الملكية الفكرية في الفقه الإسلامي
د. أسامة محمد
عثمان خليل
مقدمة:
تحظى
مسألة الملكية الفكرية باهتمام بالغ، ليس على مستوى الدول فحسب بل على المستوى
الإقليمي والدولي، حتى أضحى الاهتمام بها من قبل أي دولة أو مجمع علمي دليل على
مواكبة التطور والحداثة وإقرار للمجتمع المتمدن، وبهذا الفهم أصبحت الملكية
الفكرية صنو لحقوق الإنسان تذكر حيثما ذكر.
لذا
يجيء بحث هذه المسألة في الفقه الإسلامي إبرازًا لحقيقة ثابتة للفقه الإسلامي سعة
وشمولاً لكل القضايا العصرية، بل كان له موقف وعلاج ورأي وإن لم تكن تلك الوقفات
تحت المصطلح نفسه.
اهتم
البحث وهو يعالج المسألة فوضع مقدمات ضرورية لتكون ركائز لموضوعاته وهي:
[1]
حددت الشريعة الإسلامية الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي وتناول علماء
المسلمين الأوائل هذه الأسس بالدراسة في ضوء متطلبات حياة المجتمع وأطواره وتحت
مسميات تناسب تلك الفكرة. ومن المتفق عليه بين جمهور العلماء أن الإسلام جاء
بتنظيم شامل لأمور الدين والدنيا (العقيدة وتحسينات الحياة)، فوضع الأحكام إلى
تنظيم سلوك الإنسان في المجتمع في كافة العلاقات.
[2]
إبراز الدول الأوربية وغيرها من الدول المتقدمة للمسائل ذات البريق والصيت الآن
لمسألة الملكية الفكرية ما هو – في اعتقادنا – إلاّ سبق ومزاحمة لنظمها للنظم
الإسلامية وكانت لها الغلبة تخصيصًا وتنظيمًا للمسألة وترويجًا لها تحت هذا
المصطلح (الملكية الفكرية). وفي المقابل ران على دولنا بعض الركود ولم تحظ المسألة
بالعناية المطلوبة رغم معرفة فقهاء المسلمين بجوانب المسألة وجزئياتها كغيرها من
المسائل الحديثة، إذ كانت الشريعة الإسلامية تفرد بحكم العالم الإسلامي حتى القرن
الثامن عشر.
[3]
وكانت نتيجة هذا الركود تقاعسًا من جانب علماء المسلمين في مواجهة الحضارة
الأوربية بمخترعاتها ومبتكراتها وقوانينها التي تنظم وتحمي هذه المخترعات منذ
أواسط القرن الثامن عشر وإبرام الاتفاقيات التي تؤكد الحماية الإقليمية والدولية
لهذا الحق، إذ أصبح هؤلاء العلماء متلقين لحضارة أقوى ونظمها؛ الأمر الذي أدى إلى
قصور في الدراسات الفقهية في البلدان العربية والإسلامية حيث أراح جل العلماء
أنفسهم من عناء البحث والتنقيب بالتوجه شطر الثقافة القانونية للبلد الأجنبي الذي
ارتبطت بها دراسته وكلٌّ بما لديهم فرحون.
على
ظلال هذه المقدمات؛ بحثنا مسألة الملكية الفكرية تحت عدد من المحاور:
في
المحور الأول وقفنا على ملامح من تقدير العرب والإسلام للتأليف والابتكار من شعر
وكتابة وتأليف.
ومن
ثم أبرزنا في المحور الثاني معرفة الفقه الإٍسلامي لعديد من المفاهيم للملكية
الفكرية، وأزلنا – ونحن نبحث هذه المفاهيم – شبهة الاحتكار من الحماية المطلقة
للملكية الفكرية.
وثالثًا
بيّنا مقصود الملكية الفكرية في الفقه الإسلامي بمعالجة قضية المصطلح والتأكد كذلك
في معرفة الفقه الإسلامي "للملكية الفكرية" بوضع الشواهد الممثلة في بعض
الوقائع الجزئية التي حدثت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبالنظر إلى القواعد
الكلية في الشريعة الإسلامية.
وفي
المحور الرابع بيّنا طبيعة حقوق المؤلف في التشريعات الوضعية وتتبعنا نشأة وتطور
حماية هذه الحقوق داخليًا ودوليًا.
وفي
المحور الخامس بحثنا وسائل وضوابط هذه الحماية.
وخلصنا
في خاتمة البحث إلى النتائج والتوصيات التالية:
[1]
إن حق الملكية الفكرية الممثل في حق المؤلف جديرة بالحماية القانونية إذ بها تحقق
مصلحة عملية وشرعية لحماية حق المبتكر أو المؤلف ماليًا وأدبيًا.
[2]
وجود مفاهيم إسلامية وقواعد شرعية تؤكد أهمية هذا الحق كالمصلحة المرسلة مما يؤكد
معرفة الفقه الإسلامي هذه الملكية وحمايتها. وهذه المعرفة في اعتقادنا امتداد
لمعرفة العرب حماية الشعر والكتابة والتأليف، ولا يضعف وجود هذا الحق عدم استخدام
الفقه الإسلامي مصطلح (الملكية الفكرية).
[3]
رغم توفر وسائل وضمانات الحماية التي كفلتها القوانين للملكية الفكرية؛ يُلاحظ من
الناحية العلمية أنه يصعب كثيرًا تحقيق هذه الحماية خاصة في الدول النامية ومنها
الدول الإسلامية. لذا نرى أن العلاج يكون بالدخول في الاتفاقيات الدولية وإنفاذ
مشروع الاتفاقية الإسلامية لحماية الملكية الفكرية.
[4]
إنشاء هيئات جماعية لإدارة هذه الحقوق وحمايتها.
[5]
تشكيل محاكم خاصة للقضايا المتعلقة بهذه الحقوق.
[6]
الاهتمام بتوفير سبل تشجيع وتطوير الأبحاث العلمية والإنتاج الفكري في الدول
العربية الإٍسلامية ولا سيما المتعلقة بالعلوم التطبيقية مثل الصناعات الثقيلة
والهندسة العالية والفيزياء النووية حتى نواجه عصر العولمة ومن بعد نهتم بحماية حق
من يبتكر ويؤلف في تلك المجالات.
[1] تعريف الحق:
الحق
في اللغة: نقيض الباطل، وجمعه (حقوق)، وهو يعني: ثبوت الشيء ويقال: حق الشيء: إذا
ثبت ووجب(1)، ومن ذلك قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)(2).
ولفظ
(الحق) ذكر كثيرًا في القرآن الكريم(3) قال تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل)(4)،
ويقصد بالحق: الواقع لا محالة، والحق: العلم الصحيح، والحق: العدل، والحق، الصدق.
أما
الفقهاء المعاصرون فقد اختلفوا في تعريف الحق حيث عرفه الدكتور/ عبد الرازق
السنهوري بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون"(5). وعرّفه
الشيخ/ علي الخفيف بأنه: "مصلحة مستحقة شرعًا"(6) ويرى الشيخ الخفيف بأن
الحق متنوع، كالحق المالي، والحق الأدبي، ويرى البعض أن الحق: سلطة إدارية
يستعملها صاحب الحق في حدود القانون وتحت حمايته"(7). وعُرّف بأنه:
"سلطة على شيء أو اقتضاء وأداء من آخر وتحقيقًا لمصلحة معينة"(.
وعلى
ضوء هذه التعريفات للحق؛ نتساءل: هل عرّف الفقه الإسلامي حقوق المؤلف أو
المُبتكِر؟
[2] ملامح من تقدير العرب والإسلام للتأليف والابتكار:
[أ] في الشعر:
لا
ينكر أحد أن العرب في تاريخهم الفكري الطويل ملامح من تقدير واحترام لحق المبتكر
المتفرد في مجال الشعر والأمثال والخطابة؛ مما يشير إلى معرفة العرب بحق من يؤلف
أو يبتكر ولا سيما في مجال الشعر، إذ أن أوائل ما وصلنا من الشعر الجاهلي يبدأ
بإقرار عطاء الأقدمين، وهو عطاء غير مجزوز "وما أرانا أن نقول إلا
معادا"(9).
وتسجل
لنا كتب التراث كثيرًا من حوادث سرقات الشعرن بل يكون أول من نادى بضرورة حماية حق
المؤلف من العرب قبل المؤتمرات الحديثة التي تدعو إلى حماية حق المؤلف من أنشد
الشعر:
=أجزني إذا أنشدت شــعرًا فإنما
=بشعري أتاك المادحون مرددا
[ب] الكتابة
في الجاهلية:
كان
الاهتمام بالكتابة وأدواتها في الشعر الجاهلي اهتمامًا كبيرًا، فقد عرف العرب
المهارق، وهي الكتب الدينية أو كتب العهود والمواثيق(10).
قال
المرقش الكبير، وقيل أنه سمّي المرقش لذكره الترقيش أي الكتابة في بيت الشعر:
=الدار قفر والرسوم كما
=رقش في ظهر الأديم قلم
وعرف
العرب في الجاهلية أنواعًا متعددة من الكتابات فيها العهود والمواثيق والإملاء
والرسائل وغيرها(11).
أما
اهتمام الإسلام بالكتابة فظاهر لا يحتاج إلى تفصيل.
[ج] النساخة:
وهي
عملية نسخ الكتب وكتابتها حيث أصبحت عملية ملازمة لانتشار الكتاب والتأليف، بل
تحولت بعد مجيء الإسلام إلى صناعة إسلامية(12). حيث أصبح الناسخ فئة مؤثرة، إذ
أصبحت النساخة تجلب الأجر المجزي، وكذلك أصبحت عملية تقليد الخطوط ومحاكاتها من
العمليات التي لاقت رواجًا، وقد مارسها الكثير دون حرج.
وأصبح
النساخ والورّاقون طبقة لها شأن تؤثر في نشر العلم، وتؤثر – بلا شك – في حق
العالم، المؤلف أو المبتكر، حيث يذكر أن أحدهم قال: "آفة العلم خيانة
الوراقين"(13).
لذا
كان العلماء الأوائل يحرصون على نسخ كتبهم بأنفسهم حيث عرف علماء المسلمين النسخ
كوسيلة لإبراز مؤلفات تخطها أيديهم على الورق بعد بذل الجهد في التفكير والكتابة
بل وإعداد المداد حرصًا على مؤلفاتهم من التحريف أو السرقة، إذ من النساخ من كان
يخون أمانته العلمية، فقد ذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار إن وراقهُ أبا
العباس المصري خانه واختزل عيون كتبه وأكثر من خمسمائة جزء من اصوله(14). ولكن لم
نعثر على أمثلة تعكس كيفية حماية حقوق أولئك العلماء في ملؤلفاتهم.
[د] التأليف عند المسلمين:
لم
يتجه الصحابة والتابعون في صدر الإسلام الأول إلى التأليف، وذلك لقرب عهدهم من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفر الثقاة من الصحابة، الشيء الذي أعفاهم من
التدوين والتأليف حتى أن بعضهم كره كتابة العلم، واستدلوا بما روي عن ابن عباس رضي
الله عنه أنه نهى عن الكتابة وقال: "إنما ضل من قبلكم بالكتابة". بالإضافة
أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ وكان الحافظ منهم إمامًا.
ثم
بدأ التدوين والاهتمام بالكتابة التأليفية شيئًا فشيئا، وأخذ العلم تتسع دائرته
فغلب على كل طائفة منهم ميل خاص إلى بعض المسائل والموضوعات واشتهر بها. وأخذت
المسائل المتشابهة يوضع تحت مصدر. وأخذ التأليف يأخذ شكلاً واحدًا ممثلاً في تأليف
مسألة جزئية مفردة لا يتجاوز منها حدود المسألة محورها أحد الأحاديث النبوية
الشريفة، لذا ظهرت فروع في التفسير والمغازي والتاريخ والطبقات.
وقد
بدأت حركة التأليف تشق طريقها إلى الوجود بصورة بارزة منذ عصر معاوية بن أبي سفيان
الذي يقال أنه كان ينام ثلث الليل ثم ينهض فيحضر دفاتر فيها سِير الملوك ومكائدهم
وأخبار حروبهم لتقرأ عليه،(15) واستمر الاهتمام طيلة القرنين الأول والثاني من
الهجرة، وكذلك العصر العباسي.
وذهب
الرأي الراجح لدى فقهاء المذاهب الأربعة إلى جواز أخذ المؤلف عِوضًا على
مؤلفه(16). هذا بالطبع بجانب الحقوق الأدبية وهو الجانب المكمل للحق المالي للحقوق
الفكرية.
[3] معرفة الفقه الإسلامي لمفاهيم مرتبطة بالملكية الفكرية:
من
الثابت أن الإسلام يحرص أشد الحرص على صون الأصول العامة التي تحمي الحقوق الأمر
الذي يدعونا أن نقر بأن الفقه الإسلامي عرف كثيرًا من المفاهيم المرتبطة بالملكية
الفكرية والإنتاج الفكري الإنساني عمومًا. ونتج عن هذه المعرفة ظهور قواعد وضوابط
تحكم تطور هذه الملكية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
أولاً: المفاهيم المباشرة (تجميد حماية الملكية الفكرية):
[1]
وضع القواعد والضوابط التي تحكم الملكية الفكرية كفالة للمحافظة على الإنتاج
الفكري والابتكار الذهني عمومًا، وذلك بوضع القواعد الضابطة لاستنساخ المصنفات وما
يرتبط بها من مظاهر كالأمانة العلمية واستهجان السرقات الأدبية.
[2]
ففي مجال الابتكار الذهني أكّد فقهاء الشريعة الإسلامية على أهمية الابتكار
بالنسبة للمؤلف(17) باعتباره شرطًا أساسيًا للإبداع الذهني الذي يجب توفره في
العالم فقد اشترط ابن رشد في مقدمته(18) في العالِم خمسة شروط هي: الذهن الثاقب،
الشهوة الباعثة، العمر الطويل، والجدة، والأستاذية، وهي شروط أغلبها ضرورية ولا
يتوفر الإبداع الذهني للعالِم بدونها.
كما
أكّد ابن المقفع على إدراك العرب الأقدمين لأهم خصائص التأليف التي تتمثل في
الابتكار أو الإبداع الذهني، وحدد بصورة مباشرة إلى ضرورة لجوء العالِم إلى اختراع
المعاني – أي التأليف والابتكار – للأمور المحدثة التي لم يقع قبلها أو لم يسبق
سابق كتابتها لأن الحوادث والوقائع لا تنتهي ولا تقف عند حد.
[3]
هناك تلازم بين اهتمام الإسلام بالإنسان وأهمية الفكر وبالتالي يتأتى أهمية
الملكية الفكرية من أهمية الفكر حيث يعد التفكير أهم مظهر من مظاهر وجود الإنسان،
إذ بالتفكير يتبوأ الإنسان المرتبة السامية ويتميز عن عالم الحيوان كذلك بالتفكير،
يواجه الإنسان كل ما حوله ليكتشف منه ما يساعده على التكيف والبقاء وإنشاء
الحضارات.
ولقد
جعل الله الإنسان خليفته في الأرض وحمّله الأمانة الكبرى من أجل أن يحقق مسؤوليته
من خلال التفكير ويقوم بالتكاليف التي فرضت عليه عند قبوله تلك الأمانة قال تعالى:
(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً)(19). وبهذا يمكن القول إن التفكير نعمة وهي
فطرة، والإسلام دين فطرة. لذا تأتي أهمية صون نعمة التفكير.
[4]
يكاد علماء الإسلام يجمعون على القول بحجية العقل في مجاله، قال الإمام الشافعي –
رحمه الله –: "إن الله تعالى – جل ثناؤه – منّ على العباد بعقولهم بدرجات
مختلفة، وهداهم السبيل إلى الحق نصًا ودلالة"(20). ومن هنا تأتي أهمية
الملكية الفكرية من أهمية العقل بالإسلام إذ لا هداية إلا بالعقل(21).
[5]
وفي مجال الحث على العلم والانتفاع به نظرت الشريعة الإسلامية إلى المؤلف أو
المبتكر نظرة تقدير وإجلال فأصبغت عليه لفظ (العالِم). حيث ورد هذا التمجيد
والتعظيم من شأنه في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة قال
سبحانه وتعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(22). كما
أوجبت الشريعة الإسلامية على الناس التعلم والانتفاع بالعلم، ولم يعادِ الإسلام
التوسع في المعرفة الإنسانية بل حث أتباعه على البحث والنظر ومعرفة التاريخ والاعتبار
بالأمم والأيام بل حث على أخذ الحكمة من أي وعاء خرجت لأن الكلمة الحكمة ضالة
المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها(23).
وفيما
يتصل بتطور الحياة العلمية تركت الشريعة الإسلامية مجالاً رحبًا وواسعًا للعقل
البشري كي يتحرك في دائرة السنن الكونية والاجتماعية تبعًا لثبات أو تغير تلك
السنن. وهذا التغير الدائم في الحياة وما يقابله من تغيير السنن والقوانين اعترف
بها الإسلام ولا يريد أن يقف أمامها أو يجمد المجتمع الإسلامي دونها.
وفي
سبيل تحريك وتفعيل الفكر الإسلامي في داخل ثوابته من الأصول والقواعد العامة عدّ
الإسلام الاجتهاد عملاً صحيحًا ومحببًا في حالتي الصواب والخطأ. وإذا نظرنا إلى
الفكر الاجتهادي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنه على الرغم من أن الفقه
الإٍسلامي في هذا العصر كان فقهًا مبنيًا على الوحي الإلهي ممثلاً في الكتاب
والسنة؛ إلاّ أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في مسائل معينة
تشريعًا لأمته. فمن اجتهاداته عليه السلام أخذه الفداء من أسرى بدر، وإذنه
للمتخلفين عن غزوة تبوك بالبقاء في المدينة لما قدموه من أعذار(24).
وإذا
وصلنا النظر في العصر الحديث لدى رواد تجديد الفكر الإسلامي الشمولي الحركي لدى
الشيخ/ حسن البنا نجده في مجال الاقتصاد يقرر حرمة المال واحترام الملكية الفكرية
الفردية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة(25).
بل
يعزي البعض أن حركة الركود في العالم الإسلامي خاصة في مجال التقنية والابتكارات
عمومًا راجعة في كثير من جوانبها في تكرار المؤلفات والابتكارات في الدول
والجامعات الإسلامية؛ لذا يرون أن معالجتها تتم بالتنسيق بين الدول الإسلامية بوضع
آلية إشرافية موحدة(26) لهذه المؤلفات ولا سيما الرسائل الجامعية والبحوث العلمية
لعدم تكرارتها كسبًا للوقت ووفرًا للجهد. ومن قبل الاهتمام بالبحث العلمي والإنتاج
الفكري كأمر متلازم بالبحث عن وسائل حماية هذا الإنتاج الفكري، إذ نرى أن تقدم
الدول العربية والإسلامية مرهون بالتقدم العلمي ونحن ندلف في الألفية الثالثة،
خاصة والبعض يشير أن هنالك إحصائيات علمية بالغة الدقة تؤكد على أن الطاقات
العلمية والإبداعية والفنية العربية إلى انحسار واضح في جميع المجالات، وبشكل خاص
في حقول البحث العلمي والإنتاج الإبداعي عمومًا. فالطاقات التي كانت موجودة في
كثير من الجامعات ومراكز الأبحاث العربية قد اضطرت إلى الهجرة إلى أوربا وأمريكا
بسبب الروتين الحكومي القاتل، الأمر الذي يدعو إلى تهيئة المناخ والعلماء وتدارك
الوضع بالسرعة القصوى بالاهتمام بالجامعات والمراكز البحثية(27).
ثانيًا: المفاهيم غير المباشرة (المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان
وحرياته):
[1]
الإسلام دين ودنيا قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك
من الدنيا)(28)، حيث أتى الإسلام بنظام كامل وشامل للحياة ليحكم علاقات الناس
وكافة أنماط السلوك سواء أكان هذا السلوك فرديًا أم جماعيًا، وليحكم كذلك غيرها من
العلاقات كالاقتصادية والاجتماعية(29). وبالتالي يكون لكل فرد في المجتمع الحق في
ممارسة العمل المناسب له والملائم لقدراته الذي يكفل له العيش الكريم، وعلى الدولة
أن تهيء الفرص اللازمة لطالبيها حتى يكون لكل فرد عمل أو مهنة تكون مصدرًا للعيش
الحلال يحميه من الالتجاء إلى الطرق غير الشرعية للعيش كالسرقة وغيرها. لذا يحث
الإسلام على العمل بالاعتماد على عمل اليد قال تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا
في الأرض وابتغوا من فضل الله)(30)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أكل
أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان
يأكل من عمل يده"(31).
هكذا
يؤكد أن الإسلام كفل حق العمل في جميع صوره وصان كذلك ممتلكات الفرد وأجلّها حق
الملكية.
[2]
وإذا نظرنا إلى مسألة تحريم مهددات الفرد وممتلكاته؛ نجد أن الإسلام عرف أن النفس
البشرية حريصة دومًا وتواقة للبحث عن الأمن والطمأنينة تنشدهما أينما وجدنا، وما
ذلك إلا حبًا في الاستقرار الذي جُبل عليه الإنسان. والاستقرار لا يتم إلاّ
بالمحافظة على الكليات الخمس وهي: (النفس، المال، العقل، العرض، الدين). ولا شك أن
في حفظ المال ضرورة قصوى، وكيف لا والمال عصب الحياة لذا يكون صون وحماية حق
الملكية ضرورة ما بعدها ضرورة ومن ثم يكون الاعتداء عليه بالسرقة(32) جريمة تؤثر
على أمن الفرد والمجتمع.
[3]
شدد الإسلام على حرية الرأي، وهذا التعبير قد يتجلى في مؤلف أو مبتكر، بل جعل
التعبير عن الرأي واجبًا على كل مسلم وخاصة إذا كان من النوع الذي يدعو إلى الخير
وينهى عن المنكر، وهذا التعبير يتجلى من مؤلف أو مبتكر، لذا نجد هذه الحقوق
الفكرية الحماية الشرعية من الإسلام. وبالتالي لا نتردد بالقول إن صون وحماية هذه
الحقوق الفكرية تكون أولى ونحن نشاهد في هذا العصر كيف أن كافة الأمم تقدس هذه
الحقوق وتعد وتحشد لها المؤتمرات والإعلانات العالمية(33).
[4] حماية الملكية الفكرية وضوابطها وشبهة الاحتكار:
خلصنا
من تناول المفاهيم المتصلة بالملكية الفكرية إلى أنّ هذه الملكية الفكرية مصونة من
الاعتداء، ونرى أن هذه الحماية والصون تقوم على ثوابت معينة ممثلة ف الآتي:
[1]
الملك لله وحده وأن الناس ما هم إلا مستخلفون.
[2]
حق الملكية يتصل بوجود الفرد وبكرامته من جهة، وبناموس العمران من جهة أخرى، وبهذا
المعنى لا تدرك هذه الملكية إلاّ بوجود صاحب الملكية حيث وجدت الملكية له ووجد
لها(34) وتزداد أهمية الملكية كلما يقطع الفرد أشواطًا في المدنية كما هو حاصل
الآن من اهتمام زائد بهذه الحقوق الفردية.
[3]
حق الناس المحتاجين لهذه الملكية مما يحتم وضع قيود عن هذه الحقوق الفردية، وعليه
يكون حسبها المطلق وكأن في الأمر احتكارًا.
لذا
رأت التشريعات المختلفة وضع قيود على هذه الحقوق، وهي قيود ضرورية تحد من أخطار
الملكية المطلقة وتوجيهها الوجهة الصحيحة، نجد هذا في القرآن الكريم والسنة
النبوية الشريفة يمنع الضرر، (لا ضرر ولا ضرار)(35) وغيرها من القواعد الشرعية،
لذا فلا يجوز للملكية الفردية عمومًا أن تنمو نموًا يلحق الضرر بالمصالح الجماعية.
لذا فإذا نمت الملكية الفردية بطرق تخالف المبادئ
الأخلاقية التي أوجب الإسلام رعايتها فلوَلي الأمر حينئذ تقييد هذه الملكية لتحقيق
المصلحة العام، ومن ثم تجد هذه الملكية في إطار تلك القيود الحماية القانونية
والشرعية.
د. أسامة محمد
عثمان خليل
مقدمة:
تحظى
مسألة الملكية الفكرية باهتمام بالغ، ليس على مستوى الدول فحسب بل على المستوى
الإقليمي والدولي، حتى أضحى الاهتمام بها من قبل أي دولة أو مجمع علمي دليل على
مواكبة التطور والحداثة وإقرار للمجتمع المتمدن، وبهذا الفهم أصبحت الملكية
الفكرية صنو لحقوق الإنسان تذكر حيثما ذكر.
لذا
يجيء بحث هذه المسألة في الفقه الإسلامي إبرازًا لحقيقة ثابتة للفقه الإسلامي سعة
وشمولاً لكل القضايا العصرية، بل كان له موقف وعلاج ورأي وإن لم تكن تلك الوقفات
تحت المصطلح نفسه.
اهتم
البحث وهو يعالج المسألة فوضع مقدمات ضرورية لتكون ركائز لموضوعاته وهي:
[1]
حددت الشريعة الإسلامية الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي وتناول علماء
المسلمين الأوائل هذه الأسس بالدراسة في ضوء متطلبات حياة المجتمع وأطواره وتحت
مسميات تناسب تلك الفكرة. ومن المتفق عليه بين جمهور العلماء أن الإسلام جاء
بتنظيم شامل لأمور الدين والدنيا (العقيدة وتحسينات الحياة)، فوضع الأحكام إلى
تنظيم سلوك الإنسان في المجتمع في كافة العلاقات.
[2]
إبراز الدول الأوربية وغيرها من الدول المتقدمة للمسائل ذات البريق والصيت الآن
لمسألة الملكية الفكرية ما هو – في اعتقادنا – إلاّ سبق ومزاحمة لنظمها للنظم
الإسلامية وكانت لها الغلبة تخصيصًا وتنظيمًا للمسألة وترويجًا لها تحت هذا
المصطلح (الملكية الفكرية). وفي المقابل ران على دولنا بعض الركود ولم تحظ المسألة
بالعناية المطلوبة رغم معرفة فقهاء المسلمين بجوانب المسألة وجزئياتها كغيرها من
المسائل الحديثة، إذ كانت الشريعة الإسلامية تفرد بحكم العالم الإسلامي حتى القرن
الثامن عشر.
[3]
وكانت نتيجة هذا الركود تقاعسًا من جانب علماء المسلمين في مواجهة الحضارة
الأوربية بمخترعاتها ومبتكراتها وقوانينها التي تنظم وتحمي هذه المخترعات منذ
أواسط القرن الثامن عشر وإبرام الاتفاقيات التي تؤكد الحماية الإقليمية والدولية
لهذا الحق، إذ أصبح هؤلاء العلماء متلقين لحضارة أقوى ونظمها؛ الأمر الذي أدى إلى
قصور في الدراسات الفقهية في البلدان العربية والإسلامية حيث أراح جل العلماء
أنفسهم من عناء البحث والتنقيب بالتوجه شطر الثقافة القانونية للبلد الأجنبي الذي
ارتبطت بها دراسته وكلٌّ بما لديهم فرحون.
على
ظلال هذه المقدمات؛ بحثنا مسألة الملكية الفكرية تحت عدد من المحاور:
في
المحور الأول وقفنا على ملامح من تقدير العرب والإسلام للتأليف والابتكار من شعر
وكتابة وتأليف.
ومن
ثم أبرزنا في المحور الثاني معرفة الفقه الإٍسلامي لعديد من المفاهيم للملكية
الفكرية، وأزلنا – ونحن نبحث هذه المفاهيم – شبهة الاحتكار من الحماية المطلقة
للملكية الفكرية.
وثالثًا
بيّنا مقصود الملكية الفكرية في الفقه الإسلامي بمعالجة قضية المصطلح والتأكد كذلك
في معرفة الفقه الإسلامي "للملكية الفكرية" بوضع الشواهد الممثلة في بعض
الوقائع الجزئية التي حدثت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبالنظر إلى القواعد
الكلية في الشريعة الإسلامية.
وفي
المحور الرابع بيّنا طبيعة حقوق المؤلف في التشريعات الوضعية وتتبعنا نشأة وتطور
حماية هذه الحقوق داخليًا ودوليًا.
وفي
المحور الخامس بحثنا وسائل وضوابط هذه الحماية.
وخلصنا
في خاتمة البحث إلى النتائج والتوصيات التالية:
[1]
إن حق الملكية الفكرية الممثل في حق المؤلف جديرة بالحماية القانونية إذ بها تحقق
مصلحة عملية وشرعية لحماية حق المبتكر أو المؤلف ماليًا وأدبيًا.
[2]
وجود مفاهيم إسلامية وقواعد شرعية تؤكد أهمية هذا الحق كالمصلحة المرسلة مما يؤكد
معرفة الفقه الإسلامي هذه الملكية وحمايتها. وهذه المعرفة في اعتقادنا امتداد
لمعرفة العرب حماية الشعر والكتابة والتأليف، ولا يضعف وجود هذا الحق عدم استخدام
الفقه الإسلامي مصطلح (الملكية الفكرية).
[3]
رغم توفر وسائل وضمانات الحماية التي كفلتها القوانين للملكية الفكرية؛ يُلاحظ من
الناحية العلمية أنه يصعب كثيرًا تحقيق هذه الحماية خاصة في الدول النامية ومنها
الدول الإسلامية. لذا نرى أن العلاج يكون بالدخول في الاتفاقيات الدولية وإنفاذ
مشروع الاتفاقية الإسلامية لحماية الملكية الفكرية.
[4]
إنشاء هيئات جماعية لإدارة هذه الحقوق وحمايتها.
[5]
تشكيل محاكم خاصة للقضايا المتعلقة بهذه الحقوق.
[6]
الاهتمام بتوفير سبل تشجيع وتطوير الأبحاث العلمية والإنتاج الفكري في الدول
العربية الإٍسلامية ولا سيما المتعلقة بالعلوم التطبيقية مثل الصناعات الثقيلة
والهندسة العالية والفيزياء النووية حتى نواجه عصر العولمة ومن بعد نهتم بحماية حق
من يبتكر ويؤلف في تلك المجالات.
[1] تعريف الحق:
الحق
في اللغة: نقيض الباطل، وجمعه (حقوق)، وهو يعني: ثبوت الشيء ويقال: حق الشيء: إذا
ثبت ووجب(1)، ومن ذلك قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)(2).
ولفظ
(الحق) ذكر كثيرًا في القرآن الكريم(3) قال تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل)(4)،
ويقصد بالحق: الواقع لا محالة، والحق: العلم الصحيح، والحق: العدل، والحق، الصدق.
أما
الفقهاء المعاصرون فقد اختلفوا في تعريف الحق حيث عرفه الدكتور/ عبد الرازق
السنهوري بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون"(5). وعرّفه
الشيخ/ علي الخفيف بأنه: "مصلحة مستحقة شرعًا"(6) ويرى الشيخ الخفيف بأن
الحق متنوع، كالحق المالي، والحق الأدبي، ويرى البعض أن الحق: سلطة إدارية
يستعملها صاحب الحق في حدود القانون وتحت حمايته"(7). وعُرّف بأنه:
"سلطة على شيء أو اقتضاء وأداء من آخر وتحقيقًا لمصلحة معينة"(.
وعلى
ضوء هذه التعريفات للحق؛ نتساءل: هل عرّف الفقه الإسلامي حقوق المؤلف أو
المُبتكِر؟
[2] ملامح من تقدير العرب والإسلام للتأليف والابتكار:
[أ] في الشعر:
لا
ينكر أحد أن العرب في تاريخهم الفكري الطويل ملامح من تقدير واحترام لحق المبتكر
المتفرد في مجال الشعر والأمثال والخطابة؛ مما يشير إلى معرفة العرب بحق من يؤلف
أو يبتكر ولا سيما في مجال الشعر، إذ أن أوائل ما وصلنا من الشعر الجاهلي يبدأ
بإقرار عطاء الأقدمين، وهو عطاء غير مجزوز "وما أرانا أن نقول إلا
معادا"(9).
وتسجل
لنا كتب التراث كثيرًا من حوادث سرقات الشعرن بل يكون أول من نادى بضرورة حماية حق
المؤلف من العرب قبل المؤتمرات الحديثة التي تدعو إلى حماية حق المؤلف من أنشد
الشعر:
=أجزني إذا أنشدت شــعرًا فإنما
=بشعري أتاك المادحون مرددا
<table class="MsoNormalTable" dir="rtl" style="width: 0cm;" width="0" border="0" cellpadding="0" cellspacing="10"> <tr style=""> <td style="padding: 3.75pt; width: 7.2pt;" valign="top" width="10" nowrap="nowrap"> doPoetry() 1 2 </td> <td style="padding: 3.75pt; width: 7.2pt;" valign="top" width="10" nowrap="nowrap"> ii أجزني إذا أنشدت شعرًا iiفإنما ii بشعري أتاك المادحون مرددا </td> </tr> </table> |
[ب] الكتابة
في الجاهلية:
كان
الاهتمام بالكتابة وأدواتها في الشعر الجاهلي اهتمامًا كبيرًا، فقد عرف العرب
المهارق، وهي الكتب الدينية أو كتب العهود والمواثيق(10).
قال
المرقش الكبير، وقيل أنه سمّي المرقش لذكره الترقيش أي الكتابة في بيت الشعر:
=الدار قفر والرسوم كما
=رقش في ظهر الأديم قلم
<table class="MsoNormalTable" dir="rtl" style="width: 0cm;" width="0" border="0" cellpadding="0" cellspacing="10"> <tr style=""> <td style="padding: 3.75pt; width: 7.2pt;" valign="top" width="10" nowrap="nowrap"> doPoetry() 1 2 </td> <td style="padding: 3.75pt; width: 7.2pt;" valign="top" width="10" nowrap="nowrap"> ii الدار قفر والرسوم iiكما ii رقش في ظهر الأديم قلم </td> </tr> </table> |
وعرف
العرب في الجاهلية أنواعًا متعددة من الكتابات فيها العهود والمواثيق والإملاء
والرسائل وغيرها(11).
أما
اهتمام الإسلام بالكتابة فظاهر لا يحتاج إلى تفصيل.
[ج] النساخة:
وهي
عملية نسخ الكتب وكتابتها حيث أصبحت عملية ملازمة لانتشار الكتاب والتأليف، بل
تحولت بعد مجيء الإسلام إلى صناعة إسلامية(12). حيث أصبح الناسخ فئة مؤثرة، إذ
أصبحت النساخة تجلب الأجر المجزي، وكذلك أصبحت عملية تقليد الخطوط ومحاكاتها من
العمليات التي لاقت رواجًا، وقد مارسها الكثير دون حرج.
وأصبح
النساخ والورّاقون طبقة لها شأن تؤثر في نشر العلم، وتؤثر – بلا شك – في حق
العالم، المؤلف أو المبتكر، حيث يذكر أن أحدهم قال: "آفة العلم خيانة
الوراقين"(13).
لذا
كان العلماء الأوائل يحرصون على نسخ كتبهم بأنفسهم حيث عرف علماء المسلمين النسخ
كوسيلة لإبراز مؤلفات تخطها أيديهم على الورق بعد بذل الجهد في التفكير والكتابة
بل وإعداد المداد حرصًا على مؤلفاتهم من التحريف أو السرقة، إذ من النساخ من كان
يخون أمانته العلمية، فقد ذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار إن وراقهُ أبا
العباس المصري خانه واختزل عيون كتبه وأكثر من خمسمائة جزء من اصوله(14). ولكن لم
نعثر على أمثلة تعكس كيفية حماية حقوق أولئك العلماء في ملؤلفاتهم.
[د] التأليف عند المسلمين:
لم
يتجه الصحابة والتابعون في صدر الإسلام الأول إلى التأليف، وذلك لقرب عهدهم من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفر الثقاة من الصحابة، الشيء الذي أعفاهم من
التدوين والتأليف حتى أن بعضهم كره كتابة العلم، واستدلوا بما روي عن ابن عباس رضي
الله عنه أنه نهى عن الكتابة وقال: "إنما ضل من قبلكم بالكتابة". بالإضافة
أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ وكان الحافظ منهم إمامًا.
ثم
بدأ التدوين والاهتمام بالكتابة التأليفية شيئًا فشيئا، وأخذ العلم تتسع دائرته
فغلب على كل طائفة منهم ميل خاص إلى بعض المسائل والموضوعات واشتهر بها. وأخذت
المسائل المتشابهة يوضع تحت مصدر. وأخذ التأليف يأخذ شكلاً واحدًا ممثلاً في تأليف
مسألة جزئية مفردة لا يتجاوز منها حدود المسألة محورها أحد الأحاديث النبوية
الشريفة، لذا ظهرت فروع في التفسير والمغازي والتاريخ والطبقات.
وقد
بدأت حركة التأليف تشق طريقها إلى الوجود بصورة بارزة منذ عصر معاوية بن أبي سفيان
الذي يقال أنه كان ينام ثلث الليل ثم ينهض فيحضر دفاتر فيها سِير الملوك ومكائدهم
وأخبار حروبهم لتقرأ عليه،(15) واستمر الاهتمام طيلة القرنين الأول والثاني من
الهجرة، وكذلك العصر العباسي.
وذهب
الرأي الراجح لدى فقهاء المذاهب الأربعة إلى جواز أخذ المؤلف عِوضًا على
مؤلفه(16). هذا بالطبع بجانب الحقوق الأدبية وهو الجانب المكمل للحق المالي للحقوق
الفكرية.
[3] معرفة الفقه الإسلامي لمفاهيم مرتبطة بالملكية الفكرية:
من
الثابت أن الإسلام يحرص أشد الحرص على صون الأصول العامة التي تحمي الحقوق الأمر
الذي يدعونا أن نقر بأن الفقه الإسلامي عرف كثيرًا من المفاهيم المرتبطة بالملكية
الفكرية والإنتاج الفكري الإنساني عمومًا. ونتج عن هذه المعرفة ظهور قواعد وضوابط
تحكم تطور هذه الملكية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
أولاً: المفاهيم المباشرة (تجميد حماية الملكية الفكرية):
[1]
وضع القواعد والضوابط التي تحكم الملكية الفكرية كفالة للمحافظة على الإنتاج
الفكري والابتكار الذهني عمومًا، وذلك بوضع القواعد الضابطة لاستنساخ المصنفات وما
يرتبط بها من مظاهر كالأمانة العلمية واستهجان السرقات الأدبية.
[2]
ففي مجال الابتكار الذهني أكّد فقهاء الشريعة الإسلامية على أهمية الابتكار
بالنسبة للمؤلف(17) باعتباره شرطًا أساسيًا للإبداع الذهني الذي يجب توفره في
العالم فقد اشترط ابن رشد في مقدمته(18) في العالِم خمسة شروط هي: الذهن الثاقب،
الشهوة الباعثة، العمر الطويل، والجدة، والأستاذية، وهي شروط أغلبها ضرورية ولا
يتوفر الإبداع الذهني للعالِم بدونها.
كما
أكّد ابن المقفع على إدراك العرب الأقدمين لأهم خصائص التأليف التي تتمثل في
الابتكار أو الإبداع الذهني، وحدد بصورة مباشرة إلى ضرورة لجوء العالِم إلى اختراع
المعاني – أي التأليف والابتكار – للأمور المحدثة التي لم يقع قبلها أو لم يسبق
سابق كتابتها لأن الحوادث والوقائع لا تنتهي ولا تقف عند حد.
[3]
هناك تلازم بين اهتمام الإسلام بالإنسان وأهمية الفكر وبالتالي يتأتى أهمية
الملكية الفكرية من أهمية الفكر حيث يعد التفكير أهم مظهر من مظاهر وجود الإنسان،
إذ بالتفكير يتبوأ الإنسان المرتبة السامية ويتميز عن عالم الحيوان كذلك بالتفكير،
يواجه الإنسان كل ما حوله ليكتشف منه ما يساعده على التكيف والبقاء وإنشاء
الحضارات.
ولقد
جعل الله الإنسان خليفته في الأرض وحمّله الأمانة الكبرى من أجل أن يحقق مسؤوليته
من خلال التفكير ويقوم بالتكاليف التي فرضت عليه عند قبوله تلك الأمانة قال تعالى:
(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً)(19). وبهذا يمكن القول إن التفكير نعمة وهي
فطرة، والإسلام دين فطرة. لذا تأتي أهمية صون نعمة التفكير.
[4]
يكاد علماء الإسلام يجمعون على القول بحجية العقل في مجاله، قال الإمام الشافعي –
رحمه الله –: "إن الله تعالى – جل ثناؤه – منّ على العباد بعقولهم بدرجات
مختلفة، وهداهم السبيل إلى الحق نصًا ودلالة"(20). ومن هنا تأتي أهمية
الملكية الفكرية من أهمية العقل بالإسلام إذ لا هداية إلا بالعقل(21).
[5]
وفي مجال الحث على العلم والانتفاع به نظرت الشريعة الإسلامية إلى المؤلف أو
المبتكر نظرة تقدير وإجلال فأصبغت عليه لفظ (العالِم). حيث ورد هذا التمجيد
والتعظيم من شأنه في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة قال
سبحانه وتعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(22). كما
أوجبت الشريعة الإسلامية على الناس التعلم والانتفاع بالعلم، ولم يعادِ الإسلام
التوسع في المعرفة الإنسانية بل حث أتباعه على البحث والنظر ومعرفة التاريخ والاعتبار
بالأمم والأيام بل حث على أخذ الحكمة من أي وعاء خرجت لأن الكلمة الحكمة ضالة
المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها(23).
وفيما
يتصل بتطور الحياة العلمية تركت الشريعة الإسلامية مجالاً رحبًا وواسعًا للعقل
البشري كي يتحرك في دائرة السنن الكونية والاجتماعية تبعًا لثبات أو تغير تلك
السنن. وهذا التغير الدائم في الحياة وما يقابله من تغيير السنن والقوانين اعترف
بها الإسلام ولا يريد أن يقف أمامها أو يجمد المجتمع الإسلامي دونها.
وفي
سبيل تحريك وتفعيل الفكر الإسلامي في داخل ثوابته من الأصول والقواعد العامة عدّ
الإسلام الاجتهاد عملاً صحيحًا ومحببًا في حالتي الصواب والخطأ. وإذا نظرنا إلى
الفكر الاجتهادي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنه على الرغم من أن الفقه
الإٍسلامي في هذا العصر كان فقهًا مبنيًا على الوحي الإلهي ممثلاً في الكتاب
والسنة؛ إلاّ أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في مسائل معينة
تشريعًا لأمته. فمن اجتهاداته عليه السلام أخذه الفداء من أسرى بدر، وإذنه
للمتخلفين عن غزوة تبوك بالبقاء في المدينة لما قدموه من أعذار(24).
وإذا
وصلنا النظر في العصر الحديث لدى رواد تجديد الفكر الإسلامي الشمولي الحركي لدى
الشيخ/ حسن البنا نجده في مجال الاقتصاد يقرر حرمة المال واحترام الملكية الفكرية
الفردية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة(25).
بل
يعزي البعض أن حركة الركود في العالم الإسلامي خاصة في مجال التقنية والابتكارات
عمومًا راجعة في كثير من جوانبها في تكرار المؤلفات والابتكارات في الدول
والجامعات الإسلامية؛ لذا يرون أن معالجتها تتم بالتنسيق بين الدول الإسلامية بوضع
آلية إشرافية موحدة(26) لهذه المؤلفات ولا سيما الرسائل الجامعية والبحوث العلمية
لعدم تكرارتها كسبًا للوقت ووفرًا للجهد. ومن قبل الاهتمام بالبحث العلمي والإنتاج
الفكري كأمر متلازم بالبحث عن وسائل حماية هذا الإنتاج الفكري، إذ نرى أن تقدم
الدول العربية والإسلامية مرهون بالتقدم العلمي ونحن ندلف في الألفية الثالثة،
خاصة والبعض يشير أن هنالك إحصائيات علمية بالغة الدقة تؤكد على أن الطاقات
العلمية والإبداعية والفنية العربية إلى انحسار واضح في جميع المجالات، وبشكل خاص
في حقول البحث العلمي والإنتاج الإبداعي عمومًا. فالطاقات التي كانت موجودة في
كثير من الجامعات ومراكز الأبحاث العربية قد اضطرت إلى الهجرة إلى أوربا وأمريكا
بسبب الروتين الحكومي القاتل، الأمر الذي يدعو إلى تهيئة المناخ والعلماء وتدارك
الوضع بالسرعة القصوى بالاهتمام بالجامعات والمراكز البحثية(27).
ثانيًا: المفاهيم غير المباشرة (المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان
وحرياته):
[1]
الإسلام دين ودنيا قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك
من الدنيا)(28)، حيث أتى الإسلام بنظام كامل وشامل للحياة ليحكم علاقات الناس
وكافة أنماط السلوك سواء أكان هذا السلوك فرديًا أم جماعيًا، وليحكم كذلك غيرها من
العلاقات كالاقتصادية والاجتماعية(29). وبالتالي يكون لكل فرد في المجتمع الحق في
ممارسة العمل المناسب له والملائم لقدراته الذي يكفل له العيش الكريم، وعلى الدولة
أن تهيء الفرص اللازمة لطالبيها حتى يكون لكل فرد عمل أو مهنة تكون مصدرًا للعيش
الحلال يحميه من الالتجاء إلى الطرق غير الشرعية للعيش كالسرقة وغيرها. لذا يحث
الإسلام على العمل بالاعتماد على عمل اليد قال تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا
في الأرض وابتغوا من فضل الله)(30)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أكل
أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان
يأكل من عمل يده"(31).
هكذا
يؤكد أن الإسلام كفل حق العمل في جميع صوره وصان كذلك ممتلكات الفرد وأجلّها حق
الملكية.
[2]
وإذا نظرنا إلى مسألة تحريم مهددات الفرد وممتلكاته؛ نجد أن الإسلام عرف أن النفس
البشرية حريصة دومًا وتواقة للبحث عن الأمن والطمأنينة تنشدهما أينما وجدنا، وما
ذلك إلا حبًا في الاستقرار الذي جُبل عليه الإنسان. والاستقرار لا يتم إلاّ
بالمحافظة على الكليات الخمس وهي: (النفس، المال، العقل، العرض، الدين). ولا شك أن
في حفظ المال ضرورة قصوى، وكيف لا والمال عصب الحياة لذا يكون صون وحماية حق
الملكية ضرورة ما بعدها ضرورة ومن ثم يكون الاعتداء عليه بالسرقة(32) جريمة تؤثر
على أمن الفرد والمجتمع.
[3]
شدد الإسلام على حرية الرأي، وهذا التعبير قد يتجلى في مؤلف أو مبتكر، بل جعل
التعبير عن الرأي واجبًا على كل مسلم وخاصة إذا كان من النوع الذي يدعو إلى الخير
وينهى عن المنكر، وهذا التعبير يتجلى من مؤلف أو مبتكر، لذا نجد هذه الحقوق
الفكرية الحماية الشرعية من الإسلام. وبالتالي لا نتردد بالقول إن صون وحماية هذه
الحقوق الفكرية تكون أولى ونحن نشاهد في هذا العصر كيف أن كافة الأمم تقدس هذه
الحقوق وتعد وتحشد لها المؤتمرات والإعلانات العالمية(33).
[4] حماية الملكية الفكرية وضوابطها وشبهة الاحتكار:
خلصنا
من تناول المفاهيم المتصلة بالملكية الفكرية إلى أنّ هذه الملكية الفكرية مصونة من
الاعتداء، ونرى أن هذه الحماية والصون تقوم على ثوابت معينة ممثلة ف الآتي:
[1]
الملك لله وحده وأن الناس ما هم إلا مستخلفون.
[2]
حق الملكية يتصل بوجود الفرد وبكرامته من جهة، وبناموس العمران من جهة أخرى، وبهذا
المعنى لا تدرك هذه الملكية إلاّ بوجود صاحب الملكية حيث وجدت الملكية له ووجد
لها(34) وتزداد أهمية الملكية كلما يقطع الفرد أشواطًا في المدنية كما هو حاصل
الآن من اهتمام زائد بهذه الحقوق الفردية.
[3]
حق الناس المحتاجين لهذه الملكية مما يحتم وضع قيود عن هذه الحقوق الفردية، وعليه
يكون حسبها المطلق وكأن في الأمر احتكارًا.
لذا
رأت التشريعات المختلفة وضع قيود على هذه الحقوق، وهي قيود ضرورية تحد من أخطار
الملكية المطلقة وتوجيهها الوجهة الصحيحة، نجد هذا في القرآن الكريم والسنة
النبوية الشريفة يمنع الضرر، (لا ضرر ولا ضرار)(35) وغيرها من القواعد الشرعية،
لذا فلا يجوز للملكية الفردية عمومًا أن تنمو نموًا يلحق الضرر بالمصالح الجماعية.
لذا فإذا نمت الملكية الفردية بطرق تخالف المبادئ
الأخلاقية التي أوجب الإسلام رعايتها فلوَلي الأمر حينئذ تقييد هذه الملكية لتحقيق
المصلحة العام، ومن ثم تجد هذه الملكية في إطار تلك القيود الحماية القانونية
والشرعية.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب