولا بيع شيء من أعضائه، وبيان ذلك: أن
المال مخلوق لإقامة مصالحنا به, أما الآدمي فقد خلق مالكًا للمال، وبين كونه مالا
وبين كونه مالكًا للمال منافاة، وإليه أشار الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: 29].
ومما يشهد لهذا في فروع
الفقه، ما جاء في مذهب الحنفية من قولهم بحرمة بيع لبن الآدمية معللين ذلك بأنه ليس
مالا متقومًا ([7]).
فإن منع مانع قولنا بعدم
مالية الآدمي بأن الشرع يلزم المعتدي بالدية، وهذا يدل أن لجسم الإنسان قيمة مالية
يضمنها متلفه. فجوابه: أن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي، هو المثلية الكاملة،
وذلك يتمثل في القصاص، أما الدية فليست بمثل، قال السرخسي: "لأن
المماثلة بين الشيئين تعرف صورة أو معنى , ولا مماثلة بين المال , والآدمي صورة , ولا معنى"
اهـ ([8])، فالدية إذ تجب في الخطأ، وفي العمد بعد سقوط القصاص، إنما تجب صيانة للدم
عن الهدر واحترامًا للإنسان ([9])، والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني
في نقل
الأعضاء غير الفرديةهبة
يجوز شرعًا نقل وزرع
الأعضاء غير الفردية من الآدمي الحي إلى مثله عن طريق الهبة والتبرع مع مراعاة الضوابط
الآتية:
1- قيام حالة الضرورة أو
الحاجة الشرعية التي يكون فيها الزرع هو الوسيلة المتعينة للعلاج، وتقدير
التعين مرده إلى الأطباء.
2- موافقة المنقول منه مع
كونه بالغًا عاقلا مختارًا.
3- أن يكون هذا النقل
محققًا لمصلحة مؤكدة للمنقول إليه من الوجهة الطبية، ويمنع عنه ضررًا مؤكدًا
يحل به إذا استمر حاله دون نقل.
4- ألا يؤدى نقل العضو إلى
ضرر محقق بالمنقول منه يضر به كليًّا أو جزئيًّا، أو يؤثر عليه سلبًا
في الحال أو في المآل بطريق مؤكد من الناحية الطبية؛ لأن مصلحة المنقول إليه ليست
بأولى شرعًا من مصلحة المنقول منه؛ والضرر لا يزال بالضرر، ولا ضرر ولا ضرار في
الإسلام، ويكفى في ذلك المصلحة الغالبة الراجحة. والضرر القليل المحتمل عادة
وعرفًا وشرعًا لا يمنع هذا الجواز في الترخيص إذا تم العلم به مسبقًا وأمكن تحمله أو
الوقاية منه ماديًا ومعنويًا بالنسبة للمنقول منه، والذي يحدد ذلك هم أهل الخبرة الطبية العدول.
5- صدور إقرار كتابي من
اللجنة الطبية قبل النقل بالعلم بهذه الضوابط وإعطائه لذوي الشأن من
الطرفين -المنقول منه العضو والمنقول إليه- قبل إجراء العملية الطبية، على أن تكون
هذه اللجنة متخصصة ولا تقل عن ثلاثة أطباء عدول وليس لأحد منهم مصلحة في عملية
النقل.
6- يشترط ألا يكون العضو
المنقول مؤديًا إلى اختلاط الأنساب بأي حال من الأحوال.
أما دليل القول بجواز أخذ
العضو من الغير على الوجه الذي قررناه فهو قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْـمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ }[البقرة: 173]، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ
ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[المائدة: 3]، وقوله
تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ}[الأنعام: 118، 119]، ووجه الدلالة من هذه الآيات الكريمة أنها اتفقت على
استثناء حالة الضرورة من التحريم المنصوص عليه فيها، والإنسان المريض إذا احتاج
إلى نقل العضو فإنه سيكون في حكم المضطر؛ لأن حياته مهددة بالموت كما في حالة
الفشل الكلوي، وتلف القلب ونحوهما من الأعضاء المهمة في جسد الإنسان.
فإذا كان الأمر كذلك فإنه
يدخل في عموم الاستثناء المذكور فيباح نقل ذلك العضو إليه ([10]).
وأما دليل جواز بذل الإنسان
عضوه لمن احتاجه فقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا﴾[المائدة: 32]، فالآية تشمل إنقاذ من تهلكة، ويدخل فيه
من تبرع لأخيه بعضو من أعضائه لكي ينقذه من الهلاك ([11])، لأنه يصدق
عليه حينئذ أنه أحيى نفس أخيه.
وكذلك فقد مدح الله تعالى من
آثر أخاه على نفسه بطعام أو شراب أو مال؛ فقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر: 9]، فإذا كان ذلك في هذه
الأمور اليسيرة، فمن آثر أخاه بعضوه
أو جزئه لكي ينقذه من الهلاك المحقق لا شك أنه أولى وأحرى بالمدح والثناء، ومن ثم يعتبر
فعله مشروعًا ممدوحًا ([12]).
وقواعد الشرع الكلية لا تأبى
ذلك؛ فما قررناه من الجواز يتفق مع قاعدة الضرر يزال، وقاعدة الضرورات تبيح
المحظورات، وقاعدة إذا ضاق الأمر اتسع([13])؛ فالشخص المريض متضرر بتلف العضو المصاب أو
عدمه، كما أن مقامه يعتبر مقام اضطرار، وفيه ضيق ومشقة؛ إذ يصل به الحال إلى درجة
خوف الهلاك والموت كما في حالة الفشل الكلوي مثلا ([14]).
وقد أجاز الشرع التداوي
بلبس الحرير لمن به حكة، وأجاز التداوي باستعمال الذهب لمن احتاج إليه، فيقاس
التداوي بنقل الأعضاء الآدمية على ذلك بجامع وجود الحاجة الداعية إلى ذلك في كلٍّ ([15]).
وذلك هو ما يقتضيه ميزان
الترجيح بين المفاسد؛ حيث يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف، ويختار أهون الشرين
([16])، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ([17]). ففي
مسألتنا هذه قد وقع التعارض بين مفسدة أخذ العضو الحي وحصول بعض الألم له، وبين مفسدة هلاك
الحي المتبرع له، ولا شك أن مفسدة هلاك الحي المتبرع له المريض أعظم من المفسدة
الواقعة على الشخص المتبرع الحي، فتقدم حينئذٍ؛ لأنها أعظم ضررًا وأشد خطرًا ([18]).
الباب الثاني
في نقل
الأعضاء من الآدمي الميت وزراعتها في الحي
الصورة الثانية من صور نقل
الأعضاء هي أن يكون المنقول منه آدميٌ ميت، والمنقول إليه حي، فلا يجوز بذل عضو
الميت المراد نقله نظير عوض بالبيع؛ لأن البيع فرع الملك، وجسد الميت ليس ملكًا لأحد
حتى يجوز بيعه.
أما بذل عضو الميت على وجه
الإذن، فهو مشروط بقيام حالة الضرورة أو الحاجة الشرعيتين بحيث يسوغ الانتقال من
أصل الحظر والمنع إلى الإجازة استثناء؛ دفعًا لأعظم الضررين ودرئًا لأكبر
المفسدتين، فكرامة أجزاء الميت لا تمنع من انتفاع الحي بها؛ تقديمًا للأهم على المهم،
والضرورات تبيح المحظورات، وقد قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا
عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام: 145].
والإذن يتصور صدوره من الميت
قبل وفاته بأن يوصي بذلك، أو يصدر من أهله وأوليائه بعد موته، وليس اعتبار وصية
المتوفى أو إذن أوليائه إلا مسألة تنظيمية، فمدار جواز الاستفادة
بأعضاء الميت هو قيام حالة الضرورة الشرعية المبيحة للمحظور، ولكن حتى لا يترك
الأمر بلا ضابط أو رابط ويخضع لتحكمات بعض الأطباء، قلنا بلزوم وجود الوصية قبل
الوفاة أو إذن الأولياء بعد الوفاة من باب السياسة الشرعية بما يحقق المصالح ويدفع
المفاسد.
وجاء في
فروع الفقه القديم ما يؤيد القول بالجواز منه كلامهم في باب الجنائز عن شق بطن من
ماتت حاملا وجنينها حي يضطرب في بطنها، وما إذا مات الجنين في بطن أمه، وهي ما زالت
حية، وعن شق بطن الميت لاستخراج ما كان قد ابتلعه من مال قبل وفاته.
وفى هذا
يقول فقهاء الحنفية: " حامل ماتت وولدها حي يضطرب، شق بطنها من الجانب الأيسر،
ويخرج ولدها، ولو بالعكس - بأن مات الولد في بطن أمه وهى حية - وخيف على الأم قطع
وأخرج، ولو بلع مال غيره - أي ليس مملوكًا له - ومات - وليس في تركته ما يضمنه -
هل يشق ؟ قولان: والأولى نعم؛ لأنه وإن كان حرمة الآدمي أعلى من صيانة المال لكنه
أزال احترامه بتعديه" ([19]).
وفى فقه
المالكية أنه يشق بطن الميت لاستخراج المال الذي ابتلعه حيًا، سواء كان
المال له أو لغيره، ولا يشق لإخراج جنين وإن كانت حياته مرجوة.
ففي مختصر
خليل وشرحه للشيخ عليش: " (وبُقِر) بضم الموحدة, وكسر القاف أي
شق بطن الميت (عن مال)
ابتلعه في حياته ومات, وهو في بطنه سواء كان له أو لغيره.
و(لا) تبقر بطن ميتة عن
(جنين) حي رجي لإخراجه; لأن سلامته مشكوكة فلا تنتهك حرمتها له والمال محقق الخروج
" ([20]).
وفى فقه
الشافعية أنه إن ماتت امرأة وفى جوفها جنين حي، شق بطنها؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من
الميت، فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، وهذا إذا رجي حياة الجنين بعد إخراجه،
أما إذا لم ترج حياته، فلا تشق بطنها ولكن لا تدفن حتى يموت.
ففي حاشية
البجيرمي على شرح المنهج: " وحَرُم نبش القبر قبل البلاء - بكسر
الباء مع القصر وبفتحها مع المد - عند أهل الخبرة بتلك
الأرض بعد دفنه لنقل وغيره إلا لضرورة كدفن بلا طهر، وكما لو دفنت امرأة حامل بجنين
ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر، فيشق جوفها ويخرج؛ إذ شقه لازم قبل
دفنها أيضًا، فإن لم ترج حياته فلا، لكن يترك دفنها إلى موته ثم تدفن، وما قيل من أنه
يوضع على بطنها شيء ليموت غلط فاحش فليحذر" ([21]).
وعن ابتلاع الميت
المال قالوا: إن بلع الميت جوهرة لغيره، وطالب بها صاحبها، شق جوفه وردت
الجوهرة، إلا إذا ضمنها أحد الورثة، وإن كانت الجوهرة له فلا يشق؛ لأنه استهلكها في
حياته، فلم يتعلق بها حق الورثة.
ففي حاشية
الجمل على شرح المنهج: " ولو بلع مالا لنفسه ومات لم ينبش؛
لاستهلاكه له حال حياته، أو مال غيره وطلبه مالكه نبش وشق جوفه
وأخرج منه ورد لصاحبه, ولو ضمنه الورثة كما نقله في المجموع عن إطلاق الأصحاب
رادًا به على ما في العدة من أن الورثة إذا ضمنوا لم يشق، ويؤيده ما اقتضاه
كلامها من أنه يشق حيث لا ضمان وله تركة، أي أنه إذا شق جوفه مع وجود التركة فكذلك
يشق مع ضمان الورثة، والمعتمد ما في العدة، فمتى ضمنه أحد من الورثة أو غيرهم حرم
نبشه وشق جوفه؛ لقيام بدله مقامه، وصونًا للميت من انتهاك حرمته، ويجاب عما في
المجموع بأنه لا تأييد; لأن الضمان أثبت من التركة بدليل أنها معرضة للتلف بخلاف
مـا فـي الذمة الحاصل بالضمان " ([22]).
ويقول فقه
الحنابلة: إن الميت إذا كان قد بلع مالا حال حياته، فإن كان مملوكًا
له لم يشق؛ لأنه استهلكه في حياته إذا كان يسيرًا، وإن
كثرت قيمته شق بطنه واستخرج المال حفظًا له من الضياع ولنفع الورثة الذين تعلق بهم حقهم
بمرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذن مالكه فهو كحكم ماله، لأن صاحبه أذن في
إتلافه، وإن بلعه غصبا ففيه وجهان أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من تركته، والثاني
يشق إن كان كثيرا لأنه فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء
ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم.
ففي الإقناع
وشرحه للبهوتي: " (وإن وقع في القبر ما له قيمة عرفًا, أو رماه ربه
فيه نبش) القبر (وأخذ) ذلك منه لما روي " أن
المغيرة بن شعبة وضع خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: خاتمي فدخل وأخذه
وكان يقول: أنا أقربكم عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أحمد: إذا نسي
الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش أهـ؛ ولتعلق حق ربه بعينه , مع عدم الضرر في
أخذه. (أو بلع مال غيره بغير إذنه وتبقى ماليته, كخاتم, طلبه ربه لم ينبش وغرم
ذلك من تركته) صونًا لحرمته مع عدم الضرر (فإن تعذر الغرم) أي: المال الذي بلعه
الميت (لعدم تركة ونحوه نبش) القبر (وشق جوفه, وأخذ المال) فدفع لربه (إن لم يبذل
له قيمته) أي: إن لم يتبرع وارث أو غيره ببذل قيمة الكفن أو المال لربه وإلا فلا
ينبش لما سبق (وإن بلعه) أي: مال الغير (بإذن ربه أخذ إذا بلي) الميت, لأن مالكه
هو المسلط له على ماله بالإذن له. (ولا يعرض له) أي: للميت (قبله) أي: قبل أن يبلى
لما تقدم (ولا يضمنه) أي: المال الذي بلعه بإذن ربه فلا طلب لربه على تركته
لأنه الذي سلطه عليه. (وإن بلع مال نفسه, لم ينبش قبل أن يبلى) لأن ذلك استهلاك
لمال نفسه في حياته أشبه ما لو أتلفه (إلا أن يكون عليه دين) فينبش ويشق جوفه فيخرج
ويوفي دينه , لما في ذلك من المبادرة إلى تبرئة ذمته من الدين " ([23]).
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب