مجـلّة الأحـوال الـشخصيّة
رؤية حضاريّة متطوّرة (
بحث فى القانون التونسى )
الأستاذ كمال عمران
لمجلّة الأحوال الشخصيّة من المآثر ما يحوج إلى مدوّنات
ونكتفي في هذا المدخل بالإشارة إلى عمل أشرفنا عليه منذ أربع سنوات اضطلعت به
طالبة كوريّة جنوبية وموضع بحثها " تنقيحات مجلّة الأحوال الشخصيّة (1993) "وقد
انتهت إلى نتيجة ذات بال ملخصها أنّ للمرأة التونسيّة من الحظوة والمكانة ما لم
تحلم به المرأة الكوريّة وأنّ البون بائن بين المرأتين من حيث الوضع القانوني
والاجتماعي. وليست الغاية من المثال الوحيد الذي اخترنا التمجيد والمفاخرة بل الاعتزاز
بمجلّة الأحول الشخصيّة بوصفها حدثا قانونيا مهمّا وباعتبارها ظاهرة حضاريّة لافتة
تلخص رحيقا من الثقافة التونسيّة. وتستدعي البحث والنظر وتبيّن الآفاق المهمّة.
ونستعمل مفهوم الثقافة في هذا البحث بالمعنى
الأنتروبولوجي الاجتماعي ومفاده أنّ الثقافة هي كلّ النشاط الذهني والمادي الذي
يرثه الأفراد عن المجتمعات التي ينتمون إليها وهو المفهوم الذي يعقد صلة جدليّة
بمفهوم الحضارة.
فما هي أبرز الخصائص الحضارية المصاحبة لمجلة الأحوال
الشخصيّة وكيف يفصح العمل القانوني عن سنّن ثقافي ذي صلة بتاريخ الأحداث وتاريخ
الأفكار وتاريخ الذهنيات؟.
السبيل إلى رصد الجوانب الحضاريّة المتعلّقة بمجلّة
الأحوال الشخصيّة عديدة وقد اخترنا منها عناصر تمتّ إلى تاريخ الأفكار وإلى تاريخ
الذهنيات بصلة. ورأينا أن نخضع الرصد لخيط ناظم يعقد وشائج ذات بال بين الكون
الثقافي والكون البيولوجي. وقد تطوّرت الدراسات في هذا الاتجاه حتى أضحت علامة على
مجاراة روح الاكتشافات العلمية في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين. ولهذا
الخيط الناظم فضل في الكشف عن جغرافية الثقافات المختلفة. فقد يكون التوازي بين
البيولوجيا والثقافة مطيّة للتقارب بين الثقافات توقا إلى فكرة التقدّم والتطوّر
والحداثة، وقد يؤدي إلى تزكيّة التفاوت بين الثقافات والصدام بين الحضارات. فله
بعد إيجابي نريد أن نستثمره وبعد سلبي ننبّه إلى الخطر الذي يلازمه لأنّهقد يؤدي
إلى تكريس التفاضل بين البشر وإلى فرض الهيمنة المقيتة.
أوّل فائدة من هذه المقاربة ما تستنفر عنه من التّوازي
الدقيق بين السنن الثقافي والسنن الجيني. فالقائم المشترك بينهما يكمن في ظاهرة
التوارث والعلاقة المعقودة بين الأجداد والحفدة والأسلاف والأخلاف وبمعنى آخر الصلة
بين التراث والمعاصرة أو بين الأصالة والحداثة. ولقد نطق علم الهندسة الوراثية عن
آفاق جديدة مذهلة لعلّ أدناها القدرة الطبيّة على معالجة عدد من الأمراض المنتقلة
عبر شفرة ADN في عالم الأجنة الواسع. فهل يجوز
الكشف المصحي للسنن الثقافي لمعالجة المظاهر العليلة فيه ؟ المهمّ أنّ أبعاد البحث
في المسائل الثقافية قد وجد في البيولوجيا عامة وفي الهندسة الوراثية خاصة المواد الكفيلة
بأن تجعل منها غرضا للمقاربات والآليات المستجدّة وقد انضافت إلى ما هو معروف في
العلوم الإنسانيّة مجرّب منذ ردح من الزمن كعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ
والجغرافيا. وانتهت إلى فكرة جليلة هي إمكانيّة التوق نحو الأفضل دون بتر ثوابت
الثقافيّة.
وما يشدّنا في هذا الخيط الناظم
الإثراء المعرفي الذي يتيح لتاريخ الأفكار ولتاريخ الذهنيات مجالات من الدرس
واسعة. والمتصدى بالبحث لمجلّة الأحوال الشخصيّة من هذا المنظور سيدرك أنّها علامة
على سنن ثقافي متميز يجعل منها منعطفا مهما ناطقا عن التطوّر التواق إلى الأفضل في
تاريخ الثقافة التونسيّة بل يبوّئ تونس منزلة الريادة في محيطها العربي والإسلامي
والمتوسطي والإفريقي وليس من المجازفة أن نقول إنّها منزلة في المحيط الكوني
باعتبار أنّ ما حظيت به تونس منذ صدور مجلّة الأحوال الشخصيّة من مبادرة إلى إيلاء
المرأة المكانة التي هي بها جديرة يفوق بدرجات كثيرة ما استحصلته المرأة في عدد من
البلدان المتقدّمة.
وخلاصة هذا المدخل أن للسنن
الثقافي التونسي تميزا يجدر أن نراعيه ونحن نرصد الجوانب الحضاريّة الحافة بمجلّة
الأحوال الشخصيّة وهي جوانب سابقة ممهّدة معبرة عن قانون للأفكار في تاريخ تونس
الثقافي متطوّر وجوانب منبجسة عن مجلّة الأحوال الشخصيّة انطلاقا من ظهورها إلى
مرحلة التعديلات المهمّة سنة1993.
1-
الخصائص الحضاريّة
السابقة لمجلّة الأحوال الشخصيّة.
الغاية من النظر في الخصائص
الثقافيّة والحضاريّة في تاريخ الأفكار المميّزة لبلادنا، إدراك التناغم بين هذه
الخصائص والوعي أنّ ظهور مجلّة الأحوال الشخصيّة سنة 1956 وإجراؤها عمليا بعد سنة،
مناسب لمناخ ثقافي مهيّىء لمثل هذه المنعطفات المعبّرة عن ذهنيّة متطوّرة تأبى
السكون فضلا عن الجمود، فمجلّة الأحوال الشخصيّة وهي ذات صلة بنظام العائلة في كلّ
أشكالها- النواة للهيئة الاجتماعيّة- منارة داخلة في النسيج الثقافي التونسي. فما
هي أبرز سمات هذا النسيج؟
1-
أ ظاهرة الامتزاج.
توصّل المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب
في "كتابه خلاصة تاريخ تونس" إلى نتيجة ذات بال ومؤداها فكرة الامتزاج وهي
عنده ناجمة عن طاقة تتميز بها البلاد التونسيّة عبر المراحل التاريخية كلّها وهي
أن كل طارئ على أرضها غازيا أو متاجرا أو عابرا يمتزج بأهلها امتزاجا يضفي على كلّ
تلك الأصناف طابع التونسة. فبدل أن يطغى المعادون بفرض ما يحملون من الموروث
المجلوب من تاريخهم الثقافي، يخضعون بفعل الزمن للقانون الثقافي التونسي وينصهرون
في إطار ملائم للبلاد فتعطيهم ما تعطيه لأبنائها وتسبغ عليهم من آلاء تاريخها ما
يجعل انتماءهم الأصلي فرعا وانتمائهم إلى تونس جوهرا. كذا الفنيقيون والرومان
والعرب وكذا النورمان والأسبان وكذا الإسماعليون والإباضية والخوارج يأتون وهم
يرفعون عقيرتهم بصياح يعلن مبادئهم و"انحرافاتهم" فتروضهم تونس وتهديهم
السبيل إلى روح منها عميقة تنصف بالاعتدال.
ما يمكن أن نضيفه إلى فكرة حسن
حسني عبد الوهاب هو أنّ الامتزاج ليس مفتوحا قابلا لأي اتجاه إنه في القراءة التي نقترح
معقود إلى فكرة أخرى جليلة هي الاعتدال. ونفهم الاعتدال على قاعدة التوسّط بين
التفريط والإفراط وهما رذيلتان والاعتدال من العدالة وهي في اصطلاح القدامى جامعة
للفضائل كلّها. فالاعتدال، في سياق هذا المبحث توجيه للرؤى والمواقف ولملامح
التثاقف إلى الأفضل وللامتزاج علاقة بظاهرة المثاقفة وقد تحققت في تاريخ الثقافة التونسيّة
على أساس الترابط العضوي بين النواة والمحيط. النواة هي التونسة فهي الخصائص
المتوارثة في الثقافة التونسيّة منذ ماجون وأبوليوس وحنبعل وأملكار...فضلا عن
الكاهنة وقبلها عليسة إلى عقبة بن نافع وحسان بن نعمان إلى غير هؤلاء من الرجالات
الذين تجرّدوا عن ذاتيتهم ليصبحوا رموزا لأفكار جماعها الفعل والنجاعة والسعي إلى
ما هو أفضل. وليس من شكّ في أنّه كلما تكاثرت الأجناس البشريّة واجتمعت في إطار
مرجعي واحد، أصبح "العقل" أقدر على التوليد والإبداع. ولنا أن نضرب مثلين.
للأوّل صلة بفكرة الأفضل المتعلّقة بالامتزاج، والثانيّة مقترنة بفكرة التوليد
والإبداع.
المثل الأول تاريخي نقدّمه بشكل
موجزا إيجازا مشطا.فقد كانت دولة الاسماعليين إلى سنة 362 هـ دولة شيعية لخّص
العقليّة السائدة خلالها قول الشاعر ابن هاني للمعز لدين الله الفاطمي:
ماشئت لا ما شاءت الأقدار فأحكم فأنت الواحد القهّار
فكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار
فكيف تصدى أهل أفريقية لتشيّع
الفاطميين؟ لم يكن التصدى بالسلاح ولا بالفتن الاجتماعيّة، لقد كان جوهر المواجهة
بالعلم والمعرفة. ويكفي أن نذكر كتابين هما من المصنفات الدالة على ما ذكرنا،
الأول لابن أبي زيد القيرواني وهو الرسالة وهي في الفقه المالكي، والثاني الرسالة
المفصلة لابن الحسن القابسي وفيها من التفصيل في العلم الشرعي ما يحيل إلى ثقافة
سنية مالكية كان العلماء يزرعون مرتكزاتها بقوة الفكرة. إنّه زمن الدعم لثقافة
كانت قد تأسست مع الرواد كالبهلول بن راشد وسحنون وسعيد الحداد ومحرز بن خلف.
تتمثّل الخلاصة في كون النواة وهي
الثقافة السنية امتصت محيطا طارئا كان في ذلك الظرف يعتبر نشازا فلم يقو النشاز
على الثبات إذ رحل الإسماعليون إلى مصر وشيدوا عاصمة جديدة لهم سموها القاهرة.
فتبيّن أنّ الامتزاج منوط بالاعتدال موجّه إلى الأفضل رغم عسر الأوضاع ودقّتها.
واخترنا المثال الثاني من المحيط الحاف
بمجلّة الأحوال الشخصيّة واخترنا ما فيه من التوليد النازع إلى التحديث وإلى
التناغم مع روح العصر.
تلخص المحيط الثقافي الراجع إلى
حقل التشريع والقضاء من خلال شاهدين.
جاء الشاهد الأوّل على لسان محمود
العنابي قال" إنّ المحاكم الشرعيّة هي التي كانت تفصل في دعاوى الحالة
الشخصية للتونسيين المسلمين على مقتضى أحكام الفقه الإسلامي. ويتركب من غرفة
للمذهب المالكي وغرفة للمذهب الحنفي.
والطالب هو الذي يعيّن أحد
المذهبين لينظر في الدعوى على مقتضاه ولخصمه أن يطلب نقل الدعوى إلى المذهب الأخر،
فيجيبه القاضي حتما على طلبه. وإزاء هذا التشهي...وقع التفكير في الحدّ من شدته
فصدر قانون 23 مارس 1948 بتخصيص المذهب المالكي بالنظر في قضايا الطلاق وصحة التبرّع
في المشاع والوصيّة للمعدوم، وتخصيص المذهب الحنفي بالنظر في شفعة الجوار وإجبار
الأب وابنته البكر البالغ على الزواج. أمّا في غيرها فيبقى الحق للمدّعى عليه في
الخيار وبالإضافة إلى هذا فإنّ القواعد المنطبقة ليست معلومة من قبل من طرف
المتقاضين لتشتت مصادر الفقه الإسلامي وعدم إمكان الاطلاع عليها من الجميع( مجلّة
القضاء والتشريع العدد 7،1967 ص 711).
وجاء الشاهد الثاني بقلم القاضي
إبراهيم عبد الباقي وملخص ما رأى أن الفصل الثالث من مجلّة الأحوال الشخصيّة (13
أوت 1956) غير ملائم للتطبيق بصفة مطلقة على كلّ التونسيين وخاصة منهم اليهود وغيرهم
ممن لا يدينون بالإسلام الخاضعون لأحكام القانون الفرنسي حسب الأمر المؤرخ في 12
جويلية 1956. وقد رأى المشرّع التونسي بعد أن دخلت المجلّة حيّز التنفيذ أنّه لا
وجه ليبقى اليهود والمسيحيون خاضعين لقواعد خاصة وأنّه آن الأوان ليدمجوا في
منظومة موحدة فنتج ابطال العمل بالفصول الثالث والرابع والخامس من مجلّة 13 أوت
1956 وذلك بمقتضى أحكام الفصل الخامس من القانون عدد 40 لسنة 1957 المؤرّخ في سبتمبر
1957 وقد قضى هذا القانون على وجود مجالس الأحبار ونسخ الأمر المؤرخ في 28 نوفمبر
1898 الداعي إلى إنشائها وكذلك الأمر في 3 سبتمبر 1872 والأمرين المؤرخين في 28
نوفمبر 1898 الداعي إلى إنشائها وكذلك الأمر في 3 سبتمبر 1898 و25 جانفي 1905 وهما
يتضمنان لقواعد الإرث الإسرائيلي. كما نسخ الفقرة الثانيّة من الفصل الأول للأمر
المؤرخ في 12 جويلية 1956 وكانت خاصة بالتونسيين غير المسلمين وغير اليهود وترجعهم
إلى القانون الفرنسي.
وأفضى هذا التنقيح بالنسخ إلى وجوب
في تطبيق قانون الأحوال الشخصيّة على كلّ التونسيين مهما كان معتقدهم دونما تمييز-مجلة
القضاء والتشريع العدد 7 جويلية 1967 ص 501.
خلاصة هذين الرأيين أنّ مجلّة الأحوال
الشخصيّة لا تقنع بكونها مجلّة تشريع بل إنّ لها خصائص حضاريّة مهمّة انتقينا منها
ملمح الامتزاج المتميّز بالتوق العملي إلى الأفضل.
رؤية حضاريّة متطوّرة (
بحث فى القانون التونسى )
الأستاذ كمال عمران
لمجلّة الأحوال الشخصيّة من المآثر ما يحوج إلى مدوّنات
ونكتفي في هذا المدخل بالإشارة إلى عمل أشرفنا عليه منذ أربع سنوات اضطلعت به
طالبة كوريّة جنوبية وموضع بحثها " تنقيحات مجلّة الأحوال الشخصيّة (1993) "وقد
انتهت إلى نتيجة ذات بال ملخصها أنّ للمرأة التونسيّة من الحظوة والمكانة ما لم
تحلم به المرأة الكوريّة وأنّ البون بائن بين المرأتين من حيث الوضع القانوني
والاجتماعي. وليست الغاية من المثال الوحيد الذي اخترنا التمجيد والمفاخرة بل الاعتزاز
بمجلّة الأحول الشخصيّة بوصفها حدثا قانونيا مهمّا وباعتبارها ظاهرة حضاريّة لافتة
تلخص رحيقا من الثقافة التونسيّة. وتستدعي البحث والنظر وتبيّن الآفاق المهمّة.
ونستعمل مفهوم الثقافة في هذا البحث بالمعنى
الأنتروبولوجي الاجتماعي ومفاده أنّ الثقافة هي كلّ النشاط الذهني والمادي الذي
يرثه الأفراد عن المجتمعات التي ينتمون إليها وهو المفهوم الذي يعقد صلة جدليّة
بمفهوم الحضارة.
فما هي أبرز الخصائص الحضارية المصاحبة لمجلة الأحوال
الشخصيّة وكيف يفصح العمل القانوني عن سنّن ثقافي ذي صلة بتاريخ الأحداث وتاريخ
الأفكار وتاريخ الذهنيات؟.
السبيل إلى رصد الجوانب الحضاريّة المتعلّقة بمجلّة
الأحوال الشخصيّة عديدة وقد اخترنا منها عناصر تمتّ إلى تاريخ الأفكار وإلى تاريخ
الذهنيات بصلة. ورأينا أن نخضع الرصد لخيط ناظم يعقد وشائج ذات بال بين الكون
الثقافي والكون البيولوجي. وقد تطوّرت الدراسات في هذا الاتجاه حتى أضحت علامة على
مجاراة روح الاكتشافات العلمية في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين. ولهذا
الخيط الناظم فضل في الكشف عن جغرافية الثقافات المختلفة. فقد يكون التوازي بين
البيولوجيا والثقافة مطيّة للتقارب بين الثقافات توقا إلى فكرة التقدّم والتطوّر
والحداثة، وقد يؤدي إلى تزكيّة التفاوت بين الثقافات والصدام بين الحضارات. فله
بعد إيجابي نريد أن نستثمره وبعد سلبي ننبّه إلى الخطر الذي يلازمه لأنّهقد يؤدي
إلى تكريس التفاضل بين البشر وإلى فرض الهيمنة المقيتة.
أوّل فائدة من هذه المقاربة ما تستنفر عنه من التّوازي
الدقيق بين السنن الثقافي والسنن الجيني. فالقائم المشترك بينهما يكمن في ظاهرة
التوارث والعلاقة المعقودة بين الأجداد والحفدة والأسلاف والأخلاف وبمعنى آخر الصلة
بين التراث والمعاصرة أو بين الأصالة والحداثة. ولقد نطق علم الهندسة الوراثية عن
آفاق جديدة مذهلة لعلّ أدناها القدرة الطبيّة على معالجة عدد من الأمراض المنتقلة
عبر شفرة ADN في عالم الأجنة الواسع. فهل يجوز
الكشف المصحي للسنن الثقافي لمعالجة المظاهر العليلة فيه ؟ المهمّ أنّ أبعاد البحث
في المسائل الثقافية قد وجد في البيولوجيا عامة وفي الهندسة الوراثية خاصة المواد الكفيلة
بأن تجعل منها غرضا للمقاربات والآليات المستجدّة وقد انضافت إلى ما هو معروف في
العلوم الإنسانيّة مجرّب منذ ردح من الزمن كعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ
والجغرافيا. وانتهت إلى فكرة جليلة هي إمكانيّة التوق نحو الأفضل دون بتر ثوابت
الثقافيّة.
وما يشدّنا في هذا الخيط الناظم
الإثراء المعرفي الذي يتيح لتاريخ الأفكار ولتاريخ الذهنيات مجالات من الدرس
واسعة. والمتصدى بالبحث لمجلّة الأحوال الشخصيّة من هذا المنظور سيدرك أنّها علامة
على سنن ثقافي متميز يجعل منها منعطفا مهما ناطقا عن التطوّر التواق إلى الأفضل في
تاريخ الثقافة التونسيّة بل يبوّئ تونس منزلة الريادة في محيطها العربي والإسلامي
والمتوسطي والإفريقي وليس من المجازفة أن نقول إنّها منزلة في المحيط الكوني
باعتبار أنّ ما حظيت به تونس منذ صدور مجلّة الأحوال الشخصيّة من مبادرة إلى إيلاء
المرأة المكانة التي هي بها جديرة يفوق بدرجات كثيرة ما استحصلته المرأة في عدد من
البلدان المتقدّمة.
وخلاصة هذا المدخل أن للسنن
الثقافي التونسي تميزا يجدر أن نراعيه ونحن نرصد الجوانب الحضاريّة الحافة بمجلّة
الأحوال الشخصيّة وهي جوانب سابقة ممهّدة معبرة عن قانون للأفكار في تاريخ تونس
الثقافي متطوّر وجوانب منبجسة عن مجلّة الأحوال الشخصيّة انطلاقا من ظهورها إلى
مرحلة التعديلات المهمّة سنة1993.
1-
الخصائص الحضاريّة
السابقة لمجلّة الأحوال الشخصيّة.
الغاية من النظر في الخصائص
الثقافيّة والحضاريّة في تاريخ الأفكار المميّزة لبلادنا، إدراك التناغم بين هذه
الخصائص والوعي أنّ ظهور مجلّة الأحوال الشخصيّة سنة 1956 وإجراؤها عمليا بعد سنة،
مناسب لمناخ ثقافي مهيّىء لمثل هذه المنعطفات المعبّرة عن ذهنيّة متطوّرة تأبى
السكون فضلا عن الجمود، فمجلّة الأحوال الشخصيّة وهي ذات صلة بنظام العائلة في كلّ
أشكالها- النواة للهيئة الاجتماعيّة- منارة داخلة في النسيج الثقافي التونسي. فما
هي أبرز سمات هذا النسيج؟
1-
أ ظاهرة الامتزاج.
توصّل المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب
في "كتابه خلاصة تاريخ تونس" إلى نتيجة ذات بال ومؤداها فكرة الامتزاج وهي
عنده ناجمة عن طاقة تتميز بها البلاد التونسيّة عبر المراحل التاريخية كلّها وهي
أن كل طارئ على أرضها غازيا أو متاجرا أو عابرا يمتزج بأهلها امتزاجا يضفي على كلّ
تلك الأصناف طابع التونسة. فبدل أن يطغى المعادون بفرض ما يحملون من الموروث
المجلوب من تاريخهم الثقافي، يخضعون بفعل الزمن للقانون الثقافي التونسي وينصهرون
في إطار ملائم للبلاد فتعطيهم ما تعطيه لأبنائها وتسبغ عليهم من آلاء تاريخها ما
يجعل انتماءهم الأصلي فرعا وانتمائهم إلى تونس جوهرا. كذا الفنيقيون والرومان
والعرب وكذا النورمان والأسبان وكذا الإسماعليون والإباضية والخوارج يأتون وهم
يرفعون عقيرتهم بصياح يعلن مبادئهم و"انحرافاتهم" فتروضهم تونس وتهديهم
السبيل إلى روح منها عميقة تنصف بالاعتدال.
ما يمكن أن نضيفه إلى فكرة حسن
حسني عبد الوهاب هو أنّ الامتزاج ليس مفتوحا قابلا لأي اتجاه إنه في القراءة التي نقترح
معقود إلى فكرة أخرى جليلة هي الاعتدال. ونفهم الاعتدال على قاعدة التوسّط بين
التفريط والإفراط وهما رذيلتان والاعتدال من العدالة وهي في اصطلاح القدامى جامعة
للفضائل كلّها. فالاعتدال، في سياق هذا المبحث توجيه للرؤى والمواقف ولملامح
التثاقف إلى الأفضل وللامتزاج علاقة بظاهرة المثاقفة وقد تحققت في تاريخ الثقافة التونسيّة
على أساس الترابط العضوي بين النواة والمحيط. النواة هي التونسة فهي الخصائص
المتوارثة في الثقافة التونسيّة منذ ماجون وأبوليوس وحنبعل وأملكار...فضلا عن
الكاهنة وقبلها عليسة إلى عقبة بن نافع وحسان بن نعمان إلى غير هؤلاء من الرجالات
الذين تجرّدوا عن ذاتيتهم ليصبحوا رموزا لأفكار جماعها الفعل والنجاعة والسعي إلى
ما هو أفضل. وليس من شكّ في أنّه كلما تكاثرت الأجناس البشريّة واجتمعت في إطار
مرجعي واحد، أصبح "العقل" أقدر على التوليد والإبداع. ولنا أن نضرب مثلين.
للأوّل صلة بفكرة الأفضل المتعلّقة بالامتزاج، والثانيّة مقترنة بفكرة التوليد
والإبداع.
المثل الأول تاريخي نقدّمه بشكل
موجزا إيجازا مشطا.فقد كانت دولة الاسماعليين إلى سنة 362 هـ دولة شيعية لخّص
العقليّة السائدة خلالها قول الشاعر ابن هاني للمعز لدين الله الفاطمي:
ماشئت لا ما شاءت الأقدار فأحكم فأنت الواحد القهّار
فكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار
فكيف تصدى أهل أفريقية لتشيّع
الفاطميين؟ لم يكن التصدى بالسلاح ولا بالفتن الاجتماعيّة، لقد كان جوهر المواجهة
بالعلم والمعرفة. ويكفي أن نذكر كتابين هما من المصنفات الدالة على ما ذكرنا،
الأول لابن أبي زيد القيرواني وهو الرسالة وهي في الفقه المالكي، والثاني الرسالة
المفصلة لابن الحسن القابسي وفيها من التفصيل في العلم الشرعي ما يحيل إلى ثقافة
سنية مالكية كان العلماء يزرعون مرتكزاتها بقوة الفكرة. إنّه زمن الدعم لثقافة
كانت قد تأسست مع الرواد كالبهلول بن راشد وسحنون وسعيد الحداد ومحرز بن خلف.
تتمثّل الخلاصة في كون النواة وهي
الثقافة السنية امتصت محيطا طارئا كان في ذلك الظرف يعتبر نشازا فلم يقو النشاز
على الثبات إذ رحل الإسماعليون إلى مصر وشيدوا عاصمة جديدة لهم سموها القاهرة.
فتبيّن أنّ الامتزاج منوط بالاعتدال موجّه إلى الأفضل رغم عسر الأوضاع ودقّتها.
واخترنا المثال الثاني من المحيط الحاف
بمجلّة الأحوال الشخصيّة واخترنا ما فيه من التوليد النازع إلى التحديث وإلى
التناغم مع روح العصر.
تلخص المحيط الثقافي الراجع إلى
حقل التشريع والقضاء من خلال شاهدين.
جاء الشاهد الأوّل على لسان محمود
العنابي قال" إنّ المحاكم الشرعيّة هي التي كانت تفصل في دعاوى الحالة
الشخصية للتونسيين المسلمين على مقتضى أحكام الفقه الإسلامي. ويتركب من غرفة
للمذهب المالكي وغرفة للمذهب الحنفي.
والطالب هو الذي يعيّن أحد
المذهبين لينظر في الدعوى على مقتضاه ولخصمه أن يطلب نقل الدعوى إلى المذهب الأخر،
فيجيبه القاضي حتما على طلبه. وإزاء هذا التشهي...وقع التفكير في الحدّ من شدته
فصدر قانون 23 مارس 1948 بتخصيص المذهب المالكي بالنظر في قضايا الطلاق وصحة التبرّع
في المشاع والوصيّة للمعدوم، وتخصيص المذهب الحنفي بالنظر في شفعة الجوار وإجبار
الأب وابنته البكر البالغ على الزواج. أمّا في غيرها فيبقى الحق للمدّعى عليه في
الخيار وبالإضافة إلى هذا فإنّ القواعد المنطبقة ليست معلومة من قبل من طرف
المتقاضين لتشتت مصادر الفقه الإسلامي وعدم إمكان الاطلاع عليها من الجميع( مجلّة
القضاء والتشريع العدد 7،1967 ص 711).
وجاء الشاهد الثاني بقلم القاضي
إبراهيم عبد الباقي وملخص ما رأى أن الفصل الثالث من مجلّة الأحوال الشخصيّة (13
أوت 1956) غير ملائم للتطبيق بصفة مطلقة على كلّ التونسيين وخاصة منهم اليهود وغيرهم
ممن لا يدينون بالإسلام الخاضعون لأحكام القانون الفرنسي حسب الأمر المؤرخ في 12
جويلية 1956. وقد رأى المشرّع التونسي بعد أن دخلت المجلّة حيّز التنفيذ أنّه لا
وجه ليبقى اليهود والمسيحيون خاضعين لقواعد خاصة وأنّه آن الأوان ليدمجوا في
منظومة موحدة فنتج ابطال العمل بالفصول الثالث والرابع والخامس من مجلّة 13 أوت
1956 وذلك بمقتضى أحكام الفصل الخامس من القانون عدد 40 لسنة 1957 المؤرّخ في سبتمبر
1957 وقد قضى هذا القانون على وجود مجالس الأحبار ونسخ الأمر المؤرخ في 28 نوفمبر
1898 الداعي إلى إنشائها وكذلك الأمر في 3 سبتمبر 1872 والأمرين المؤرخين في 28
نوفمبر 1898 الداعي إلى إنشائها وكذلك الأمر في 3 سبتمبر 1898 و25 جانفي 1905 وهما
يتضمنان لقواعد الإرث الإسرائيلي. كما نسخ الفقرة الثانيّة من الفصل الأول للأمر
المؤرخ في 12 جويلية 1956 وكانت خاصة بالتونسيين غير المسلمين وغير اليهود وترجعهم
إلى القانون الفرنسي.
وأفضى هذا التنقيح بالنسخ إلى وجوب
في تطبيق قانون الأحوال الشخصيّة على كلّ التونسيين مهما كان معتقدهم دونما تمييز-مجلة
القضاء والتشريع العدد 7 جويلية 1967 ص 501.
خلاصة هذين الرأيين أنّ مجلّة الأحوال
الشخصيّة لا تقنع بكونها مجلّة تشريع بل إنّ لها خصائص حضاريّة مهمّة انتقينا منها
ملمح الامتزاج المتميّز بالتوق العملي إلى الأفضل.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب