الجريمة المستحيلة في الفقه والقانون والقضاء
حسن الحلو nejef49@ydhoo.com
مقدمة :
الانسان كائن مزدوج في طبيعته خلق من مادة وروح . واودع فيه نوعان من القوى، نوع تأخذ بيده الى الخير واخرى تدفعه الى الشر وهذه الحقيقة ذكرها القرآن الكريم { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها }. نتج عن ذلك ان كان للانسان نوعان من السلوك، مايتفق مع الاخلاق والقانون والنظام ومايختلف عنها. وغالبا ما يمر كلا النوعين بمرحلتين: مرحلة داخلية نفسية لاعلاقة لها بالمادة واخرى خارجية وذات طبيعة مادية تتحسسها الحواس. وكثيرا ما تسبق المرحلة النفسية المرحلة المادية فلا يقوم الانسان بتنفيذ عمل الا بعد التصميم على القيام به. وتسبق كلا المرحلتين مرحلة تمهيدية فلا يصمم الانسان على عمل شئ الا بعد التفكير به مليا، ولا يقوم بتنفيذه الا بعد التمهيد لهذا التنفيذ والوصول الى مبتغاه.
فالسلوك بشكل عام هو مجموعة الافعال الداخلية ( الذهنية ) والخارجية ( المادية ) والتي بواسطتها يحقق الانسان ما يريد ان خيرا ً فخير وان شرا فشر. فمن يريد اقامة ملجئ للايتام ، لابد ان يفكر في الموضوع مليا ، موازنا بين حسناته وسيئاته فاذا مارجحت الحسنات ينتقل الى مرحلة اخرى اكثر اهمية الا وهي مرحلة التصميم والعزم على تنفيذ العمل . ومتى بدأ بالتهيئة للتنفيذ فيكون قد انتقل من المرحلة النفسية الى المرحلة التمهيدية لمرحلة التنفيذ، وهي اعداد وتحضير الوسائل الضرورية. وما ان يفرغ من التمهيد للمرحلة المادية حتى ينتقل الى تنفيذ العمل والوصول الى النتيجة التي ارادها الفاعل الا وهي بناء الملجئ.
ما قيل بالنسبة للسلوك النافع يقال ايضا في السلوك الضار وما يهدف اليه من نتيجة ضارة او جرمية حيث يمر الفاعل بنفس المراحل السابقة. فلو اراد شخص قتل آخر يتعين عليه ان يفكر في الامر، ويوازن بين ما يحقق رغباته ونزواته وبين ما يلحق به من اضرار. فاذا ما اوصله تفكيره الى الاتيان بفعل القتل فانه ينتقل الى مرحلة التصميم ليبدأ بعدها بتهيئة وتحضير الوسائل اللازمة للقيام بجريمة القتل مثل شراء سلاح والتدريب عليه، وما ان يفرغ من المرحلة الاخيرة حتى يبدأ التنفيذ وقد يصل الى النتيجة او لا يصل.
مراحل الجريمة
ان المراحل التي تمر بها الجريمة قبل وقوعها ثلاث:
1- مرحلة التفكير والتصميم
2- مرحلة الاعداد والتحضير.
3- مرحلة البدء بالتنفيذ.
الجاني في مرحلة التنفيذ قد يتعامل عن قرب مع محل الجريمة. كما لوضع سما في طعام المجني عليه، او يأخذ حبلا ويتسلق ليدخل بيت المجني عليه لسرقته. او قد يتعامل بشكل مباشر مع محل الجريمة كما لو اطلق النار على المجني عليه، او السارق الذي يضع يده على المال المسروق وقد يصل الى النتيجة التي يريدها او تفلت النتيجة فلا يصل الى مايتوخاه. وعلى ذلك نكون امام احتمالين :
الاول : ان يكمل الجاني نشاطه الاجرامي وتتحقق تبعا لذلك النتيجة المقصودة ، وهذه الجريمة التامة. كما لوطعن شخص آخرَ بسكين فارداه قتيلا. او كما لو وضع السارق المال المسروق تحت حيازته.
الاحتمال الثاني : ان يتخلف اهم عنصر في الجريمة الا وهو عنصر النتيجة. فنكون امام الشروع في الجريمة او الجريمة الناقصة. وبما ان للشروع حد ادنى ويسمى الشروع الناقص، وحد اقصى وهو الشروع التام، لذلك نكون امام صورتين للشروع :
الاولى :ان عدم تمام الجريمة وفق هذه الصورة عائد الى عدم اتمام الفاعل لنشاطه الاجرامي. وبعبارة اخرى عدم تمام الافعال المادية المكونة للجريمة او عدم اكمال ماديات الجريمة. وتوقف الجاني عن اتمام نشاطه الاجرامي يعود لاسباب خارجية لا دخل لارادته فيها. كمن يحاول الانتحار ويصوب المسدس نحو رأسه فيأتي آخريخطف المسدس من يده. او السارق الذي يدخل المتجر لسرقته وعندما يحاول كسر الخزانة يتم ضبطه ولا يتمكن من وضع يده على النقود. فيكون الفاعل قد منع عن اتمام فعله بفعل فاعل آخر لادخل لارادة الجاني فيه. وهذه حالة الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة.
وفي الجريمة الناقصة يمكن تصور عدول الجاني عن اتمام فعله وعدم اكمال جريمته بأرادته ورغبته. كما لوحاول شخص قتل آخر وصوب المسدس نحوه ثم يمتنع عن اطلاق النار عليه رأفة من الجاني بالمجني عليه. او حالة السارق الذي يمتنع عن سرقة الاموال لانها تعود الى ايتام وطالما ان العدول تم بأرادة ورغبة الجاني لا بسبب خارجي فيسمى بالعدول الاختياري.
ولا بد ان تتوافر في العدول الاختياري شروط معينه حتى لا يكون منتجا للشروع المعاقب عليه :
1- ان يحصل العدول الاختياري قبل تمام الشروع في الجريمة، فاذا ماحصل بعد ذلك يتحقق الشروع المعاقب عليه. كما لو اخذته الرأفة بالمجني عليه قبل اطلاق الرصاص عليه. اما لو اطلق رصاصة فأخطأته ثم عدل بعد ذلك فيكون الشروع المعاقب عليه قد تحقق. ولا عبرة بالعدول اذا ماحصل بعد اتمام الجريمة وهو ما يسمى بالتوبة الايجابية، ويُسأل الجاني عن الجريمة كاملة. كما لواعاد السارق ما سرقه الى المجني عليه. ( 1 )
2- الا يكون العدول اضطراريا. فاذا ما تحققت في العدول الصفة الاضطرارية فهذا يعني تحقق الشروع وبالتالي استحقاق الجاني للعقاب عليه، كما لاعبرة بتوهم الجاني. فلو احس السارق بوقع اقدام وظن انه صاحب البيت او شرطي او كان فعلا كذلك وهرب فلا يؤخذ بعدوله انما يعتبر شارعا في جريمة السرقة.( 2 )
الثانية : وهي اذا ماقام الجاني بكل الافعال المادية المكونة للجريمة حتى نهايتها، ولم تبق خطوة تفصل بين الجاني والنتيجة، ومع ذلك تفلت النتيجة التي قصدها الجاني من سلوكه لسبب لا دخل لارادته فيه، والنتيجة في هذه الحالة تكون ممكنة الوقوع في ظروف النشاط الاجرامي الذي قام به الجاني. كما لو اطلق النار من مسدسه على خصمه فلم يصبه او أصابه في غير مقتل او تم اسعافه في المستشفى، ويسمى فعل الفاعل هذا بالشروع التام لآنه اتم كل نشاطه الاجرامي ما عدى النتيجة حيث يعتبر تخلفها من طبيعة الشروع ،وتسمى بالجريمة الخائبة.
وعلى عكس الصورة الاولى ففي هذه الصورة (الثانية) لا يُتصورعدول الجاني بأختياره عن اتمام جريمته. لان العدول الاختياري يتحقق في الغالب في الجريمة الموقوفة. ولا يمكن تصوره في الجريمة الخائبة الا في حالة كون عمل الجاني مما يمكن تداركه بعد وقوعه وقبل ان ينتج اثره كما لو حاول شخص قتل خصمه بأغراقه فألقاه بالنهر، وبعد ذلك يعدل بأختياره ولم يشأ ان يتم جريمته فيمد له يد المساعدة فينقذه من الغرق. وعلى العكس اذا كان فعل الجاني مما لايمكن تداركه، وكان وحده كافيا لاتمام الجريمة الا ان سببا خارجيا لادخل لارادة الجاني به حال دون وقوع النتيجة ، فان الفاعل يعد شارعا في الجريمة. كما لو اطلق شخص النار على خصمه بقصد قتله فأخطأه ثم عدل عن اتمام قصده فلم يطلق رصاصة اخرى، يعتبر في هذه الحالة مرتكبا لجريمة الشروع في القتل ويعاقب على فعله.
تتفرع عن الصورة الثانية جريمة اخرى تتشابه معها من ناحية سلوك الجاني ومن حيث النتيجة ، الا انها تختلف عنها في ان النتيجة اذا كانت ممكنة الحدوث في ظل ظروف النشاط الاجرامي في الاولى، فهي في الثانية لم ولن تتحقق مهما بذل الجاني من جهد في سبيل اتمامها. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فاذا به فارق الحياة قبل اطلاق النار .او كمن يمد يده في جيب المجني عليه فيجده خاليا من المحفظة. او من يكسر خزانة النقود فيجدها فارغة، وهذه هي الجريمة المستحيلة. ومن هنا يتبين ان الجريمة المستحيلة هي صورة من الشروع التام .
البدء بتنفيذ الشروع
اذا عرفنا نهاية الشروع التي تختلف اختلافا كاملا من حيث النتيجة عن نهاية الجريمة التامة فهل ان بدايته كذلك ؟
يقال ان الشروع يبدأحيث تبدأ الجريمة التامة ، ولكنه يختلف عنها في نهايته . وهذا ما اتفقت عليه الكثير من التشريعات فنصت على ان الشروع يبدأ من مرحلة التنفيذ واستثنت مرحلتي العزم والتحضير. وهذا مافعله المشرع العراقي في المادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل والتي جاء فيها بأن الشروع (وهو البدء في تنفيذ فعل [ ... ] ولا يعد شروعا مجرد العزم على ارتكاب الجريمة ولا الاعمال التحضيرية لذلك ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ). وكذلك فعل المشرع المصري في المادة 45 من قانون العقوبات (الشروع هو البدء في تنفيذ فعل [...] ولا يعتبر شروعا في الجناية او الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الاعمال التحضيرية لذلك ) .
الا ان غالبية التشريعات لم تعرّف البدء بالتنفيذ وهنا تبرز مشكلة الفصل والتمييزبين الاعمال التحضيرية واعمال البدء بالتنفيذ. فاذا كان الفصل بينهما واضحا وسهلا في بعض الاحيان، الا ان الامر ليس كذلك في احيان اخرى .
فمن يشتري سلاحا ناريا، او من يتدرب على استعماله فانه يقوم بعمل تحضيري، لان الفاعل لم يتعامل بصورة مباشرة مع محل الجريمة او بشكل قريب منها. ولكن في حالة خلط الجاني السم بطعام المجني عليه وتقديمه له او مد يده في جيب المجني عليه وسحب المحفظة منه او من يطلق النار على المجني عليه ففي هذه الحالة يكون الفاعل قد جاء بافعال تنفيذية لانه تعامل مباشرة مع محل الجريمة .والتمييز بين الافعال من الطائفة الاولى والثانية واضح ولا يثير اشكالا.
لكن في احوال اخرى تكون منطقة وسطى بين المرحلتين تمتاز بالضبابية بحيث يصعب فيها تحديد الافعال لاية مرحلة تعود. فلو ضبط الجاني حاملا سلاحه ومتجها الى مكان ارتكاب الجريمة او قبض عليه متربصا للمجني عليه او حالة ما اذا ضبط الجاني وهو يتسلق جدار المنزل لغرض الدخول اليه وسرقته. فهل تمثل هذه الاعمال اعلى درجات الاعمال التحضيرية ام انها تمثل ادنى درجات الاعمال التنفيذية؟
تظهر صعوبة التمييز بين المرحلتين في الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة حيث لم يستكمل الجاني كل نشاطه، على ان في تحديد عمله تقريرا لمصيره، فاذا كان من اعمال التحضير يكون معفيا من العقاب على عكس ما اذا كان ما قام به من عمل يعد بدء بالتنفيذ فيتحقق فيه الشروع المعاقب عليه .ولا يثير الامر اية صعوبة في الشروع التام او الجريمة الخائبة لان الجاني قد استكمل كل نشاطه الاجرامي ويخضع لعقوبة الشروع في الجريمة .
ان للتمييز بين الاعمال التحضيرية والاعمال التنفيذية اهمية كبيرة يتجلى اثرها في العقاب على الفعل حيث لا عقاب على اعمال التحضير بينما تقع اعمال البدء بالتنفيذ تحت طائلة العقاب هذا من جهة . ومن جهة اخرى فان التمييز بين عمل المرحلتين تظهر اهميته في الجريمة المستحيلة حيث يبدأ الجاني بالتنفيذ وان تخلفت النتيجة فهل يعتبر بدء التنفيذ سببا لعقابه ام انه يعفى من العقاب لأن استحالة تمام الجريمة لازم الجاني منذ البدء بالتنفيذ؟ وهذا ما سنتناوله في العقاب على الجريمة المستحيلة .
لاهمية التمييز بين اعمال المرحلتين كما اسلفنا ولسكوت غالبية التشريعات عن تعريف اعمال البدء بالتنفيذ ،ولضرورة وضع معيار للتمييز بينهما فقد تصدى الفقهاء لهذه المهمة ولكنهم انقسموا الى مذهبين:
المذهب المادي:
اعتمد انصارهذا المذهب السلوك الاجرامي وما ينتجه من ضرر وما يكشف عنه من خطر معيارا لتحديد البدء بالتنفيذ. ووفقا لذلك يرون ان التنفيذ يبدأ متى بدأ الفاعل بتنفيذ الافعال المادية المكونة للجريمة وكما يتطلبها النموذج القانوني . فعندما يعرف القانون جريمة السرقة على انها اختلاس مال منقول مملوك للغير، وبما ان الاختلاس لا يتحقق الا بوضع اليد على المال المراد سرقته . فيكون وضع اليد في هذه الحالة العمل الذي يبدأ به الجاني سلوكه الاجرامي. اما في جريمة القتل فأي عمل يقوم به الجاني ويتعامل به مع المجني عليه للوصول الى النتيجة التي يتوخاها يعتبر بدء بالتنفيذ كما لو اطبق يديه على رقبة المجني عليه او كما لو اطلق النار عليه . اما اذا دخل الجاني منزل المجني عليه لغرض قتله فلا يعتبر دخول المنزل من ضمن الركن المادي لجريمة القتل . وحجتهم في ذلك ان القانون وهو يعرف جريمة القتل لم يعتبر الدخول في المنزل من اعمال البدء بالتنفيذ في الجريمة المذكورة.
بالرغم من سهولة ووضوح المعيار الذي تبناه المذهب المادي الا انه يضيق من نطاق الشروع فيوسع من دائرة الاعمال التحضيرية الغير معاقب عليها وبذلك يؤثر سلبا على الحماية للمجتمع التي هي من الاهداف الرئيسية لقانون العقوبات بسبب افلات الكثير من العقاب ممن لايجوز السكوت على اعمالهم لخطورتها. فدخول المنزل لغرض السرقة حسب اصحاب المذهب المادي لا يعتبر بدء بالتنفيذ لأن الجاني لم يضع يده على المال المراد سرقته. وبما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ فيكون دخول المنزل غير معاقب عليه مع خطورته.
نتيجة الانتقادات المذكورة وغيرها حاول اصحاب هذا الرأي التوسع في مرحلة البدء بالتنفيذ فقالوا بأن افعال المرحلة المذكورة لا تقتصر فقط على الافعال المادية او السلوك الذي به يتحقق الركن المادي للجريمة وانما اضافوا اليها ما اعتبره القانون ظرفا مشددا للجريمة . وحيث ان القانون اعتبر التسور وكسر الابواب ظرفا مشددا في جريمة السرقة فانها تدخل ضمن اعمال مرحلة التنفيذ.
ما يؤخذ على اصحاب الرأي الثاني من المذهب المادي هو انه من غير المنطقي ان تعتبر عملا معينا في الليل من ضمن مرحلة التنفيذ اما في النهار فنفس العمل يدخل ضمن مرحلة التحضير لا لسبب الا لان القانون اعتبر الليل ظرفا مشددا في جريمة السرقة .اضافة الى ان الرأي المذكور يؤدي الى التفرقة بين الجرائم فما يعتبر عملا تنفيذيا في جريمة ما لا يعتبر كذلك في جريمة اخرى . فمن تسور المنزل لغرض السرقة يعتبر قد بدأ عملا ماديا يتحقق معه الشروع في السرقة لان المشرع اعتبر التسور ظرفا مشددا. اما من تسور لغرض قتل خصمه فلا يعتبر شارعا في جريمة القتل لان القانون لا يعتبر التسور ظرفا مشددا في جريمة القتل. (3)
لذلك اتجه فريق من انصار المذهب المادي الى معيار آخر هو ( التأويل )فاذا كان بالامكان تأويل الفعل كان من افعال التحضير اما اذا لم يقبل الا تأويلا واحدا ويكشف عن نية الجاني فيعتبر من اعمال التنفيذ. والرأي الاخير لا يخلو من انتقادات فالفعل الذي لا يقبل الا تأويلا واحدا قد لا يكون موجودا فدخول المنزل كما يمكن ان يكون للسرقة يمكن ان يكون للنجدة (4).
المذهب الشخصي :
يرى انصار هذا المذهب بأن العقوبة التي يقررها القانون على الشروع لا يكون الهدف منها هو مواجهة سلوك الجاني الاجرامي لان هذا السلوك لم يحقق نتيجته ، وانما الهدف من العقوبة هو ما يكشف السلوك عنه من خطورة للجاني . فليس السلوك هو المقصود وانما باعتباره دليلا وقرينة على خطورة الجاني . حيث لا يشترط في رأيهم لتوفر الخطورة الاجرامية ارتكاب الشخص لجريمة ما وانما يكفي لتحقق الخطورة ما اذا كان هناك احتمال بأن الشخص سيرتكب جريمة مستقبلا لان محور الخطورة هو شخصية المجرم وليس الواقعة المادية . وعلى هذا تكون الخطورة الجرمية للشخص شئ والجريمة التي ينفذها باعتبارها عمل ارادي معاقب عليها قانونا شئ آخر، على ان هذا لا يعني انعدام الرابطة بينهما فوقوع الجريمة علامة على توافر الخطورة عند الجاني .
فاذا ما كشف السلوك عن هذه الخطورة اعتبر الفاعل بدأ بالتنفيذ لان الشروع عندهم السلوك الذي يؤدي مباشرة وحالا الى الجريمة. فالشروع في القتل لا يشترط فيه ان يمس الجاني جسم المجني عليه، وانما يكفي اي سلوك يؤدي الى هذا المساس. واستنادا الى ذلك فتصويب الجاني المسدس نحو المجني عليه يعتبر من اعمال التنفيذ.
ما يؤخذ على الرأي المذكور ان الخطورة الاجرامية يجب ان تكون فعلية وليست مفترضة والا اصبح القضاة امام صعوبة تكوين عقيدة لاختيار العقاب المناسب لمصدر الخطورة الاجرامية . لذلك ذهب البعض الى تقسيم الخطورة الى خطورة اجرامية تظهر بعد وقوع الفعل الاجرامي وخطورة اجرامية سابقة له. وحتى في حالة ارتكاب الفاعل لجريمة معينة لايكفي وحده لتحقق الخطورة الاجرامية بل لابد الى جانب ذلك ان تظهر دلائل تشير الى احتمال ارتكاب المجرم نفسه جرائم اخرى في المستقبل فلا يكفي الافتراض او التخمين.
اما القول بالخطورة السابقة على وقوع الجريمة وعقاب ذي الخطورة الاجرامية جزائيا وهو في هذه الحالة لم يرتكب اي فعل معاقب عليه قانونا – وهو ما يذهب اليه اصحاب الرأي مدار التقدير- هو امر يتعارض ومبدء شرعية الجرائم والعقاب . الا اذا نظرنا الى ان ذلك يكون من حق الدولة لتوفير الحماية الاجتماعية ، فللمشرع ان ينظم حالات الخطورة السابقة على ارتكاب الجريمة ولكن في حدود ضيقة ودونما خرق لمبدء الشرعية .
اخذ قضاء محكمة التمييز الفرنسية ومحكمة النقض المصرية بالمذهب الشخصي. وكذلك الحال في العراق فقد اخذ المشرع العراقي بالمذهب الشخصي حين عرف الشروع بالمادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 بأنه ( البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية او جنحة ) ولم يشترط ان يأتي الجاني بعض الاعمال المكونة للركن المادي حتى يتحقق الشروع . وانما يكفي ان يقوم الجاني بفعل يكشف عن قصده في ارتكاب الجريمة .
اما محكمة تمييز العراق بدأت تميل للاخذ بالمذهب الشخصي فقد قضت (بأن قطع الاسلاك الشائكة بقصد سرقة العتاد الموجود في المخزن يحقق الشروع في السرقة بالرغم من انهم لم يتمكنوا من كسر قفل باب المخزن لمداهمة الحراس لهم وقتل احدهم ).
على ان تعيين الضابط لتحديد البدء في التنفيذ لا تقتصر اهميته على الشروع التام او الجريمة الخائبة ، وانما يتعداه ليشمل الافعال التي يقوم بها الجاني ومع ذلك يستحيل معها تحقيق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيل تحقيقها والمقصود هنا الجريمة المستحيلة وان استحالة التنفيذ فيها تبدأ في الوقت الذي بدأ فيه الجاني بالركن المادي المكون للجريمة فماهي هذه الجريمة ؟
الجريمة المستحيلة :
هي الجريمة التي يُمتنع تحققها مهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فتبين انه فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه او من كسر خزانة النقود فوجدها خالية.
برزت فكرة الجريمة المستحيلة لاول مرة في فرنسا عندما اراد شخص يدعى laurant ان يقتل اباه فاعد لذلك بندقية جاهزة ومحشوة بالرصاص واسندها على الجدار في الوقت الذي كان فيه ابوه خارج المنزل ،وعند عودة الاب الى المنزل رأى البندقية فراوده الشك حول نية ابنه تناول البندقية وافرغها من العتاد واعادها الى مكانها . احس الابن بعودة الاب اخذ البندقية وصوبها نحوه وضغط على الزناد لكن الرصاص لم ينطلق . راجع الاب لاقامة الدعوى لدى محكمة agent فقضت له وادانت ابنه بالشروع في القتل ، وعندها طرحت المسألة للبحث.
اعتبر الفقيه الالماني فويرباخ عام 1808الجريمة المستحيلة هي التي يستحيل تنفيذها وأرجع سبب استحالة التنفيذ اما الى انعدام المحل كمن اطلق النار على شخص ميت. او الى عدم فاعلية الوسيلة المستخدمة في تنفيذ الجريمة كما لواستخدم الفاعل مسدسا خاليا من الرصاص.
على ان صعوبة وغموضا يعتريان الجريمة المستحيلة، حيث يختلف الفعل الذي يقوم به الجاني بأختلاف زاوية النظر اليه. فاذا نظرنا اليه من ناحية استحالة نتيجته دون الاخذ بنظر الاعتبار نفس الفعل الذي وقع فلا يعتبر جريمة وبالتالي لا يمكن اعتباره من صور الشروع التام المعاقب عليه، والسبب هو ان تحقق النتيجة في الشروع التام ممكن في ظل ظروف النشاط الاجرامي للفاعل وهو بذلك يختلف اختلافا كليا عن تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة حيث ان تحققها غير ممكن اصلا في ظل ظروف النشاط الذي قام به الجاني او في ظروف اخرى ومهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك . اما اذا نظر اليها - الجريمة المستحيلة- من حيث الفعل الواقع بغض النظر عن النتيجة سواء اكانت ممكنة او مستحيلة ، ففي هذه الحالة تعتبر من صور الشروع التام والمعاقب عليه. لأن الشروع كما اسلفنا يبدأ حيث تبدأ الجريمة التامة ولا ينتهي حيث تنتهي ، كما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ والذي بدأه الجاني فعلا في الجريمة المستحيلة.
اضافة لذلك فان ما تقتضيه قاعدة شرعية الجرائم او قانونيتها في الفعل حتى يكون جريمة معاقبا عليه، هو ان يكون مطابقا لنموذجه القانوني. والنموذج القانوني هو صورة الفعل الذي يعتبره المشرع جريمة ويضمنها نصا قانونيا. بعبارة اخرى ان تتوافر في الواقعة الخارجية جميع الاركان والعناصر التي اشترطها المشرع في النموذج القانوني للجريمة. وهنا لابد من تحقق ركني الجريمة المادي والمعنوي في الجريمة التامة وفي الشروع. فهل تحقق ركنا الجريمة في صورة الجريمة المستحيلة.
لا يشكل الركن المعنوي معضلة فهو ذاته في الجريمة التامة وفي الشروع وبما ان الجريمة المستحيلة من صور الشروع فيكون الركن المعنوي متحقق فيها. فلابد ان يتوافر القصد الجنائي لدى الفاعل في صور الجريمة الثلاث على حد سواء، ولا فرق في ذلك بين الجريمة التامة والشروع او الجريمة المستحيلة.
الا ان الامر يختلف في الركن المادي فهو في الشروع بعض الركن المادي في الجريمة التامة. والاختلاف ينحصر في مدى او كمية الافعال المادية التي يقوم بها الجاني لتنفيذ جريمته.
فيكون السلوك الجنائي ناقصا في الشروع عنه في الجريمة التامة حيث تتحقق النتيجة في الثاني بينما تتخلف في الاول.(5)
وحتى تعتبر الواقعة الخارجية جريمة يعاقب عليها القانون يجب ان تتطابق اركانها وعناصرها مع اركان وعناصر نموذجها الذي تضمنه القانون بما في ذلك الركن المادي والمعنوي لها. ولكي تصبح الواقعة شروعا معاقبا عليها يجب ان تتطابق في عناصرها واركانها مع النموذج القانوني ايضا بأستثناء الركن المادي فلا يكتمل وانما يكفي مجرد البدء بالتنفيذ.
نتيجة الصعوبات المذكورة التي احاطت تكييف الجريمة المستحيلة فقد اختلف الفقه والتشريع والقضاء بشأنها ، لذلك سيتم البحث عنها في المجالات الثلاث.
الفقه والجريمة المستحيلة :
اختلف الفقهاء حول ما اذا كانت الجريمة المستحيلة من صور الشروع المعاقب عليه، ام ان استحالة التنفيذ تمنع المشرع من التدخل لفرض العقاب عليها وانقسموا في ذلك الى مذهبين: المذهب المادي والمذهب الشخصي وانقسم انصار كل مذهب الى طائفتين وعلى النحو التالي :
المذهب المادي:
انقسم انصار المذهب المادي الى طائفتين:
الطائفة الاولى : ويرى انصارها وعلى رأسهم الفقيه الالماني فويرباخ عدم العقاب على الجريمة المستحيلة. حيث يرى الفقيه المذكور ان لا عقوبة على الشروع ما لم تكن علاقة سببية تربط بين فعل الجاني والجريمة او نتج عن فعل الجاني خطر. فحتى يتحقق الشروع المعاقب عليه لابد ان يكون هناك اعتداء على المصلحة التي يريد القانون حمايتها او انها تعرضت للخطر لأن كل عقاب يفترض وجود ماديات الفعل وان يكون هناك اعتداء على الحق الذي يحميه القانون . وحججهم الداعمة لرأيهم هي :
1- ان الشروع لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة ، وهذا غير متحقق في الجريمة المستحيلة فلا بدء بتنفيذ ماهو مستحيل سيما وان الاستحالة سواء اكانت مطلقة او نسبية ، مادية او قانونية تلازم نشاط الجاني منذ بدايته. فلا يرقى نشاط الفاعل الى مرتبة البدء بالتنفيذ وبالتالي فلا يمكن وصفها بالشروع المعاقب عليه. فمثلا لا يعتبر شارعا في جريمة القتل من يضع ملحا او سكرا في كوب خصمه لغرض قتله. لأن مادتي الملح والسكرلا تشكلان خطرا على حياة الخصم. كما ان وضع السكر او الملح في كوب الخصم لا يعتبر بدء بالتنفيذ كما اشترطه النموذج القانوني للجريمة.
وللرد على ذلك ان الجريمة المستحيلة تحتمل البدء بالتنفيذ وان كان مقدر له الخيبة وعدم تحقق النتيجة الا ان سلوك الفاعل يكشف عن ارادته ونيته في التوجه للوصول الى النتيجة التي يريدها .وبذلك يكشف فعل الفاعل العقيم عن مدى خطورة هذا الفاعل . وهذا يكفي لفرض عقاب على فعله قياسا على الشروع الذي لم تتحقق فيه النتيجة ولكن اتجهت ارادة الفاعل الى اتمام الجريمة التي توخاها الفاعل.
2- الاستحالة ينعدم معها تحقق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيلها وبالتالي فالفعل لا يشكل خطرا ولا يترتب عليه ضررعلى المصلحة التي يحميها القانون .
وفي هذه الحجة تم التركيز على الخطر الذي يتعرض له الحق الذي يحميه القانون دون الالتفات الى خطورة الجاني التي يأخذها عادة المشرع في فرض العقوبة . وهي لاشك متحققه في الجريمة المستحيلة ويكشف عنها فعل الفاعل الذي يعتبر قرينة عليها .
3- كما ان المشرع الفرنسي لم يعتبرها من صور الشروع المعاقب عليه ولو اراد ذلك لنص عليها صراحة كما فعل بالنسبة لصور الشروع الاخرى سواء الشروع في حده الادنى (الجريمة الناقصة) او الشروع في حده الاعلى (الجريمة الخائبة). ولا يمكن الاحتجاج بأن المشرع عندما نص على الشروع التام اراد من ذلك انه يشمل النص جميع الحالات التي تخيب فيها الجريمة لاسباب لا دخل لارادة الجاني فيها بما في ذلك الجريمة المستحيلة ، لان هناك فرق بين الجريمتين. فالاختلاف واضح بين الشروع التام والجريمة المستحيلة وبالتالي فلا ينصرف قصد المشرع وهو يعاقب على الجريمة الخائبة ان يشمل العقاب الجريمة المستحيلة. حيث في الشروع التام يأتي الجاني افعالا قريبة من تمام الجريمة اي انه يتعامل مع محل الجريمة مباشرة وكما يتطلبه النموذج القانوني للجريمة وبالتالي فان هذه الافعال تعتبر بدء بالتنفيذ. اما في الجريمة المستحيلة فما يقوم به الجاني من افعال يستحيل معها اتمام الجريمة ولا ترقى الى مرتبة البدء بالتنفيذ. فلا يمكن وصفها والحالة هذه بالشروع في الجريمة ولا يمكن ادخالها دائرة العقاب.اذ لايمكن وصف من وضع ملحا في طعام غيره على انه شارعا في جريمة القتل لانه لم يبدأ فعلا في تنفيذ الركن المادي لجريمة القتل. (6)
ما يؤخذ على اصحاب هذا الرأي مغالاته التي تفضي الى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في جميع فروضها، مما يؤدي الى التضييق من نطاق الشروع المعاقب عليه الامر الذي ينجم عنه افلات الكثير من الحالات من العقاب رغم خطورتها.(7)
فاذا كان ليس من المصلحة معاقبة شخص وضع السكر في كوب خصمه لانه لم يتسبب في احداث خطر على حياة الخصم التي يحميها القانون. فان من المصلحة معاقبة الشخص الذي يطلق النار على عدوه فلا يصبه لبعد المسافة بينهما، ففي هذا المثال كانت حياة المجني عليه مهدده بالخطر لولا الصدفة التي جعلته ابعد من مرمى السلاح الناري بأمتار قد تكون قليلة. وليس من المنطق الا يعاقب السارق الذي مدّ يده في جيب المجني عليه فلم يجد نقودا مع ان عمل الفاعل لا يمكن السكوت عنه لما يمثله من انتهاك للحماية التي يقدمها قانون العقوبات وهي من اولويات اهدافه. وكأن اصحاب هذا الرأي يلقون باللائمة على المجني عليهما في المثالين السابقين، فلو كان الاول قريبا من الجاني لتحقق عقاب الاخير، وكذلك لو وضع المجني عليه الثاني النقود في جيبه لتحققت المصلحة في عقاب الجاني.
وهجر الفقه الحديث هذه المذهب ولم يبق من يؤيده.(
الطائفة الثانية : حاول البعض من انصار المذهب المادي نتيجة الانتقادات التي عصفت برأي الطائفة الاولى منهم ان يصلحوا ما افسدته تلك الانتقادات فعمدوا الى تأصيل الاستحالة والتمييز بين نوعين منها :
1- الاستحالة المطلقة : وتتحقق عندما يكون من المستحيل تحقق النتيجة الجنائية في ظل الظروف التي ارتكب فيها الفاعل عمله . وهي اما ان تتصل بمحل الجريمة ، فلا تتحقق النتيجة لانعدام المحل او فقدان شرط اساسي فيه كمن يطلق النار على انسان ميت او من يحاول اجهاض امرأة غير حامل. او انها تتعلق بالوسيلة المستخدمة، عندما لاتفضي تلك الوسيلة الى الهدف الذي اراده الجاني من فعلته. كمن يصوب بندقيته نحو آخر بقصد قتله فلا ينطلق الرصاص لكونها أفرغت من الرصاص دون علمه او كمن يضع مادة يعتقد انها سامة في كوب خصمه فاذا بها ليست كذلك.
ففي الاستحالة المطلقة – عند اصحاب هذا الرأي - سواء تعلقت بالمحل او بالوسيلة يمتنع تحقق الشروع وبالتالي فلا عقاب عليها. وحجتهم في ذلك ان المجني عليه لا يتعرض للخطر لان الجريمة لا يمكن وقوعها بأي حال من الاحوال لأنعدام محلها وبانعدام المحل ينتفي معه البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم . اضافة الى ذلك فان الاستحالة المذكورة ترافق الفعل منذ البدء في تنفيذه وهذا يعني تخلف ركن البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم كما يتطلبه النوذج القانوني للجريمة. وحيث لا بدء في العمل فلا شروع فيه وبالتالي لا عقاب عليه.
2- الاستحالة النسبية : وهي اما تتعلق بمحل الجريمة اذا كان الموضوع مما تتوافر كل شروط تنفيذ الجريمة الا انه موجود في غير المكان الذي يظن الجاني وجوده فيه. كمن يريد قتل غريمه معتقدا انه في فراشه فيطلق النار عليه فاذا به قد غادر المكان قبل فترة. او ان الاستحالة النسبية تتعلق بالوسيلة المستخدمة. كما لوكانت هذه الوسيلة صالحة للاستخدام وبأمكانها تحقق النتيجة الا ان جهل الجاني في استخدامها منع من تحقق النتيجة. كما لو وضع الجاني مقدارا قليلا من السم لايكفي لقتل انسان في طعام عدوه قاصدا قتله معتقدا انه يكفي لقتله.
اغرم الكثير من الفقهاء بالرأي الاخير وهو تقسيم الاستحالة الى مطلقة ونسبية، وتقرير العقوبة على الثانية دون الاولى وصادفت نجاحا وقبولا في الفقه والتشريع والقضاء. الا ان الاساس الذي بنيت عليه غير متين، اذ كيف يمكن وضع حدا فاصلا بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية. ان مثل هذا التقسيم يخالف طبيعة الاستحالة ، فلا يمكن تصور ان تكون للاستحالة درجات فهي اما ان لاتكون، واذا تحققت فلا تكون مطلقة او نسبية .
يتبين مما تقدم ان انصار المذهب المادي اعتمد الركن المادي للجريمة معيارا لتحديد الشروع الذي لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الافعال المادية المكون للجريمة ومدى خطورتها على الحق الذي يحميه القانون كضابط للعقاب. وحيث ان ذلك لا يتحقق في الجريمة المستحيلة فلا شروع وبالتالي لا عقاب.
المذهب الشخصي :
على عكس اصحاب المذهب المادي فقد ذهب انصار المذهب الشخصي الى تبني ضابط الارادة الجرمية للجاني كمعيار للعقاب . فاذا ما كانت ارادة الجاني حقيقية وجدية في اتمام الجريمة وفق ما يتطلبه النموذج القانوني للجريمة فعندها يستحق العقاب لانه جاء بجريمة الشروع. وانقسموا في ذلك طائفتين :
الطائفة الاولى : ويرى اصحاب هذه الطائفة عكس ما تراه الطائفة الاولى من المذهب المادي . اي انهم يقولون بوجوب العقاب على الجريمة المستحيلة بغض النظر عن امكانية او استحالة التنفيذ وايا كانت درجة هذه الاستحالة. فالجريمة المستحيلة حسب رأيهم كالجريمة الخائبة ينطبق عليها ما ينطبق على الجريمة الثانية.
وحجتهم في ذلك ان الحكمة من العقوبة التي يفرضها المشرع على الشروع ليس لمواجهة السلوك الاجرامي ، لان مثل هذا السلوك لم يحقق النتيجة ، وانما يفرضه المشرع لمواجهة ما يكشف عنه السلوك من خطورة اجرامية لصاحب السلوك. فعندما يكشف السلوك عن مثل هذه الخطورة فانه يُعد قرينة قاطعة على ان ارادة الجاني قد اتجهت فعلا لارتكاب الجريمة. فاذا ما بدأ الجاني بتنفيذ فعل قاصدا من ورائه ارتكاب جريمة ما فهذا يعني ان الشروع بالجريمة قد تحقق. لان سلوك الجاني كشف عن اصراره على ارتكاب الجريمة فيكون شرع بارتكابها بغض النظر عن الاسباب اللااردية التي حالت دون تحقق النتيجة. فعندهم ان معيار الشروع هو البدء بالتنفيذ ولا يهم بعد ذلك ما اذا كانت الجريمة ممكنة او مستحيلة.
ويستثنون مما اطلقوه من عقاب على الجريمة المستحيلة اذا ما كان سلوك الجاني يدل على سذاجته لان مثل هذا السلوك يدل على عدم خطورة الفاعل وعدم اتجاه ارادته الى ارتكاب الجريمة وبالتالي لاعقاب عليه. كما لو اراد احدهم قتل الاخر عن طريق السحر والشعوذة، ويرون ان سبب عدم معاقبة الفاعل ليس لأن السحر والشعوذة غير ملائمين للقتل انما لعدم خطورة الفاعل التي تدلل عليه سذاجته وبساطته.
يعززون رأيهم بأن المشرع عندما يعاقب على الشروع لا يأخذ بنظر الاعتبار ما يصيب المجتمع او الفرد من ضرر اجتماعي. انما يأخذ في حسبانه مدى خطورة الجاني. وتتحقق الخطورة سواء كانت الجريمة مستحيلة او ممكنة ، لان الاستحالة والامكان يكونان لاسباب خارجة عن ارادة الجاني وبالتالي لاعلاقة لهما بخطورته. (9)
وقد لا قى هذا الرأي قبولا واستحسانا من قبل الكثير من الفقهاء كما اخذت به الكثير من التشريعات ومنها التشريع العراقي كما سيأتي لا حقا.
اهم حسنة لهذا الرأي توفيره الحماية الكافية للمجتمع بعقابه على جميع فروض الجريمة المستحيلة بعقوبة الشروع بأستثناء الجريمة الوهمية والتي لا وجود لها الا في ذهن الجاني كمن يسرق مالا ويظهر انه مملوكا له - ومن المتفق عليه ان الجريمة الوهمية لا تعتبر من صور الجريمة المستحيلة (10) - اما ما يؤخذ عليه فما يلي :
1- مغالاته حيث اعتبر الافعال المادية التي يقوم بها الجاني دليلا على ثبوت ارادته الجرمية والتي تثبت بدورها خطورة الجاني. وعليه فالمشرع بمعاقبته على الشروع حسب رأيهم لا يعاقب على الفعل انما على ما يكشف عنه الفعل من خطورة. اي ان سبب العقاب ليس على ما يسببه الفعل من ضرر اجتماعي انما على ما يكشفه من خطورة الجاني فقط . في حين ان المشرع بفرضه العقاب على فعل ما يأخذ في الاعتبار الامرين معا ما ينتج عن الفعل من خطر اجتماعي وخطورة الجاني التي يعتبر الفعل قرينة عليها. واهمل اصحاب هذا الاتجاه الامر الاول فيما تمسكوا بالامر الثاني فقط وجعلوه علة التجريم . بالرغم من ان البعض يرى وجوب الامرين معا الا انهم يؤكدون على اهمية الفعل ويرون انها اكثر رجحانا من الامر الاخر. (11)
2- الأخذ بهذا الراي يثير الكثير من الصعوبات امام القضاء حيث يدخل القضاة في متاهاة العناصر النفسية للجناة وهي من الامور التي يصعب وضع ضابط لها. (12)
3- البعض من الكتاب يرى ان الاخذ بهذا الرأي على اطلاقه يؤدي الى ادخال الجريمة الوهمية في دائرة العقاب، مع ان من المتفق عليه ان الجريمة الوهمية غير معاقب عليها لانها ليست صورة من الجريمة المستحيلة فلا يجوز معاقبة شخص سرق مالا يعتقد انه لغيره فاذا بالمال مملوك له (13)
الطائفة الثانية : حاول انصار الطائفة الثانية وعلى رأسهم (جارو)اخراج بعض صور الجريمة المستحيلة من الشروع المعاقب عليه وميزوا بين نوعين من الاستحالة :
1- الاستحالة القانونية : وتعني تخلف ركن او عنصر من عناصر الجريمة والتي لا تقع الجريمة بدونها الى جانب تخلف النتيجة كمن يطلق النار على شخص يعتقد انه نائم على سريره فاذا به فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه او كمن يريد اجهاض امرأة وهي ليست حامل . هذا النوع من الاستحالة القانونية تتعلق بمحل او موضوع الجريمة . اما ما تعلق منها بالوسيلة فكمن يحاول قتل خصمه بمادة غير سامة معتقدا انها سامة .
هذا النوع من الاستحالة يمنع تحقق الشروع ولا يعاقب عليه القانون لعدم تحقق عناصره القانونيه. حيث ان عناصر الشروع هي نفس عناصر الجريمة التامة وما يتصف فيه الشروع من نقصان هو يتمثل فقط في الركن المادي وفي النتيجة. فالركن المادي في الشروع هو بعض الركن المادي في الجريمة التامة ومن طبيعة الشروع عدم تحقق النتيجة ايضا. اما العناصر الاخرى التي يتوجب توافرها في الجريمة التامة هي نفسها في الشروع، فاذا ما تخلف احدها فلا شروع ولا عقاب على الفعل اذا لم يشكل شروعا. ففي السرقة مثلا اشترطت المادة 439 من قانون العقوبات العراقي ان يكون المال المراد سرقته مملوكا للغير. فاذا تخلف الشرط المذكور وقام الشخص بسرقة مال مملوك له فلا يتحقق هنا الشروع في السرقة لتخلف عنصر مملوكية المال للغير.
كما ان المادة 405 من قانون العقوبات العراقي اشترطت في النموذج القانوني لجريمة القتل ان يكون الانسان حيا والا فلا معنى لقتله. فالحياة هي الهدف الذي يريد القانون حمايته فاذا تخلف هذا العنصر وقام شخص باطلاق النار على آخر تبين انه فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه فلا نكون بصدد شروع معاقب عليه. او كمن يمد يده في جيب شخص يقف الى جواره في حافلة ليسرق منه نقودا فاذا بالجيب خال من النقود فلا يعتبر الفاعل شارعا في جريمة السرقة لأن المادة 439 من قانون العقوبات العراقي مثلا عرفت السرقة بأنها اختلاس مال منقول مملوك للغير والاختلاس لا يتحقق الابوضع اليد على المال المنقول والفاعل لم يضع يده على المال فلا عقاب عليه حتى وان مد يده في جيب غيره. في الامثلة المتقدمة وحسب رأي الطائفة الثانية تكون الافعال التي قام بها الجاني غير صالحة لاحداث الأثر من الناحية القانونية وبالتالي فانها تبقى خارج دائرة العقاب.
يدعم ذلك الرأي القائل بأن الاستحالة القانونية تجعل افعال الجاني لا تشكل تهديدا للمصلحة التي يريد القانون حمايتها. وبتخلف التهديد يتخلف عنصر قانوني يتطلبه النموذج القانوني للجريمة. اضافة الى ان عدم تجريم الاستحالة القانونية يأتي منسجما مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات حيث لا توجد جريمة قتل في حالة الاعتداء على انسان فارق الحياة ولا سرقة اذا وقع الاختلاس على مال يعود للجاني نفسه .
اضافة الى ان الاستحالة القانونية ليست من صور الشروع .لان الاخير يتطلب توفر كل متطلبات النموذج القانوني للجريمة التامة في حين الاستحالة القانونية تقتضي تخلف ركن او عنصر من العناصر التي يتطلبها القانون .
2- الاستحالة المادية : وفي ظلها تتوافر كافة اركان وعناصر الجريمة وفق ما يتطلبها نموذجها القانوني عدى النتيجة التي يحول سبب لا ارادي دون تحققها . فبموجبها يقوم الجاني بكل ما يتطلبه القانون من عناصر واركان للجريمة الا ان حدثا عارضا لا دخل لارادة الجاني حال دون الوصول الى تحقيق الهدف الذي يصبو اليه الفاعل، ولا يهم بعد ذلك ان تكون الحادثة اللاارادية والعرضية التي منعت من تحقق النتيجة تتعلق بموضوع الجريمة كعدم وجود المجني عليه في السرير حيث توقع الجاني ام انها تتعلق بالوسيلةكعدم صلاحية السلاح المستخدم . ففي الحالتين يتحقق الشروع لتوافر جميع عناصره القانونية وبالتالي يعاقب الفاعل بوصفه شارعا في الجريمة. اي ان الاستحالة المادية تأخذ حكم الجريمة الخائبة طالما ثبت ان لا دخل لارادة الجاني في الاسباب العارضة .(14)
ما يؤخذ على هذا الرأي انه يؤدي الى التوسع في الجريمة المستحيلة مما يوسع من دائرة نطاق العقاب عليها . فضلا عن انه يؤدي الى نتائج متقاربة لنتائج مذهب التفريق بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية . فتقابل الاستحالة المطلقة في اغلب حالاتها الاستحالة القانونية ولا عقاب عليهما، كما تقابل الاستحالة النسبية في المذهب المادي الاستحالة المادية في المذهب الشخصي ويعاقب عليهما. الا ان الفرق في السند لكل من الاتجاهين. فبينما اصَل الرأي الثاني من المذهب المادي الاستحالة وقسموها الى مطلقة ونسبية وهوما لا ينسجم وطبيعة الاستحالة كما بينا فهي اما ان لاتكون واذا كانت فليس لها درجات . بينما السند عند اصحاب الرأي الثاني من المذهب الشخصي هو في تقسيم الاستحالة الى قانونية ومادية وهذا ما تقتضيه طبيعة الاستحالة، اذ من الممكن تعدد مجالات الاستحالة ولا ضير في ذلك.
اضافة لذلك فاذا كان اصحاب الاستحالة المطلقة يقولون بعدم تحقق الشروع المعاقب عليه وحجتهم في ذلك ان الشروع يقتضي البدء في التنفيذ ولا تنفيذ فيما يستحيل تنفيذه. اما في الاستحالة القانونية فيقتضي تخلف ركن اوعنصر من عناصر الجريمة اضافة الى تخلف النتيجة وبذلك يكون الرأي الاخير اكثر انسجاما مع الواقع من الرأي القائل بتقسيم الاستحالة الى مطلقة ونسبية ، فضلا عن ان هذا ما يقتضيه مبدء قانونية الجرائم فهو يستند اليه.
الجريمة المستحيلة في التشريع :
اختلفت التشريعات في مواقفها ازاء الجريمة المستحيلة . فبعضها لم تنص عليها والسبب في تبني هذا الاتجاه هو ان بعض صور الجريمة المستحيلة تشبه الجريمة الخائبة مما يصعب معه وضع ضابط محدد لها يميزها عن غيرها من صور الجريمة الخائبة. ويرى اصحاب هذا الاتجاه ان وضع نص بشان الجريمة المستحيلة يعني ألزام القضاء بضرورة التقيد به ، وحيث يصعب وضع معيار يميزها عن غيرها يقع القضاء في خطأ يضر بالعدالة والمجتمع. علاوة على ذلك فان المشرعين اصحاب الاتجاه المذكور لا يريدون ألزام انفسهم بمذهب من المذاهب التي عالجت صور الجريمة المستحيلة . ومن هذه التشريعات قانون العقوبات الفرنسي القديم لعام 1810 وتعديلاته وآخرها قانون العقوبات لعام 1994 . وسار المشرع المصري على نفس الطريق فلم ينص على الجريمة المستحيلة في قانون العقوبات لعام 1904 وتعديلاته اللاحقة . كما فعل ذلك المشرع الاردني في قانون العقوبات رقم 16لسنة 1960.(15)
بينما اتجهت تشريعات اخرى الى حسم مشكلة الجريمة المستحيلة بالنص عليها وان اختلفت في اسلوب المعالجة:
فمنها ما تبنى المذهب الشخصي القائل بوجوب العقاب على الجريمة المستحيلة بصورة مطلقة كما فعل المشرع العراقي في قانون العقوبات العراقي رقم 111لسنة 1969 المعدل حيث نص في المادة 30 على اعتبار الجريمة المستحيلة من صور الشروع ( .... ويعتبر شروعا في ارتكاب الجريمة كل فعل صدر بقصد ارتكاب جناية او جنحة مستحيلة التنفيذ اما لسبب يتعلق بموضوع الجريمة او الوسيلة التي استعملت في ارتكابها ما لم يكن اعتقاد الفاعل صلاحية عمله لأحداث النتيجة مبنيا على وهم او جهل مطبق ...) .
ومن النص آنف الذكر يتبين ان المشرع العراقي تبنى رأي المذهب الشخصي فاعتبر الجريمة المستحيلة من صور الشروع المعاقب عليه بصورة مطلقة واستثنى الجريمة الوهمية وهي التي لا وجود لها الا في ذهن مرتكبها كمن يسرق مالا يتبين انه مملوكا له. وقد احسن المشرع العراقي صنعا في تبني الرأي المذكور لانه وسّع في الشروع الذي ادى الى التوسع في دائرة العقاب فحقق بذلك الحماية المقصودة من قانون العقوبات . وبذلك تدارك ما وقع فيه غيره ولم يغفل عن بعض الاعمال التي تكشف عن مدى خطورة الجاني . اضافة لذك فان المادة المذكورة جاءت متكاملة فهو قد اشترط في مقدمتها لقيام الشروع البدء في التنفيذ اولا ، وان يكون للجاني قصدا في ارتكاب الجريمة وبما ان الامرين متحققان في الجريمة المستحيلة فقد نص على العقاب عليها باعتبارها شروعا .
وتبنى المشرع السوري في قانون العقوبات لعام 1949 المذهب الشخصي ايضا حيث فرض العقاب على الجريمة المستحيلة واعتبرها من صور الشروع المعاقب عليه. فنصت الفقرة الاولى من المادة 202 من قانون العقوبات السوري ( يعاقب على الشروع وان لم يكن في الامكان بلوغ الهدف بسبب ظرف مادي يجهله الفاعل ) . الا انه استثنى من ذلك حالتين ،الحالة الاولى ما اذا كان الجاني قد اتى فعله وهو غير فاهم له وهذا ما تضمنته الفقرة الثانية من المادة المذكورة ( على ان الفاعل لا يعاقب في هذه الحالة اذا اتى فعله عن غير فهم ) ، والثانية هو ما يتعلق بالجريمة الوهمية وهي التي ليس لها وجود الا في ذهن الجاني ،كما جاء في الفقرة الثالثة من المادة المذكورة ( وكذلك لا يعاقب من ارتكب فعلا وظن خطأ انه يكون جريمة) .
وهذا ايضا ما درج عليه قانون العقوبات المغربي حيث نص في الفصل 117 على ان (يعاقب على المحاولة حتى في الاحوال التي يكون الغرض فيها من الجريمة غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل ) . غير ان المشرع المغربي اطلق في العقوبة على الجريمة المستحيلة ولم يستثن ما استثناه المشرعان العراقي والسوري.
ومن التشريعات من تأثر بالرأي القائل بتأصيل الاستحالة وتقسيمها الى استحالة مطلقة واخرى نسبية ، فأوجب العقاب على الثانية دون الاولى كقانون العقوبات الايطالي لعام 1930 حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 49 منه على ان ( يستبعد العقاب حين يكون تحقق النتيجة مستحيلا سواء بسبب انعدام صلاحية السلوك لاحداث هذه النتيجة او بسبب انعدام المحل الذي يستهدفه السلوك ذاته ) . ومن التشريعات التي اخذت بأسلوب التفرقة بين الاستحالة المطلقة والنسبية قانون العقوبات البرازيلي لسنة 1940 وقانون العقوبات الروماني لسنة 1937وقانون العقوبات الاسباني لعام 1928 .وهذا ما ذهب اليه المشرع المصري في مشروع قانون العقوبات لعام 1966 في المادة 42/2. (16) .
ولم يقتصر اختلاف التشريعات التي تبنت النص على الجريمة المستحيلة على المذهب المعتمد من قبلها بل اختلفت ايضا من حيث العقوبة المقررة لها . فبعضها ساوى في العقوبة بين الجريمة المستحيلة والشروع كما فعل المشرع السوري واللبناني . في حين ان بعض التشريعات قررت لها حكما خاصا كما في قانون العقوبات الاسباني لعام 1944 ، فرغم ان المشرع الاسباني اعتبر الجريمة المستحيلة من صور الشروع التام الا انه من حيث العقاب خصص لها نفس عقوبة الشروع الناقص ، وعقوبة الاخيراخف من عقوبة الشروع التام .
موقف القضاء من الجريمة المستحيلة
حسن الحلو nejef49@ydhoo.com
مقدمة :
الانسان كائن مزدوج في طبيعته خلق من مادة وروح . واودع فيه نوعان من القوى، نوع تأخذ بيده الى الخير واخرى تدفعه الى الشر وهذه الحقيقة ذكرها القرآن الكريم { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها }. نتج عن ذلك ان كان للانسان نوعان من السلوك، مايتفق مع الاخلاق والقانون والنظام ومايختلف عنها. وغالبا ما يمر كلا النوعين بمرحلتين: مرحلة داخلية نفسية لاعلاقة لها بالمادة واخرى خارجية وذات طبيعة مادية تتحسسها الحواس. وكثيرا ما تسبق المرحلة النفسية المرحلة المادية فلا يقوم الانسان بتنفيذ عمل الا بعد التصميم على القيام به. وتسبق كلا المرحلتين مرحلة تمهيدية فلا يصمم الانسان على عمل شئ الا بعد التفكير به مليا، ولا يقوم بتنفيذه الا بعد التمهيد لهذا التنفيذ والوصول الى مبتغاه.
فالسلوك بشكل عام هو مجموعة الافعال الداخلية ( الذهنية ) والخارجية ( المادية ) والتي بواسطتها يحقق الانسان ما يريد ان خيرا ً فخير وان شرا فشر. فمن يريد اقامة ملجئ للايتام ، لابد ان يفكر في الموضوع مليا ، موازنا بين حسناته وسيئاته فاذا مارجحت الحسنات ينتقل الى مرحلة اخرى اكثر اهمية الا وهي مرحلة التصميم والعزم على تنفيذ العمل . ومتى بدأ بالتهيئة للتنفيذ فيكون قد انتقل من المرحلة النفسية الى المرحلة التمهيدية لمرحلة التنفيذ، وهي اعداد وتحضير الوسائل الضرورية. وما ان يفرغ من التمهيد للمرحلة المادية حتى ينتقل الى تنفيذ العمل والوصول الى النتيجة التي ارادها الفاعل الا وهي بناء الملجئ.
ما قيل بالنسبة للسلوك النافع يقال ايضا في السلوك الضار وما يهدف اليه من نتيجة ضارة او جرمية حيث يمر الفاعل بنفس المراحل السابقة. فلو اراد شخص قتل آخر يتعين عليه ان يفكر في الامر، ويوازن بين ما يحقق رغباته ونزواته وبين ما يلحق به من اضرار. فاذا ما اوصله تفكيره الى الاتيان بفعل القتل فانه ينتقل الى مرحلة التصميم ليبدأ بعدها بتهيئة وتحضير الوسائل اللازمة للقيام بجريمة القتل مثل شراء سلاح والتدريب عليه، وما ان يفرغ من المرحلة الاخيرة حتى يبدأ التنفيذ وقد يصل الى النتيجة او لا يصل.
مراحل الجريمة
ان المراحل التي تمر بها الجريمة قبل وقوعها ثلاث:
1- مرحلة التفكير والتصميم
2- مرحلة الاعداد والتحضير.
3- مرحلة البدء بالتنفيذ.
الجاني في مرحلة التنفيذ قد يتعامل عن قرب مع محل الجريمة. كما لوضع سما في طعام المجني عليه، او يأخذ حبلا ويتسلق ليدخل بيت المجني عليه لسرقته. او قد يتعامل بشكل مباشر مع محل الجريمة كما لو اطلق النار على المجني عليه، او السارق الذي يضع يده على المال المسروق وقد يصل الى النتيجة التي يريدها او تفلت النتيجة فلا يصل الى مايتوخاه. وعلى ذلك نكون امام احتمالين :
الاول : ان يكمل الجاني نشاطه الاجرامي وتتحقق تبعا لذلك النتيجة المقصودة ، وهذه الجريمة التامة. كما لوطعن شخص آخرَ بسكين فارداه قتيلا. او كما لو وضع السارق المال المسروق تحت حيازته.
الاحتمال الثاني : ان يتخلف اهم عنصر في الجريمة الا وهو عنصر النتيجة. فنكون امام الشروع في الجريمة او الجريمة الناقصة. وبما ان للشروع حد ادنى ويسمى الشروع الناقص، وحد اقصى وهو الشروع التام، لذلك نكون امام صورتين للشروع :
الاولى :ان عدم تمام الجريمة وفق هذه الصورة عائد الى عدم اتمام الفاعل لنشاطه الاجرامي. وبعبارة اخرى عدم تمام الافعال المادية المكونة للجريمة او عدم اكمال ماديات الجريمة. وتوقف الجاني عن اتمام نشاطه الاجرامي يعود لاسباب خارجية لا دخل لارادته فيها. كمن يحاول الانتحار ويصوب المسدس نحو رأسه فيأتي آخريخطف المسدس من يده. او السارق الذي يدخل المتجر لسرقته وعندما يحاول كسر الخزانة يتم ضبطه ولا يتمكن من وضع يده على النقود. فيكون الفاعل قد منع عن اتمام فعله بفعل فاعل آخر لادخل لارادة الجاني فيه. وهذه حالة الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة.
وفي الجريمة الناقصة يمكن تصور عدول الجاني عن اتمام فعله وعدم اكمال جريمته بأرادته ورغبته. كما لوحاول شخص قتل آخر وصوب المسدس نحوه ثم يمتنع عن اطلاق النار عليه رأفة من الجاني بالمجني عليه. او حالة السارق الذي يمتنع عن سرقة الاموال لانها تعود الى ايتام وطالما ان العدول تم بأرادة ورغبة الجاني لا بسبب خارجي فيسمى بالعدول الاختياري.
ولا بد ان تتوافر في العدول الاختياري شروط معينه حتى لا يكون منتجا للشروع المعاقب عليه :
1- ان يحصل العدول الاختياري قبل تمام الشروع في الجريمة، فاذا ماحصل بعد ذلك يتحقق الشروع المعاقب عليه. كما لو اخذته الرأفة بالمجني عليه قبل اطلاق الرصاص عليه. اما لو اطلق رصاصة فأخطأته ثم عدل بعد ذلك فيكون الشروع المعاقب عليه قد تحقق. ولا عبرة بالعدول اذا ماحصل بعد اتمام الجريمة وهو ما يسمى بالتوبة الايجابية، ويُسأل الجاني عن الجريمة كاملة. كما لواعاد السارق ما سرقه الى المجني عليه. ( 1 )
2- الا يكون العدول اضطراريا. فاذا ما تحققت في العدول الصفة الاضطرارية فهذا يعني تحقق الشروع وبالتالي استحقاق الجاني للعقاب عليه، كما لاعبرة بتوهم الجاني. فلو احس السارق بوقع اقدام وظن انه صاحب البيت او شرطي او كان فعلا كذلك وهرب فلا يؤخذ بعدوله انما يعتبر شارعا في جريمة السرقة.( 2 )
الثانية : وهي اذا ماقام الجاني بكل الافعال المادية المكونة للجريمة حتى نهايتها، ولم تبق خطوة تفصل بين الجاني والنتيجة، ومع ذلك تفلت النتيجة التي قصدها الجاني من سلوكه لسبب لا دخل لارادته فيه، والنتيجة في هذه الحالة تكون ممكنة الوقوع في ظروف النشاط الاجرامي الذي قام به الجاني. كما لو اطلق النار من مسدسه على خصمه فلم يصبه او أصابه في غير مقتل او تم اسعافه في المستشفى، ويسمى فعل الفاعل هذا بالشروع التام لآنه اتم كل نشاطه الاجرامي ما عدى النتيجة حيث يعتبر تخلفها من طبيعة الشروع ،وتسمى بالجريمة الخائبة.
وعلى عكس الصورة الاولى ففي هذه الصورة (الثانية) لا يُتصورعدول الجاني بأختياره عن اتمام جريمته. لان العدول الاختياري يتحقق في الغالب في الجريمة الموقوفة. ولا يمكن تصوره في الجريمة الخائبة الا في حالة كون عمل الجاني مما يمكن تداركه بعد وقوعه وقبل ان ينتج اثره كما لو حاول شخص قتل خصمه بأغراقه فألقاه بالنهر، وبعد ذلك يعدل بأختياره ولم يشأ ان يتم جريمته فيمد له يد المساعدة فينقذه من الغرق. وعلى العكس اذا كان فعل الجاني مما لايمكن تداركه، وكان وحده كافيا لاتمام الجريمة الا ان سببا خارجيا لادخل لارادة الجاني به حال دون وقوع النتيجة ، فان الفاعل يعد شارعا في الجريمة. كما لو اطلق شخص النار على خصمه بقصد قتله فأخطأه ثم عدل عن اتمام قصده فلم يطلق رصاصة اخرى، يعتبر في هذه الحالة مرتكبا لجريمة الشروع في القتل ويعاقب على فعله.
تتفرع عن الصورة الثانية جريمة اخرى تتشابه معها من ناحية سلوك الجاني ومن حيث النتيجة ، الا انها تختلف عنها في ان النتيجة اذا كانت ممكنة الحدوث في ظل ظروف النشاط الاجرامي في الاولى، فهي في الثانية لم ولن تتحقق مهما بذل الجاني من جهد في سبيل اتمامها. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فاذا به فارق الحياة قبل اطلاق النار .او كمن يمد يده في جيب المجني عليه فيجده خاليا من المحفظة. او من يكسر خزانة النقود فيجدها فارغة، وهذه هي الجريمة المستحيلة. ومن هنا يتبين ان الجريمة المستحيلة هي صورة من الشروع التام .
البدء بتنفيذ الشروع
اذا عرفنا نهاية الشروع التي تختلف اختلافا كاملا من حيث النتيجة عن نهاية الجريمة التامة فهل ان بدايته كذلك ؟
يقال ان الشروع يبدأحيث تبدأ الجريمة التامة ، ولكنه يختلف عنها في نهايته . وهذا ما اتفقت عليه الكثير من التشريعات فنصت على ان الشروع يبدأ من مرحلة التنفيذ واستثنت مرحلتي العزم والتحضير. وهذا مافعله المشرع العراقي في المادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل والتي جاء فيها بأن الشروع (وهو البدء في تنفيذ فعل [ ... ] ولا يعد شروعا مجرد العزم على ارتكاب الجريمة ولا الاعمال التحضيرية لذلك ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ). وكذلك فعل المشرع المصري في المادة 45 من قانون العقوبات (الشروع هو البدء في تنفيذ فعل [...] ولا يعتبر شروعا في الجناية او الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الاعمال التحضيرية لذلك ) .
الا ان غالبية التشريعات لم تعرّف البدء بالتنفيذ وهنا تبرز مشكلة الفصل والتمييزبين الاعمال التحضيرية واعمال البدء بالتنفيذ. فاذا كان الفصل بينهما واضحا وسهلا في بعض الاحيان، الا ان الامر ليس كذلك في احيان اخرى .
فمن يشتري سلاحا ناريا، او من يتدرب على استعماله فانه يقوم بعمل تحضيري، لان الفاعل لم يتعامل بصورة مباشرة مع محل الجريمة او بشكل قريب منها. ولكن في حالة خلط الجاني السم بطعام المجني عليه وتقديمه له او مد يده في جيب المجني عليه وسحب المحفظة منه او من يطلق النار على المجني عليه ففي هذه الحالة يكون الفاعل قد جاء بافعال تنفيذية لانه تعامل مباشرة مع محل الجريمة .والتمييز بين الافعال من الطائفة الاولى والثانية واضح ولا يثير اشكالا.
لكن في احوال اخرى تكون منطقة وسطى بين المرحلتين تمتاز بالضبابية بحيث يصعب فيها تحديد الافعال لاية مرحلة تعود. فلو ضبط الجاني حاملا سلاحه ومتجها الى مكان ارتكاب الجريمة او قبض عليه متربصا للمجني عليه او حالة ما اذا ضبط الجاني وهو يتسلق جدار المنزل لغرض الدخول اليه وسرقته. فهل تمثل هذه الاعمال اعلى درجات الاعمال التحضيرية ام انها تمثل ادنى درجات الاعمال التنفيذية؟
تظهر صعوبة التمييز بين المرحلتين في الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة حيث لم يستكمل الجاني كل نشاطه، على ان في تحديد عمله تقريرا لمصيره، فاذا كان من اعمال التحضير يكون معفيا من العقاب على عكس ما اذا كان ما قام به من عمل يعد بدء بالتنفيذ فيتحقق فيه الشروع المعاقب عليه .ولا يثير الامر اية صعوبة في الشروع التام او الجريمة الخائبة لان الجاني قد استكمل كل نشاطه الاجرامي ويخضع لعقوبة الشروع في الجريمة .
ان للتمييز بين الاعمال التحضيرية والاعمال التنفيذية اهمية كبيرة يتجلى اثرها في العقاب على الفعل حيث لا عقاب على اعمال التحضير بينما تقع اعمال البدء بالتنفيذ تحت طائلة العقاب هذا من جهة . ومن جهة اخرى فان التمييز بين عمل المرحلتين تظهر اهميته في الجريمة المستحيلة حيث يبدأ الجاني بالتنفيذ وان تخلفت النتيجة فهل يعتبر بدء التنفيذ سببا لعقابه ام انه يعفى من العقاب لأن استحالة تمام الجريمة لازم الجاني منذ البدء بالتنفيذ؟ وهذا ما سنتناوله في العقاب على الجريمة المستحيلة .
لاهمية التمييز بين اعمال المرحلتين كما اسلفنا ولسكوت غالبية التشريعات عن تعريف اعمال البدء بالتنفيذ ،ولضرورة وضع معيار للتمييز بينهما فقد تصدى الفقهاء لهذه المهمة ولكنهم انقسموا الى مذهبين:
المذهب المادي:
اعتمد انصارهذا المذهب السلوك الاجرامي وما ينتجه من ضرر وما يكشف عنه من خطر معيارا لتحديد البدء بالتنفيذ. ووفقا لذلك يرون ان التنفيذ يبدأ متى بدأ الفاعل بتنفيذ الافعال المادية المكونة للجريمة وكما يتطلبها النموذج القانوني . فعندما يعرف القانون جريمة السرقة على انها اختلاس مال منقول مملوك للغير، وبما ان الاختلاس لا يتحقق الا بوضع اليد على المال المراد سرقته . فيكون وضع اليد في هذه الحالة العمل الذي يبدأ به الجاني سلوكه الاجرامي. اما في جريمة القتل فأي عمل يقوم به الجاني ويتعامل به مع المجني عليه للوصول الى النتيجة التي يتوخاها يعتبر بدء بالتنفيذ كما لو اطبق يديه على رقبة المجني عليه او كما لو اطلق النار عليه . اما اذا دخل الجاني منزل المجني عليه لغرض قتله فلا يعتبر دخول المنزل من ضمن الركن المادي لجريمة القتل . وحجتهم في ذلك ان القانون وهو يعرف جريمة القتل لم يعتبر الدخول في المنزل من اعمال البدء بالتنفيذ في الجريمة المذكورة.
بالرغم من سهولة ووضوح المعيار الذي تبناه المذهب المادي الا انه يضيق من نطاق الشروع فيوسع من دائرة الاعمال التحضيرية الغير معاقب عليها وبذلك يؤثر سلبا على الحماية للمجتمع التي هي من الاهداف الرئيسية لقانون العقوبات بسبب افلات الكثير من العقاب ممن لايجوز السكوت على اعمالهم لخطورتها. فدخول المنزل لغرض السرقة حسب اصحاب المذهب المادي لا يعتبر بدء بالتنفيذ لأن الجاني لم يضع يده على المال المراد سرقته. وبما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ فيكون دخول المنزل غير معاقب عليه مع خطورته.
نتيجة الانتقادات المذكورة وغيرها حاول اصحاب هذا الرأي التوسع في مرحلة البدء بالتنفيذ فقالوا بأن افعال المرحلة المذكورة لا تقتصر فقط على الافعال المادية او السلوك الذي به يتحقق الركن المادي للجريمة وانما اضافوا اليها ما اعتبره القانون ظرفا مشددا للجريمة . وحيث ان القانون اعتبر التسور وكسر الابواب ظرفا مشددا في جريمة السرقة فانها تدخل ضمن اعمال مرحلة التنفيذ.
ما يؤخذ على اصحاب الرأي الثاني من المذهب المادي هو انه من غير المنطقي ان تعتبر عملا معينا في الليل من ضمن مرحلة التنفيذ اما في النهار فنفس العمل يدخل ضمن مرحلة التحضير لا لسبب الا لان القانون اعتبر الليل ظرفا مشددا في جريمة السرقة .اضافة الى ان الرأي المذكور يؤدي الى التفرقة بين الجرائم فما يعتبر عملا تنفيذيا في جريمة ما لا يعتبر كذلك في جريمة اخرى . فمن تسور المنزل لغرض السرقة يعتبر قد بدأ عملا ماديا يتحقق معه الشروع في السرقة لان المشرع اعتبر التسور ظرفا مشددا. اما من تسور لغرض قتل خصمه فلا يعتبر شارعا في جريمة القتل لان القانون لا يعتبر التسور ظرفا مشددا في جريمة القتل. (3)
لذلك اتجه فريق من انصار المذهب المادي الى معيار آخر هو ( التأويل )فاذا كان بالامكان تأويل الفعل كان من افعال التحضير اما اذا لم يقبل الا تأويلا واحدا ويكشف عن نية الجاني فيعتبر من اعمال التنفيذ. والرأي الاخير لا يخلو من انتقادات فالفعل الذي لا يقبل الا تأويلا واحدا قد لا يكون موجودا فدخول المنزل كما يمكن ان يكون للسرقة يمكن ان يكون للنجدة (4).
المذهب الشخصي :
يرى انصار هذا المذهب بأن العقوبة التي يقررها القانون على الشروع لا يكون الهدف منها هو مواجهة سلوك الجاني الاجرامي لان هذا السلوك لم يحقق نتيجته ، وانما الهدف من العقوبة هو ما يكشف السلوك عنه من خطورة للجاني . فليس السلوك هو المقصود وانما باعتباره دليلا وقرينة على خطورة الجاني . حيث لا يشترط في رأيهم لتوفر الخطورة الاجرامية ارتكاب الشخص لجريمة ما وانما يكفي لتحقق الخطورة ما اذا كان هناك احتمال بأن الشخص سيرتكب جريمة مستقبلا لان محور الخطورة هو شخصية المجرم وليس الواقعة المادية . وعلى هذا تكون الخطورة الجرمية للشخص شئ والجريمة التي ينفذها باعتبارها عمل ارادي معاقب عليها قانونا شئ آخر، على ان هذا لا يعني انعدام الرابطة بينهما فوقوع الجريمة علامة على توافر الخطورة عند الجاني .
فاذا ما كشف السلوك عن هذه الخطورة اعتبر الفاعل بدأ بالتنفيذ لان الشروع عندهم السلوك الذي يؤدي مباشرة وحالا الى الجريمة. فالشروع في القتل لا يشترط فيه ان يمس الجاني جسم المجني عليه، وانما يكفي اي سلوك يؤدي الى هذا المساس. واستنادا الى ذلك فتصويب الجاني المسدس نحو المجني عليه يعتبر من اعمال التنفيذ.
ما يؤخذ على الرأي المذكور ان الخطورة الاجرامية يجب ان تكون فعلية وليست مفترضة والا اصبح القضاة امام صعوبة تكوين عقيدة لاختيار العقاب المناسب لمصدر الخطورة الاجرامية . لذلك ذهب البعض الى تقسيم الخطورة الى خطورة اجرامية تظهر بعد وقوع الفعل الاجرامي وخطورة اجرامية سابقة له. وحتى في حالة ارتكاب الفاعل لجريمة معينة لايكفي وحده لتحقق الخطورة الاجرامية بل لابد الى جانب ذلك ان تظهر دلائل تشير الى احتمال ارتكاب المجرم نفسه جرائم اخرى في المستقبل فلا يكفي الافتراض او التخمين.
اما القول بالخطورة السابقة على وقوع الجريمة وعقاب ذي الخطورة الاجرامية جزائيا وهو في هذه الحالة لم يرتكب اي فعل معاقب عليه قانونا – وهو ما يذهب اليه اصحاب الرأي مدار التقدير- هو امر يتعارض ومبدء شرعية الجرائم والعقاب . الا اذا نظرنا الى ان ذلك يكون من حق الدولة لتوفير الحماية الاجتماعية ، فللمشرع ان ينظم حالات الخطورة السابقة على ارتكاب الجريمة ولكن في حدود ضيقة ودونما خرق لمبدء الشرعية .
اخذ قضاء محكمة التمييز الفرنسية ومحكمة النقض المصرية بالمذهب الشخصي. وكذلك الحال في العراق فقد اخذ المشرع العراقي بالمذهب الشخصي حين عرف الشروع بالمادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 بأنه ( البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية او جنحة ) ولم يشترط ان يأتي الجاني بعض الاعمال المكونة للركن المادي حتى يتحقق الشروع . وانما يكفي ان يقوم الجاني بفعل يكشف عن قصده في ارتكاب الجريمة .
اما محكمة تمييز العراق بدأت تميل للاخذ بالمذهب الشخصي فقد قضت (بأن قطع الاسلاك الشائكة بقصد سرقة العتاد الموجود في المخزن يحقق الشروع في السرقة بالرغم من انهم لم يتمكنوا من كسر قفل باب المخزن لمداهمة الحراس لهم وقتل احدهم ).
على ان تعيين الضابط لتحديد البدء في التنفيذ لا تقتصر اهميته على الشروع التام او الجريمة الخائبة ، وانما يتعداه ليشمل الافعال التي يقوم بها الجاني ومع ذلك يستحيل معها تحقيق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيل تحقيقها والمقصود هنا الجريمة المستحيلة وان استحالة التنفيذ فيها تبدأ في الوقت الذي بدأ فيه الجاني بالركن المادي المكون للجريمة فماهي هذه الجريمة ؟
الجريمة المستحيلة :
هي الجريمة التي يُمتنع تحققها مهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فتبين انه فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه او من كسر خزانة النقود فوجدها خالية.
برزت فكرة الجريمة المستحيلة لاول مرة في فرنسا عندما اراد شخص يدعى laurant ان يقتل اباه فاعد لذلك بندقية جاهزة ومحشوة بالرصاص واسندها على الجدار في الوقت الذي كان فيه ابوه خارج المنزل ،وعند عودة الاب الى المنزل رأى البندقية فراوده الشك حول نية ابنه تناول البندقية وافرغها من العتاد واعادها الى مكانها . احس الابن بعودة الاب اخذ البندقية وصوبها نحوه وضغط على الزناد لكن الرصاص لم ينطلق . راجع الاب لاقامة الدعوى لدى محكمة agent فقضت له وادانت ابنه بالشروع في القتل ، وعندها طرحت المسألة للبحث.
اعتبر الفقيه الالماني فويرباخ عام 1808الجريمة المستحيلة هي التي يستحيل تنفيذها وأرجع سبب استحالة التنفيذ اما الى انعدام المحل كمن اطلق النار على شخص ميت. او الى عدم فاعلية الوسيلة المستخدمة في تنفيذ الجريمة كما لواستخدم الفاعل مسدسا خاليا من الرصاص.
على ان صعوبة وغموضا يعتريان الجريمة المستحيلة، حيث يختلف الفعل الذي يقوم به الجاني بأختلاف زاوية النظر اليه. فاذا نظرنا اليه من ناحية استحالة نتيجته دون الاخذ بنظر الاعتبار نفس الفعل الذي وقع فلا يعتبر جريمة وبالتالي لا يمكن اعتباره من صور الشروع التام المعاقب عليه، والسبب هو ان تحقق النتيجة في الشروع التام ممكن في ظل ظروف النشاط الاجرامي للفاعل وهو بذلك يختلف اختلافا كليا عن تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة حيث ان تحققها غير ممكن اصلا في ظل ظروف النشاط الذي قام به الجاني او في ظروف اخرى ومهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك . اما اذا نظر اليها - الجريمة المستحيلة- من حيث الفعل الواقع بغض النظر عن النتيجة سواء اكانت ممكنة او مستحيلة ، ففي هذه الحالة تعتبر من صور الشروع التام والمعاقب عليه. لأن الشروع كما اسلفنا يبدأ حيث تبدأ الجريمة التامة ولا ينتهي حيث تنتهي ، كما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ والذي بدأه الجاني فعلا في الجريمة المستحيلة.
اضافة لذلك فان ما تقتضيه قاعدة شرعية الجرائم او قانونيتها في الفعل حتى يكون جريمة معاقبا عليه، هو ان يكون مطابقا لنموذجه القانوني. والنموذج القانوني هو صورة الفعل الذي يعتبره المشرع جريمة ويضمنها نصا قانونيا. بعبارة اخرى ان تتوافر في الواقعة الخارجية جميع الاركان والعناصر التي اشترطها المشرع في النموذج القانوني للجريمة. وهنا لابد من تحقق ركني الجريمة المادي والمعنوي في الجريمة التامة وفي الشروع. فهل تحقق ركنا الجريمة في صورة الجريمة المستحيلة.
لا يشكل الركن المعنوي معضلة فهو ذاته في الجريمة التامة وفي الشروع وبما ان الجريمة المستحيلة من صور الشروع فيكون الركن المعنوي متحقق فيها. فلابد ان يتوافر القصد الجنائي لدى الفاعل في صور الجريمة الثلاث على حد سواء، ولا فرق في ذلك بين الجريمة التامة والشروع او الجريمة المستحيلة.
الا ان الامر يختلف في الركن المادي فهو في الشروع بعض الركن المادي في الجريمة التامة. والاختلاف ينحصر في مدى او كمية الافعال المادية التي يقوم بها الجاني لتنفيذ جريمته.
فيكون السلوك الجنائي ناقصا في الشروع عنه في الجريمة التامة حيث تتحقق النتيجة في الثاني بينما تتخلف في الاول.(5)
وحتى تعتبر الواقعة الخارجية جريمة يعاقب عليها القانون يجب ان تتطابق اركانها وعناصرها مع اركان وعناصر نموذجها الذي تضمنه القانون بما في ذلك الركن المادي والمعنوي لها. ولكي تصبح الواقعة شروعا معاقبا عليها يجب ان تتطابق في عناصرها واركانها مع النموذج القانوني ايضا بأستثناء الركن المادي فلا يكتمل وانما يكفي مجرد البدء بالتنفيذ.
نتيجة الصعوبات المذكورة التي احاطت تكييف الجريمة المستحيلة فقد اختلف الفقه والتشريع والقضاء بشأنها ، لذلك سيتم البحث عنها في المجالات الثلاث.
الفقه والجريمة المستحيلة :
اختلف الفقهاء حول ما اذا كانت الجريمة المستحيلة من صور الشروع المعاقب عليه، ام ان استحالة التنفيذ تمنع المشرع من التدخل لفرض العقاب عليها وانقسموا في ذلك الى مذهبين: المذهب المادي والمذهب الشخصي وانقسم انصار كل مذهب الى طائفتين وعلى النحو التالي :
المذهب المادي:
انقسم انصار المذهب المادي الى طائفتين:
الطائفة الاولى : ويرى انصارها وعلى رأسهم الفقيه الالماني فويرباخ عدم العقاب على الجريمة المستحيلة. حيث يرى الفقيه المذكور ان لا عقوبة على الشروع ما لم تكن علاقة سببية تربط بين فعل الجاني والجريمة او نتج عن فعل الجاني خطر. فحتى يتحقق الشروع المعاقب عليه لابد ان يكون هناك اعتداء على المصلحة التي يريد القانون حمايتها او انها تعرضت للخطر لأن كل عقاب يفترض وجود ماديات الفعل وان يكون هناك اعتداء على الحق الذي يحميه القانون . وحججهم الداعمة لرأيهم هي :
1- ان الشروع لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة ، وهذا غير متحقق في الجريمة المستحيلة فلا بدء بتنفيذ ماهو مستحيل سيما وان الاستحالة سواء اكانت مطلقة او نسبية ، مادية او قانونية تلازم نشاط الجاني منذ بدايته. فلا يرقى نشاط الفاعل الى مرتبة البدء بالتنفيذ وبالتالي فلا يمكن وصفها بالشروع المعاقب عليه. فمثلا لا يعتبر شارعا في جريمة القتل من يضع ملحا او سكرا في كوب خصمه لغرض قتله. لأن مادتي الملح والسكرلا تشكلان خطرا على حياة الخصم. كما ان وضع السكر او الملح في كوب الخصم لا يعتبر بدء بالتنفيذ كما اشترطه النموذج القانوني للجريمة.
وللرد على ذلك ان الجريمة المستحيلة تحتمل البدء بالتنفيذ وان كان مقدر له الخيبة وعدم تحقق النتيجة الا ان سلوك الفاعل يكشف عن ارادته ونيته في التوجه للوصول الى النتيجة التي يريدها .وبذلك يكشف فعل الفاعل العقيم عن مدى خطورة هذا الفاعل . وهذا يكفي لفرض عقاب على فعله قياسا على الشروع الذي لم تتحقق فيه النتيجة ولكن اتجهت ارادة الفاعل الى اتمام الجريمة التي توخاها الفاعل.
2- الاستحالة ينعدم معها تحقق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيلها وبالتالي فالفعل لا يشكل خطرا ولا يترتب عليه ضررعلى المصلحة التي يحميها القانون .
وفي هذه الحجة تم التركيز على الخطر الذي يتعرض له الحق الذي يحميه القانون دون الالتفات الى خطورة الجاني التي يأخذها عادة المشرع في فرض العقوبة . وهي لاشك متحققه في الجريمة المستحيلة ويكشف عنها فعل الفاعل الذي يعتبر قرينة عليها .
3- كما ان المشرع الفرنسي لم يعتبرها من صور الشروع المعاقب عليه ولو اراد ذلك لنص عليها صراحة كما فعل بالنسبة لصور الشروع الاخرى سواء الشروع في حده الادنى (الجريمة الناقصة) او الشروع في حده الاعلى (الجريمة الخائبة). ولا يمكن الاحتجاج بأن المشرع عندما نص على الشروع التام اراد من ذلك انه يشمل النص جميع الحالات التي تخيب فيها الجريمة لاسباب لا دخل لارادة الجاني فيها بما في ذلك الجريمة المستحيلة ، لان هناك فرق بين الجريمتين. فالاختلاف واضح بين الشروع التام والجريمة المستحيلة وبالتالي فلا ينصرف قصد المشرع وهو يعاقب على الجريمة الخائبة ان يشمل العقاب الجريمة المستحيلة. حيث في الشروع التام يأتي الجاني افعالا قريبة من تمام الجريمة اي انه يتعامل مع محل الجريمة مباشرة وكما يتطلبه النموذج القانوني للجريمة وبالتالي فان هذه الافعال تعتبر بدء بالتنفيذ. اما في الجريمة المستحيلة فما يقوم به الجاني من افعال يستحيل معها اتمام الجريمة ولا ترقى الى مرتبة البدء بالتنفيذ. فلا يمكن وصفها والحالة هذه بالشروع في الجريمة ولا يمكن ادخالها دائرة العقاب.اذ لايمكن وصف من وضع ملحا في طعام غيره على انه شارعا في جريمة القتل لانه لم يبدأ فعلا في تنفيذ الركن المادي لجريمة القتل. (6)
ما يؤخذ على اصحاب هذا الرأي مغالاته التي تفضي الى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في جميع فروضها، مما يؤدي الى التضييق من نطاق الشروع المعاقب عليه الامر الذي ينجم عنه افلات الكثير من الحالات من العقاب رغم خطورتها.(7)
فاذا كان ليس من المصلحة معاقبة شخص وضع السكر في كوب خصمه لانه لم يتسبب في احداث خطر على حياة الخصم التي يحميها القانون. فان من المصلحة معاقبة الشخص الذي يطلق النار على عدوه فلا يصبه لبعد المسافة بينهما، ففي هذا المثال كانت حياة المجني عليه مهدده بالخطر لولا الصدفة التي جعلته ابعد من مرمى السلاح الناري بأمتار قد تكون قليلة. وليس من المنطق الا يعاقب السارق الذي مدّ يده في جيب المجني عليه فلم يجد نقودا مع ان عمل الفاعل لا يمكن السكوت عنه لما يمثله من انتهاك للحماية التي يقدمها قانون العقوبات وهي من اولويات اهدافه. وكأن اصحاب هذا الرأي يلقون باللائمة على المجني عليهما في المثالين السابقين، فلو كان الاول قريبا من الجاني لتحقق عقاب الاخير، وكذلك لو وضع المجني عليه الثاني النقود في جيبه لتحققت المصلحة في عقاب الجاني.
وهجر الفقه الحديث هذه المذهب ولم يبق من يؤيده.(
الطائفة الثانية : حاول البعض من انصار المذهب المادي نتيجة الانتقادات التي عصفت برأي الطائفة الاولى منهم ان يصلحوا ما افسدته تلك الانتقادات فعمدوا الى تأصيل الاستحالة والتمييز بين نوعين منها :
1- الاستحالة المطلقة : وتتحقق عندما يكون من المستحيل تحقق النتيجة الجنائية في ظل الظروف التي ارتكب فيها الفاعل عمله . وهي اما ان تتصل بمحل الجريمة ، فلا تتحقق النتيجة لانعدام المحل او فقدان شرط اساسي فيه كمن يطلق النار على انسان ميت او من يحاول اجهاض امرأة غير حامل. او انها تتعلق بالوسيلة المستخدمة، عندما لاتفضي تلك الوسيلة الى الهدف الذي اراده الجاني من فعلته. كمن يصوب بندقيته نحو آخر بقصد قتله فلا ينطلق الرصاص لكونها أفرغت من الرصاص دون علمه او كمن يضع مادة يعتقد انها سامة في كوب خصمه فاذا بها ليست كذلك.
ففي الاستحالة المطلقة – عند اصحاب هذا الرأي - سواء تعلقت بالمحل او بالوسيلة يمتنع تحقق الشروع وبالتالي فلا عقاب عليها. وحجتهم في ذلك ان المجني عليه لا يتعرض للخطر لان الجريمة لا يمكن وقوعها بأي حال من الاحوال لأنعدام محلها وبانعدام المحل ينتفي معه البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم . اضافة الى ذلك فان الاستحالة المذكورة ترافق الفعل منذ البدء في تنفيذه وهذا يعني تخلف ركن البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم كما يتطلبه النوذج القانوني للجريمة. وحيث لا بدء في العمل فلا شروع فيه وبالتالي لا عقاب عليه.
2- الاستحالة النسبية : وهي اما تتعلق بمحل الجريمة اذا كان الموضوع مما تتوافر كل شروط تنفيذ الجريمة الا انه موجود في غير المكان الذي يظن الجاني وجوده فيه. كمن يريد قتل غريمه معتقدا انه في فراشه فيطلق النار عليه فاذا به قد غادر المكان قبل فترة. او ان الاستحالة النسبية تتعلق بالوسيلة المستخدمة. كما لوكانت هذه الوسيلة صالحة للاستخدام وبأمكانها تحقق النتيجة الا ان جهل الجاني في استخدامها منع من تحقق النتيجة. كما لو وضع الجاني مقدارا قليلا من السم لايكفي لقتل انسان في طعام عدوه قاصدا قتله معتقدا انه يكفي لقتله.
اغرم الكثير من الفقهاء بالرأي الاخير وهو تقسيم الاستحالة الى مطلقة ونسبية، وتقرير العقوبة على الثانية دون الاولى وصادفت نجاحا وقبولا في الفقه والتشريع والقضاء. الا ان الاساس الذي بنيت عليه غير متين، اذ كيف يمكن وضع حدا فاصلا بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية. ان مثل هذا التقسيم يخالف طبيعة الاستحالة ، فلا يمكن تصور ان تكون للاستحالة درجات فهي اما ان لاتكون، واذا تحققت فلا تكون مطلقة او نسبية .
يتبين مما تقدم ان انصار المذهب المادي اعتمد الركن المادي للجريمة معيارا لتحديد الشروع الذي لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الافعال المادية المكون للجريمة ومدى خطورتها على الحق الذي يحميه القانون كضابط للعقاب. وحيث ان ذلك لا يتحقق في الجريمة المستحيلة فلا شروع وبالتالي لا عقاب.
المذهب الشخصي :
على عكس اصحاب المذهب المادي فقد ذهب انصار المذهب الشخصي الى تبني ضابط الارادة الجرمية للجاني كمعيار للعقاب . فاذا ما كانت ارادة الجاني حقيقية وجدية في اتمام الجريمة وفق ما يتطلبه النموذج القانوني للجريمة فعندها يستحق العقاب لانه جاء بجريمة الشروع. وانقسموا في ذلك طائفتين :
الطائفة الاولى : ويرى اصحاب هذه الطائفة عكس ما تراه الطائفة الاولى من المذهب المادي . اي انهم يقولون بوجوب العقاب على الجريمة المستحيلة بغض النظر عن امكانية او استحالة التنفيذ وايا كانت درجة هذه الاستحالة. فالجريمة المستحيلة حسب رأيهم كالجريمة الخائبة ينطبق عليها ما ينطبق على الجريمة الثانية.
وحجتهم في ذلك ان الحكمة من العقوبة التي يفرضها المشرع على الشروع ليس لمواجهة السلوك الاجرامي ، لان مثل هذا السلوك لم يحقق النتيجة ، وانما يفرضه المشرع لمواجهة ما يكشف عنه السلوك من خطورة اجرامية لصاحب السلوك. فعندما يكشف السلوك عن مثل هذه الخطورة فانه يُعد قرينة قاطعة على ان ارادة الجاني قد اتجهت فعلا لارتكاب الجريمة. فاذا ما بدأ الجاني بتنفيذ فعل قاصدا من ورائه ارتكاب جريمة ما فهذا يعني ان الشروع بالجريمة قد تحقق. لان سلوك الجاني كشف عن اصراره على ارتكاب الجريمة فيكون شرع بارتكابها بغض النظر عن الاسباب اللااردية التي حالت دون تحقق النتيجة. فعندهم ان معيار الشروع هو البدء بالتنفيذ ولا يهم بعد ذلك ما اذا كانت الجريمة ممكنة او مستحيلة.
ويستثنون مما اطلقوه من عقاب على الجريمة المستحيلة اذا ما كان سلوك الجاني يدل على سذاجته لان مثل هذا السلوك يدل على عدم خطورة الفاعل وعدم اتجاه ارادته الى ارتكاب الجريمة وبالتالي لاعقاب عليه. كما لو اراد احدهم قتل الاخر عن طريق السحر والشعوذة، ويرون ان سبب عدم معاقبة الفاعل ليس لأن السحر والشعوذة غير ملائمين للقتل انما لعدم خطورة الفاعل التي تدلل عليه سذاجته وبساطته.
يعززون رأيهم بأن المشرع عندما يعاقب على الشروع لا يأخذ بنظر الاعتبار ما يصيب المجتمع او الفرد من ضرر اجتماعي. انما يأخذ في حسبانه مدى خطورة الجاني. وتتحقق الخطورة سواء كانت الجريمة مستحيلة او ممكنة ، لان الاستحالة والامكان يكونان لاسباب خارجة عن ارادة الجاني وبالتالي لاعلاقة لهما بخطورته. (9)
وقد لا قى هذا الرأي قبولا واستحسانا من قبل الكثير من الفقهاء كما اخذت به الكثير من التشريعات ومنها التشريع العراقي كما سيأتي لا حقا.
اهم حسنة لهذا الرأي توفيره الحماية الكافية للمجتمع بعقابه على جميع فروض الجريمة المستحيلة بعقوبة الشروع بأستثناء الجريمة الوهمية والتي لا وجود لها الا في ذهن الجاني كمن يسرق مالا ويظهر انه مملوكا له - ومن المتفق عليه ان الجريمة الوهمية لا تعتبر من صور الجريمة المستحيلة (10) - اما ما يؤخذ عليه فما يلي :
1- مغالاته حيث اعتبر الافعال المادية التي يقوم بها الجاني دليلا على ثبوت ارادته الجرمية والتي تثبت بدورها خطورة الجاني. وعليه فالمشرع بمعاقبته على الشروع حسب رأيهم لا يعاقب على الفعل انما على ما يكشف عنه الفعل من خطورة. اي ان سبب العقاب ليس على ما يسببه الفعل من ضرر اجتماعي انما على ما يكشفه من خطورة الجاني فقط . في حين ان المشرع بفرضه العقاب على فعل ما يأخذ في الاعتبار الامرين معا ما ينتج عن الفعل من خطر اجتماعي وخطورة الجاني التي يعتبر الفعل قرينة عليها. واهمل اصحاب هذا الاتجاه الامر الاول فيما تمسكوا بالامر الثاني فقط وجعلوه علة التجريم . بالرغم من ان البعض يرى وجوب الامرين معا الا انهم يؤكدون على اهمية الفعل ويرون انها اكثر رجحانا من الامر الاخر. (11)
2- الأخذ بهذا الراي يثير الكثير من الصعوبات امام القضاء حيث يدخل القضاة في متاهاة العناصر النفسية للجناة وهي من الامور التي يصعب وضع ضابط لها. (12)
3- البعض من الكتاب يرى ان الاخذ بهذا الرأي على اطلاقه يؤدي الى ادخال الجريمة الوهمية في دائرة العقاب، مع ان من المتفق عليه ان الجريمة الوهمية غير معاقب عليها لانها ليست صورة من الجريمة المستحيلة فلا يجوز معاقبة شخص سرق مالا يعتقد انه لغيره فاذا بالمال مملوك له (13)
الطائفة الثانية : حاول انصار الطائفة الثانية وعلى رأسهم (جارو)اخراج بعض صور الجريمة المستحيلة من الشروع المعاقب عليه وميزوا بين نوعين من الاستحالة :
1- الاستحالة القانونية : وتعني تخلف ركن او عنصر من عناصر الجريمة والتي لا تقع الجريمة بدونها الى جانب تخلف النتيجة كمن يطلق النار على شخص يعتقد انه نائم على سريره فاذا به فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه او كمن يريد اجهاض امرأة وهي ليست حامل . هذا النوع من الاستحالة القانونية تتعلق بمحل او موضوع الجريمة . اما ما تعلق منها بالوسيلة فكمن يحاول قتل خصمه بمادة غير سامة معتقدا انها سامة .
هذا النوع من الاستحالة يمنع تحقق الشروع ولا يعاقب عليه القانون لعدم تحقق عناصره القانونيه. حيث ان عناصر الشروع هي نفس عناصر الجريمة التامة وما يتصف فيه الشروع من نقصان هو يتمثل فقط في الركن المادي وفي النتيجة. فالركن المادي في الشروع هو بعض الركن المادي في الجريمة التامة ومن طبيعة الشروع عدم تحقق النتيجة ايضا. اما العناصر الاخرى التي يتوجب توافرها في الجريمة التامة هي نفسها في الشروع، فاذا ما تخلف احدها فلا شروع ولا عقاب على الفعل اذا لم يشكل شروعا. ففي السرقة مثلا اشترطت المادة 439 من قانون العقوبات العراقي ان يكون المال المراد سرقته مملوكا للغير. فاذا تخلف الشرط المذكور وقام الشخص بسرقة مال مملوك له فلا يتحقق هنا الشروع في السرقة لتخلف عنصر مملوكية المال للغير.
كما ان المادة 405 من قانون العقوبات العراقي اشترطت في النموذج القانوني لجريمة القتل ان يكون الانسان حيا والا فلا معنى لقتله. فالحياة هي الهدف الذي يريد القانون حمايته فاذا تخلف هذا العنصر وقام شخص باطلاق النار على آخر تبين انه فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه فلا نكون بصدد شروع معاقب عليه. او كمن يمد يده في جيب شخص يقف الى جواره في حافلة ليسرق منه نقودا فاذا بالجيب خال من النقود فلا يعتبر الفاعل شارعا في جريمة السرقة لأن المادة 439 من قانون العقوبات العراقي مثلا عرفت السرقة بأنها اختلاس مال منقول مملوك للغير والاختلاس لا يتحقق الابوضع اليد على المال المنقول والفاعل لم يضع يده على المال فلا عقاب عليه حتى وان مد يده في جيب غيره. في الامثلة المتقدمة وحسب رأي الطائفة الثانية تكون الافعال التي قام بها الجاني غير صالحة لاحداث الأثر من الناحية القانونية وبالتالي فانها تبقى خارج دائرة العقاب.
يدعم ذلك الرأي القائل بأن الاستحالة القانونية تجعل افعال الجاني لا تشكل تهديدا للمصلحة التي يريد القانون حمايتها. وبتخلف التهديد يتخلف عنصر قانوني يتطلبه النموذج القانوني للجريمة. اضافة الى ان عدم تجريم الاستحالة القانونية يأتي منسجما مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات حيث لا توجد جريمة قتل في حالة الاعتداء على انسان فارق الحياة ولا سرقة اذا وقع الاختلاس على مال يعود للجاني نفسه .
اضافة الى ان الاستحالة القانونية ليست من صور الشروع .لان الاخير يتطلب توفر كل متطلبات النموذج القانوني للجريمة التامة في حين الاستحالة القانونية تقتضي تخلف ركن او عنصر من العناصر التي يتطلبها القانون .
2- الاستحالة المادية : وفي ظلها تتوافر كافة اركان وعناصر الجريمة وفق ما يتطلبها نموذجها القانوني عدى النتيجة التي يحول سبب لا ارادي دون تحققها . فبموجبها يقوم الجاني بكل ما يتطلبه القانون من عناصر واركان للجريمة الا ان حدثا عارضا لا دخل لارادة الجاني حال دون الوصول الى تحقيق الهدف الذي يصبو اليه الفاعل، ولا يهم بعد ذلك ان تكون الحادثة اللاارادية والعرضية التي منعت من تحقق النتيجة تتعلق بموضوع الجريمة كعدم وجود المجني عليه في السرير حيث توقع الجاني ام انها تتعلق بالوسيلةكعدم صلاحية السلاح المستخدم . ففي الحالتين يتحقق الشروع لتوافر جميع عناصره القانونية وبالتالي يعاقب الفاعل بوصفه شارعا في الجريمة. اي ان الاستحالة المادية تأخذ حكم الجريمة الخائبة طالما ثبت ان لا دخل لارادة الجاني في الاسباب العارضة .(14)
ما يؤخذ على هذا الرأي انه يؤدي الى التوسع في الجريمة المستحيلة مما يوسع من دائرة نطاق العقاب عليها . فضلا عن انه يؤدي الى نتائج متقاربة لنتائج مذهب التفريق بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية . فتقابل الاستحالة المطلقة في اغلب حالاتها الاستحالة القانونية ولا عقاب عليهما، كما تقابل الاستحالة النسبية في المذهب المادي الاستحالة المادية في المذهب الشخصي ويعاقب عليهما. الا ان الفرق في السند لكل من الاتجاهين. فبينما اصَل الرأي الثاني من المذهب المادي الاستحالة وقسموها الى مطلقة ونسبية وهوما لا ينسجم وطبيعة الاستحالة كما بينا فهي اما ان لاتكون واذا كانت فليس لها درجات . بينما السند عند اصحاب الرأي الثاني من المذهب الشخصي هو في تقسيم الاستحالة الى قانونية ومادية وهذا ما تقتضيه طبيعة الاستحالة، اذ من الممكن تعدد مجالات الاستحالة ولا ضير في ذلك.
اضافة لذلك فاذا كان اصحاب الاستحالة المطلقة يقولون بعدم تحقق الشروع المعاقب عليه وحجتهم في ذلك ان الشروع يقتضي البدء في التنفيذ ولا تنفيذ فيما يستحيل تنفيذه. اما في الاستحالة القانونية فيقتضي تخلف ركن اوعنصر من عناصر الجريمة اضافة الى تخلف النتيجة وبذلك يكون الرأي الاخير اكثر انسجاما مع الواقع من الرأي القائل بتقسيم الاستحالة الى مطلقة ونسبية ، فضلا عن ان هذا ما يقتضيه مبدء قانونية الجرائم فهو يستند اليه.
الجريمة المستحيلة في التشريع :
اختلفت التشريعات في مواقفها ازاء الجريمة المستحيلة . فبعضها لم تنص عليها والسبب في تبني هذا الاتجاه هو ان بعض صور الجريمة المستحيلة تشبه الجريمة الخائبة مما يصعب معه وضع ضابط محدد لها يميزها عن غيرها من صور الجريمة الخائبة. ويرى اصحاب هذا الاتجاه ان وضع نص بشان الجريمة المستحيلة يعني ألزام القضاء بضرورة التقيد به ، وحيث يصعب وضع معيار يميزها عن غيرها يقع القضاء في خطأ يضر بالعدالة والمجتمع. علاوة على ذلك فان المشرعين اصحاب الاتجاه المذكور لا يريدون ألزام انفسهم بمذهب من المذاهب التي عالجت صور الجريمة المستحيلة . ومن هذه التشريعات قانون العقوبات الفرنسي القديم لعام 1810 وتعديلاته وآخرها قانون العقوبات لعام 1994 . وسار المشرع المصري على نفس الطريق فلم ينص على الجريمة المستحيلة في قانون العقوبات لعام 1904 وتعديلاته اللاحقة . كما فعل ذلك المشرع الاردني في قانون العقوبات رقم 16لسنة 1960.(15)
بينما اتجهت تشريعات اخرى الى حسم مشكلة الجريمة المستحيلة بالنص عليها وان اختلفت في اسلوب المعالجة:
فمنها ما تبنى المذهب الشخصي القائل بوجوب العقاب على الجريمة المستحيلة بصورة مطلقة كما فعل المشرع العراقي في قانون العقوبات العراقي رقم 111لسنة 1969 المعدل حيث نص في المادة 30 على اعتبار الجريمة المستحيلة من صور الشروع ( .... ويعتبر شروعا في ارتكاب الجريمة كل فعل صدر بقصد ارتكاب جناية او جنحة مستحيلة التنفيذ اما لسبب يتعلق بموضوع الجريمة او الوسيلة التي استعملت في ارتكابها ما لم يكن اعتقاد الفاعل صلاحية عمله لأحداث النتيجة مبنيا على وهم او جهل مطبق ...) .
ومن النص آنف الذكر يتبين ان المشرع العراقي تبنى رأي المذهب الشخصي فاعتبر الجريمة المستحيلة من صور الشروع المعاقب عليه بصورة مطلقة واستثنى الجريمة الوهمية وهي التي لا وجود لها الا في ذهن مرتكبها كمن يسرق مالا يتبين انه مملوكا له. وقد احسن المشرع العراقي صنعا في تبني الرأي المذكور لانه وسّع في الشروع الذي ادى الى التوسع في دائرة العقاب فحقق بذلك الحماية المقصودة من قانون العقوبات . وبذلك تدارك ما وقع فيه غيره ولم يغفل عن بعض الاعمال التي تكشف عن مدى خطورة الجاني . اضافة لذك فان المادة المذكورة جاءت متكاملة فهو قد اشترط في مقدمتها لقيام الشروع البدء في التنفيذ اولا ، وان يكون للجاني قصدا في ارتكاب الجريمة وبما ان الامرين متحققان في الجريمة المستحيلة فقد نص على العقاب عليها باعتبارها شروعا .
وتبنى المشرع السوري في قانون العقوبات لعام 1949 المذهب الشخصي ايضا حيث فرض العقاب على الجريمة المستحيلة واعتبرها من صور الشروع المعاقب عليه. فنصت الفقرة الاولى من المادة 202 من قانون العقوبات السوري ( يعاقب على الشروع وان لم يكن في الامكان بلوغ الهدف بسبب ظرف مادي يجهله الفاعل ) . الا انه استثنى من ذلك حالتين ،الحالة الاولى ما اذا كان الجاني قد اتى فعله وهو غير فاهم له وهذا ما تضمنته الفقرة الثانية من المادة المذكورة ( على ان الفاعل لا يعاقب في هذه الحالة اذا اتى فعله عن غير فهم ) ، والثانية هو ما يتعلق بالجريمة الوهمية وهي التي ليس لها وجود الا في ذهن الجاني ،كما جاء في الفقرة الثالثة من المادة المذكورة ( وكذلك لا يعاقب من ارتكب فعلا وظن خطأ انه يكون جريمة) .
وهذا ايضا ما درج عليه قانون العقوبات المغربي حيث نص في الفصل 117 على ان (يعاقب على المحاولة حتى في الاحوال التي يكون الغرض فيها من الجريمة غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل ) . غير ان المشرع المغربي اطلق في العقوبة على الجريمة المستحيلة ولم يستثن ما استثناه المشرعان العراقي والسوري.
ومن التشريعات من تأثر بالرأي القائل بتأصيل الاستحالة وتقسيمها الى استحالة مطلقة واخرى نسبية ، فأوجب العقاب على الثانية دون الاولى كقانون العقوبات الايطالي لعام 1930 حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 49 منه على ان ( يستبعد العقاب حين يكون تحقق النتيجة مستحيلا سواء بسبب انعدام صلاحية السلوك لاحداث هذه النتيجة او بسبب انعدام المحل الذي يستهدفه السلوك ذاته ) . ومن التشريعات التي اخذت بأسلوب التفرقة بين الاستحالة المطلقة والنسبية قانون العقوبات البرازيلي لسنة 1940 وقانون العقوبات الروماني لسنة 1937وقانون العقوبات الاسباني لعام 1928 .وهذا ما ذهب اليه المشرع المصري في مشروع قانون العقوبات لعام 1966 في المادة 42/2. (16) .
ولم يقتصر اختلاف التشريعات التي تبنت النص على الجريمة المستحيلة على المذهب المعتمد من قبلها بل اختلفت ايضا من حيث العقوبة المقررة لها . فبعضها ساوى في العقوبة بين الجريمة المستحيلة والشروع كما فعل المشرع السوري واللبناني . في حين ان بعض التشريعات قررت لها حكما خاصا كما في قانون العقوبات الاسباني لعام 1944 ، فرغم ان المشرع الاسباني اعتبر الجريمة المستحيلة من صور الشروع التام الا انه من حيث العقاب خصص لها نفس عقوبة الشروع الناقص ، وعقوبة الاخيراخف من عقوبة الشروع التام .
موقف القضاء من الجريمة المستحيلة
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب