مسؤولية
الطبيب عن أخطائه في الفقه الإسلامي
طبيعة مسؤولية الطبيب:
مسؤولية الطبيب مسؤولية عقدية، وبناء على هذه
المسؤولية العقدية
تنشأ مسؤوليته المدنية عن أخطائه المهنية.
والمسؤولية العقد تنشأ عن
عقد بين طرفين، تتوفر فيهما
أهلية التعاقد بأن يكون كل واحد منهما بالغا عاقلا حرّا مختارا.
ويجب أن تلتقي إرادتاهما برضى كامل غير مشوب،
بإكراه أو تدليس أو غير ذلك من عيوب الإرادة.
وإذا كان بعض المرضى غير مؤهلين للتعاقد قام
عنهم أولياؤهم.
جاء في حاشية ابن عابدين: «ويشترط لعدم
الضمان الإذن، وعدم التجاوز،
فإن عُدم أحدهما أو كلاهما يجب الضمان»(1 ).
وجاء في المبسوط: «وأما فعل الفصاد والبزاغ،
فإنه مضمون ضمان عقد»(2
ويقول الزيلعي معللا ذلك بأن الطبيب قد:
«التزمه بمقتضى العقد فصار واجبا عليه»(3
فطبيعة هذه العلاقة إذن تعاقدية، قائمة على
العقد بمعناه وأركانه الشرعية.
ثم إن هذا العقد هو عقد إجارة، ومحلها بذل
العناية، واستفراغ الوسع. وإن رأى فريق من الفقهاء جواز كونه عقد جعالة كما مضى بنا ذلك.
وقد عرف الفقه الإسلامي الأجير المشترك الذي يقدِّم الخدمة
لأكثر من واحد، كما عرف الأجير الخاص الذي يتقيد بشخص واحد يخدمه، وكذلك نجد كلا النوعين
في مهنة الطب، فهناك طبيب خاص يتعاقد مع المريض وحده، وهناك طبيب يقدم خدمته لعلاج
المرضى، سواء كان في قطاع عام أم قطاع خاص.
وقد ذكر الفقهاء المسلمون صورا لهذين النوعين
من إجارة الطبيب، فمثل الطبيب الأجير الخاص، أن يستأجر أحد شخصا لختان
ولده، أو ليقوم بحجامته، أو ليعالج عينه أو يقلع ضرسه، أو يقطع شيئا تآكل في
جسده، أو نحو ذلك(4
ومثل الطبيب الأجير العام الذي يفتح عيادة
يستقبل فيها الناس دون أن يكون مختصا بواحد من المرضى بعينه، وقد يكون هذا الطبيب
موظفا في مستشفى عام أو خاص، فكل هؤلاء في الأصل إجارتهم عامة، لأنهم يقدمون الخدمة
لأكثر من مريض.
متى تثبت مسؤولية الطبيب؟
وبناء على هذا تكون مسؤولية
الطبيب أزاء مريضه مسؤولية
تعاقدية مدنية. ولا تتحقق المسؤولية التقصيرية إلا في حالات استثنائية.
والملاحظ أن الفقه الإسلامي لم يستعمل مصطلح
المسؤولية التقصيرية،
وإنما أدرجها ضمن صور الضمان، وقواعد إزالة الضرر، والأصل أن الإنسان
ملتزم بعدم الإضرار بالغير في
كل الظروف، فإذا فعل ما ينتج عنه الضرر كانت مسؤوليته تقصيرية، وإن كان ضرره عن عمد كان مسؤولية
جنائية. ويجمع الفقه الإسلامي كل ذلك في مصطلح الضمان. والقاعدة الفقهية الشهيرة:
العمد والخطأ في أموال الناس سواء. وكذلك الحال في أبدانهم، وإنما يرتفع الإثم دون
الضمان في حال الخطإ والتقصير.
أما العمد فإنه يتحقق عندما يمارس الطبيب المهنة
دون علم بقواعدها وأصولها، وهو ما أجمع عليه الفقهاء، أن من تطبب دون علم كان ضامنا.
فعن الإمام جعفر الصادق أن
الطبيب «لا يضمن إذا اجتهد
واحتاط، وقبِل المريض، أو وليه ذلك، لقول أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، من تطبب أو تبيطر فليأخذ
البراءة من وليه، وإلا فهو ضامن»(5
وقد حرص الفقهاء على وضع ضوابط لمن يتأهل
لممارسة هذه المهنة الحساسة والخطيرة، لأنها تتعلق بمصير أجساد الناس وأرواحهم.
فحكموا بوجوب الحجر على الطبيب الجاهل لتغريره بالناس وإفساده لأبدانهم.
ولا يكفي لرفع الضمان عنه تأهله
لهذه المهنة، بل عدم خروجه عن
العرف السائد في ممارسة هذا العمل، فإذا عالج مخالفا لقواعد العمل التي تعارفها أهل المهنة كان
متعديا يضمن ما نتج عن تعديه أيضا.
فإذا مارس الطبيب عمله وفق أصول المهنة، وكان
متأهلا لذلك، وحصل له اتفاق مع المريض، أو وليّه الشرعي، كان قد استوفى أركان العقد
وشروط العمل، فلا تقوم عليه المسؤولية في هذه الحال. وليس عليه بعد ذلك ضمان.
أما بالنسبة للقانون فإن جمهور فقهائه يتفقون مع الفقه الإسلامي
في النظر إلى طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض أنه علاقة عقدية، وما يكون منه من
أخطاء يكون تحت طائلة المسؤولية العقدية، إلا في حالات استثنائية تندرج تحت أحكام
المسؤولية التقصيرية.
الإذن للطبيب شرط لرفع الضمان عنه:
يندرج في هذا إذن الحاكم للطبيب بممارسة المهنة، وإذن
المريض له في علاجه.
وقد ذكرنا أن الطبيب إذا كان أهلا للمهنة وبذل الجهد في
ممارسة عمله وفق أصول مهنته، ولم يصدر منه تعدٍّ أو إهمال ينسب إليه كان بريئا من
أية آثار سلبية تنجم عن عمله، لأن القاعدة الشرعية "أن الإذن ينافي الضمان".
يقول الدكتور أحمد شرف الدين: «يذهب الرأي الراجح في الفقه الإسلامي إلى أن
أساس عدم مسؤولية الطبيب أو الجراح هو إذن الشرع وإذن المريض، وينبغي أن يكون عمله
حسبما تقرره أصول المهنة، وأن لا يكون قد أخطأ خطأ فاحشا، وإذا تولّد عن عمل الطبيب
الحاذق تلف نفس أو عضو بعد اجتماع هذه الشروط، فلا ضمان على الطبيب لا في النفس ولا
في العضو، لأن القاعدة الكلية تقول: بأن الجواز الشرعي ينافي الضمان، فإذا فعل الشخص ما يجوز
شرعا فلا يسأل عن الضرر الحادث، وإن كان سببا له، ومثاله أن يقطع الشخص يد السارق،
بناء على أمر الحاكم، فحصلت السراية فلا يضمنها القاطع»(6 ).
يقول الدكتور البار: «ولهذا
فإذا كان الطبيب قد حصل على إذن
الشارع أو ولي الأمر أو من يمثله، كالمحتسب، أو وزارة الصحة، أو نقابة الأطباء، أو المجلس
الطبي، إلخ،، في ممارسة مهنة الطب، أو فرع منها، بعد أن حصل على شهادة معتبرة في
الطب، وبعد تدربه على أيدي الأساتذة في الطب، وحصل أيضا على إذن المريض العاقل
البالغ، أو وليه إذا كان قاصرا أو ناقص الأهلية، وإذا كان العمل مأذونا فيه، ولم
تجنِ يد الطبيب ، وعمل حسب الأصول الطبية المعروفة في بلده وزمنه، ولم يخطئ خطأ لا يقع
فيه مثله، فليس على هذا الطبيب ضمان، ولا لوم ولا تثريب، لأنه قد بذل الجهد
والرعاية، ولم يهمل ولم يقصّر، ولم يخالف أصول المهنة، وحصل على الإذن من جهة الشارع،
ومن جهة المريض»(7 ).
وأورد البار(8 ) رأي ثلة من العلماء الأفاضل
قالوا بمثل هذا القول، منهم الشيخ محمد حسنين مخلوف(9 ). والدكتور وهبة الزحيلي (10 ).
ومن القواعد المقررة في الفقه أن المتولد من فعل مأذون فيه لا يكون
مضمونا، "ولا ضمان على حجام وبزّاغ (الذي يفصد الحيوانات)، لم يجاوز الموضع
المعتاد، بشرط الإذن طبعا(11 ).
تحديد نطاق المسؤولية الطبية
للطبيب:
إن الخطأ الفاحش أو الجسيم من الطبيب يعدّ
عمدًا، وإن لم يقصده. كمن سقى مريضه السم لقصد العلاج فحصل الموت، فهذا عمد، وإن لم
يقصد منه القتل، لأن العرف قاض بأن سقي الإنسان السم من صور قتل العمد، وإن لم يقصده
الطبيب.
ومن المناسب أن نبين أن مسؤولية الطبيب في أخطائه تتحدد بعد موافقة
المريض على المعالجة، فما لم يوافق المريض على العلاج لا يجوز للطبيب أن يمس جسده بغير
رضاه. وإن فعل وحصل منه ضرر غير متوقع حسب القواعد الفنية للعلاج، كان ضامنا رغم عدم
تقصيره، وعدم خطئه، لأن رضا المريض غير حاصل في هذه الحال.
كما لا يجوز للطبيب أن يتقاعس عن العلاج إذا
حصلت موافقة المريض، إلا أن
يشغله ضروري من حالة طارئة أو
سبب قاهر، وإلا كان مقصرّا ويتحمل مسؤوليته أزاء ما قد ينجرّ عن هذا التقاعس
من مضاعفات وأضرار ما كانت لتحدث للمريض لو عجل الطبيب بعلاجه في الوقت المناسب.
وقد تنشأ أضرار يسيرة عن عمل الطبيب لا يمكن التحرز منها حسب
العادة، ولكن الفقهاء عفوا عنها، تشجيعا للأطباء حتى لا تكون هذه حاجزا يمنعهم من ممارسة
المهنة، فيلحق المجتمع أذى كبير، يفوق تلك الأضرار اليسيرة، وهذا ما تقضي به قواعد
الترجيح بين مضرة المريض المحتملة، وبين مضرة المجتمع الشاملة.
وكثيرا ما تكون هذه الأخطاء في أمور
اجتهادية ليس فيه قاعدة أجمع
عليها الأطباء، فيراعي فيها الطبيب الأصلح، ثم لا يتحقق ما توقعه.
وضربوا لذلك مثلا بصبية وقعت فانفتح رأسها،
فقال كثير من الجراحين إن شققتم رأسها ماتت، وقال واحد منهم إن لم
تشقّوه اليوم ماتت، وأنا أشقه وأبريها، فماتت بعد يوم أو يومين، وحين سئل الفقهاء
قالوا: لا يضمن ولو تعهد بذلك، لأنه بذل الجهد واتبع قواعد المهنة، ولم يصدر منه خطأ
فاحش ينافي هذه القواعد(12 ).
وفي الفتاوى الخيرية: «سئل في طبيب غير جاهل،
طلبت منه امرأة مريضة دواء لها، فأعطاها دواء شربته بنفسها في بيتها، فزعم ابنها أنه
ازداد مرضها، فهل لا يلزمه شيء، ولا عبرة بزعمه؟ الجواب: نعم»(13 ).
ولا فرق عند الفقهاء بين أن يكون
الضرر ناتجا عن وصف دواء أو
طريقة في المعالجة أو عملية جراحية يقوم بها الطبيب، ما دام الأساس واحدا والقاعدة واحدة.
وقد ذكر ابن القيم حكم «طبيب حاذق أعطى
الصنعة حقها، ولم تجن يده،
فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة ما يطلبه، تلف العضو أو النفس، أو ذهاب صنعة،
فهذا لا ضمان عليه اتفاقا… فإنها سراية مأذون فيه، وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت
وسنّه قابلة للختان، وأعطى الصنعة حقها، فتلف العضو أو الصبي لم يضمن. وكذلك إذا بطّ
(شقّ) من عاقل ما ينبغي بطّه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن، وهكذا
سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها كسراية الحد بالاتفاق»(14 ).
الهومش
(1 )
– ابن عابدين، رد المحتار على
الدر المختار، ج6، ص70.
(2 ) – السرخسي، المبسوط، ج26،
ص149.
(3 ) – الزيلعي، تبيين
الحقائق، ج5، ص137.
(4 ) – ينظر على سبيل المثال
لهذه الصور، النووي، المجموع شرح المهذب، ج15، ص82. – ابن حجر، الفتاوى الكبرى، ج3،
ص149. – التاج المذهب، ج3، ص107.
(5 ) – محمود جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق،
ج3، ص283.
(6 ) – أحمد شرف الدين، الأحكام الشرعية الطبية، المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، الكويت، 1983، ص41-42.
(7 ) – د. محمد علي البار، ضمان
الطبيب، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة عشرة، ص11.
(8 ) – محمد علي البار،
أخلاقيات الطبيب، مسؤوليته وضمانه، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة،
1414هـ ص 83-90.
(9 ) – مخلوف،
فتاوى شرعية، ص108.
(10 ) – الزحيلي، نظرية الضمان،
ص212.
(11 ) – ابن
عابدين، رد المحتار على الدر
المختار، ج6، ص68. - الأشباه والنظائر للسيوطي، ص11.- الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص305.
(12 ) – انظر: د. عبد السميع
عبد الوهاب أبو الخير، طبيعة المسؤولية المدنية عن ضرر الخطإ الطبي
للطبيب ونطاق ضمانه في الفقه الإسلامي، ضمن أعمال مؤتمر الطب والقانون، الذي
نظمته كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة، في 7-9 محرم 1419هـ
3-5 مايو1998م. ص285، نقلا عن حاشية الطحاوي على الدر المختار، ج4، ص276.
(13 ) – انظر: د. عبد السميع
عبد الوهاب، طبيعة
المسؤولية المدنية عن ضرر الخطإ الطبي للطبيب ونطاق ضمانه في الفقه
الإسلامي، ص285، نقلا عن
الفتاوى الخيرية لنفع خير البرية. حاشية الطحاوي على الدر المختار، ج4، ص276.
(14 ) – ابن القيم، زاد المعاد
في هدي خير العباد، ج4، ص139.
منقول
الطبيب عن أخطائه في الفقه الإسلامي
طبيعة مسؤولية الطبيب:
مسؤولية الطبيب مسؤولية عقدية، وبناء على هذه
المسؤولية العقدية
تنشأ مسؤوليته المدنية عن أخطائه المهنية.
والمسؤولية العقد تنشأ عن
عقد بين طرفين، تتوفر فيهما
أهلية التعاقد بأن يكون كل واحد منهما بالغا عاقلا حرّا مختارا.
ويجب أن تلتقي إرادتاهما برضى كامل غير مشوب،
بإكراه أو تدليس أو غير ذلك من عيوب الإرادة.
وإذا كان بعض المرضى غير مؤهلين للتعاقد قام
عنهم أولياؤهم.
جاء في حاشية ابن عابدين: «ويشترط لعدم
الضمان الإذن، وعدم التجاوز،
فإن عُدم أحدهما أو كلاهما يجب الضمان»(1 ).
وجاء في المبسوط: «وأما فعل الفصاد والبزاغ،
فإنه مضمون ضمان عقد»(2
ويقول الزيلعي معللا ذلك بأن الطبيب قد:
«التزمه بمقتضى العقد فصار واجبا عليه»(3
فطبيعة هذه العلاقة إذن تعاقدية، قائمة على
العقد بمعناه وأركانه الشرعية.
ثم إن هذا العقد هو عقد إجارة، ومحلها بذل
العناية، واستفراغ الوسع. وإن رأى فريق من الفقهاء جواز كونه عقد جعالة كما مضى بنا ذلك.
وقد عرف الفقه الإسلامي الأجير المشترك الذي يقدِّم الخدمة
لأكثر من واحد، كما عرف الأجير الخاص الذي يتقيد بشخص واحد يخدمه، وكذلك نجد كلا النوعين
في مهنة الطب، فهناك طبيب خاص يتعاقد مع المريض وحده، وهناك طبيب يقدم خدمته لعلاج
المرضى، سواء كان في قطاع عام أم قطاع خاص.
وقد ذكر الفقهاء المسلمون صورا لهذين النوعين
من إجارة الطبيب، فمثل الطبيب الأجير الخاص، أن يستأجر أحد شخصا لختان
ولده، أو ليقوم بحجامته، أو ليعالج عينه أو يقلع ضرسه، أو يقطع شيئا تآكل في
جسده، أو نحو ذلك(4
ومثل الطبيب الأجير العام الذي يفتح عيادة
يستقبل فيها الناس دون أن يكون مختصا بواحد من المرضى بعينه، وقد يكون هذا الطبيب
موظفا في مستشفى عام أو خاص، فكل هؤلاء في الأصل إجارتهم عامة، لأنهم يقدمون الخدمة
لأكثر من مريض.
متى تثبت مسؤولية الطبيب؟
وبناء على هذا تكون مسؤولية
الطبيب أزاء مريضه مسؤولية
تعاقدية مدنية. ولا تتحقق المسؤولية التقصيرية إلا في حالات استثنائية.
والملاحظ أن الفقه الإسلامي لم يستعمل مصطلح
المسؤولية التقصيرية،
وإنما أدرجها ضمن صور الضمان، وقواعد إزالة الضرر، والأصل أن الإنسان
ملتزم بعدم الإضرار بالغير في
كل الظروف، فإذا فعل ما ينتج عنه الضرر كانت مسؤوليته تقصيرية، وإن كان ضرره عن عمد كان مسؤولية
جنائية. ويجمع الفقه الإسلامي كل ذلك في مصطلح الضمان. والقاعدة الفقهية الشهيرة:
العمد والخطأ في أموال الناس سواء. وكذلك الحال في أبدانهم، وإنما يرتفع الإثم دون
الضمان في حال الخطإ والتقصير.
أما العمد فإنه يتحقق عندما يمارس الطبيب المهنة
دون علم بقواعدها وأصولها، وهو ما أجمع عليه الفقهاء، أن من تطبب دون علم كان ضامنا.
فعن الإمام جعفر الصادق أن
الطبيب «لا يضمن إذا اجتهد
واحتاط، وقبِل المريض، أو وليه ذلك، لقول أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، من تطبب أو تبيطر فليأخذ
البراءة من وليه، وإلا فهو ضامن»(5
وقد حرص الفقهاء على وضع ضوابط لمن يتأهل
لممارسة هذه المهنة الحساسة والخطيرة، لأنها تتعلق بمصير أجساد الناس وأرواحهم.
فحكموا بوجوب الحجر على الطبيب الجاهل لتغريره بالناس وإفساده لأبدانهم.
ولا يكفي لرفع الضمان عنه تأهله
لهذه المهنة، بل عدم خروجه عن
العرف السائد في ممارسة هذا العمل، فإذا عالج مخالفا لقواعد العمل التي تعارفها أهل المهنة كان
متعديا يضمن ما نتج عن تعديه أيضا.
فإذا مارس الطبيب عمله وفق أصول المهنة، وكان
متأهلا لذلك، وحصل له اتفاق مع المريض، أو وليّه الشرعي، كان قد استوفى أركان العقد
وشروط العمل، فلا تقوم عليه المسؤولية في هذه الحال. وليس عليه بعد ذلك ضمان.
أما بالنسبة للقانون فإن جمهور فقهائه يتفقون مع الفقه الإسلامي
في النظر إلى طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض أنه علاقة عقدية، وما يكون منه من
أخطاء يكون تحت طائلة المسؤولية العقدية، إلا في حالات استثنائية تندرج تحت أحكام
المسؤولية التقصيرية.
الإذن للطبيب شرط لرفع الضمان عنه:
يندرج في هذا إذن الحاكم للطبيب بممارسة المهنة، وإذن
المريض له في علاجه.
وقد ذكرنا أن الطبيب إذا كان أهلا للمهنة وبذل الجهد في
ممارسة عمله وفق أصول مهنته، ولم يصدر منه تعدٍّ أو إهمال ينسب إليه كان بريئا من
أية آثار سلبية تنجم عن عمله، لأن القاعدة الشرعية "أن الإذن ينافي الضمان".
يقول الدكتور أحمد شرف الدين: «يذهب الرأي الراجح في الفقه الإسلامي إلى أن
أساس عدم مسؤولية الطبيب أو الجراح هو إذن الشرع وإذن المريض، وينبغي أن يكون عمله
حسبما تقرره أصول المهنة، وأن لا يكون قد أخطأ خطأ فاحشا، وإذا تولّد عن عمل الطبيب
الحاذق تلف نفس أو عضو بعد اجتماع هذه الشروط، فلا ضمان على الطبيب لا في النفس ولا
في العضو، لأن القاعدة الكلية تقول: بأن الجواز الشرعي ينافي الضمان، فإذا فعل الشخص ما يجوز
شرعا فلا يسأل عن الضرر الحادث، وإن كان سببا له، ومثاله أن يقطع الشخص يد السارق،
بناء على أمر الحاكم، فحصلت السراية فلا يضمنها القاطع»(6 ).
يقول الدكتور البار: «ولهذا
فإذا كان الطبيب قد حصل على إذن
الشارع أو ولي الأمر أو من يمثله، كالمحتسب، أو وزارة الصحة، أو نقابة الأطباء، أو المجلس
الطبي، إلخ،، في ممارسة مهنة الطب، أو فرع منها، بعد أن حصل على شهادة معتبرة في
الطب، وبعد تدربه على أيدي الأساتذة في الطب، وحصل أيضا على إذن المريض العاقل
البالغ، أو وليه إذا كان قاصرا أو ناقص الأهلية، وإذا كان العمل مأذونا فيه، ولم
تجنِ يد الطبيب ، وعمل حسب الأصول الطبية المعروفة في بلده وزمنه، ولم يخطئ خطأ لا يقع
فيه مثله، فليس على هذا الطبيب ضمان، ولا لوم ولا تثريب، لأنه قد بذل الجهد
والرعاية، ولم يهمل ولم يقصّر، ولم يخالف أصول المهنة، وحصل على الإذن من جهة الشارع،
ومن جهة المريض»(7 ).
وأورد البار(8 ) رأي ثلة من العلماء الأفاضل
قالوا بمثل هذا القول، منهم الشيخ محمد حسنين مخلوف(9 ). والدكتور وهبة الزحيلي (10 ).
ومن القواعد المقررة في الفقه أن المتولد من فعل مأذون فيه لا يكون
مضمونا، "ولا ضمان على حجام وبزّاغ (الذي يفصد الحيوانات)، لم يجاوز الموضع
المعتاد، بشرط الإذن طبعا(11 ).
تحديد نطاق المسؤولية الطبية
للطبيب:
إن الخطأ الفاحش أو الجسيم من الطبيب يعدّ
عمدًا، وإن لم يقصده. كمن سقى مريضه السم لقصد العلاج فحصل الموت، فهذا عمد، وإن لم
يقصد منه القتل، لأن العرف قاض بأن سقي الإنسان السم من صور قتل العمد، وإن لم يقصده
الطبيب.
ومن المناسب أن نبين أن مسؤولية الطبيب في أخطائه تتحدد بعد موافقة
المريض على المعالجة، فما لم يوافق المريض على العلاج لا يجوز للطبيب أن يمس جسده بغير
رضاه. وإن فعل وحصل منه ضرر غير متوقع حسب القواعد الفنية للعلاج، كان ضامنا رغم عدم
تقصيره، وعدم خطئه، لأن رضا المريض غير حاصل في هذه الحال.
كما لا يجوز للطبيب أن يتقاعس عن العلاج إذا
حصلت موافقة المريض، إلا أن
يشغله ضروري من حالة طارئة أو
سبب قاهر، وإلا كان مقصرّا ويتحمل مسؤوليته أزاء ما قد ينجرّ عن هذا التقاعس
من مضاعفات وأضرار ما كانت لتحدث للمريض لو عجل الطبيب بعلاجه في الوقت المناسب.
وقد تنشأ أضرار يسيرة عن عمل الطبيب لا يمكن التحرز منها حسب
العادة، ولكن الفقهاء عفوا عنها، تشجيعا للأطباء حتى لا تكون هذه حاجزا يمنعهم من ممارسة
المهنة، فيلحق المجتمع أذى كبير، يفوق تلك الأضرار اليسيرة، وهذا ما تقضي به قواعد
الترجيح بين مضرة المريض المحتملة، وبين مضرة المجتمع الشاملة.
وكثيرا ما تكون هذه الأخطاء في أمور
اجتهادية ليس فيه قاعدة أجمع
عليها الأطباء، فيراعي فيها الطبيب الأصلح، ثم لا يتحقق ما توقعه.
وضربوا لذلك مثلا بصبية وقعت فانفتح رأسها،
فقال كثير من الجراحين إن شققتم رأسها ماتت، وقال واحد منهم إن لم
تشقّوه اليوم ماتت، وأنا أشقه وأبريها، فماتت بعد يوم أو يومين، وحين سئل الفقهاء
قالوا: لا يضمن ولو تعهد بذلك، لأنه بذل الجهد واتبع قواعد المهنة، ولم يصدر منه خطأ
فاحش ينافي هذه القواعد(12 ).
وفي الفتاوى الخيرية: «سئل في طبيب غير جاهل،
طلبت منه امرأة مريضة دواء لها، فأعطاها دواء شربته بنفسها في بيتها، فزعم ابنها أنه
ازداد مرضها، فهل لا يلزمه شيء، ولا عبرة بزعمه؟ الجواب: نعم»(13 ).
ولا فرق عند الفقهاء بين أن يكون
الضرر ناتجا عن وصف دواء أو
طريقة في المعالجة أو عملية جراحية يقوم بها الطبيب، ما دام الأساس واحدا والقاعدة واحدة.
وقد ذكر ابن القيم حكم «طبيب حاذق أعطى
الصنعة حقها، ولم تجن يده،
فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة ما يطلبه، تلف العضو أو النفس، أو ذهاب صنعة،
فهذا لا ضمان عليه اتفاقا… فإنها سراية مأذون فيه، وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت
وسنّه قابلة للختان، وأعطى الصنعة حقها، فتلف العضو أو الصبي لم يضمن. وكذلك إذا بطّ
(شقّ) من عاقل ما ينبغي بطّه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن، وهكذا
سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها كسراية الحد بالاتفاق»(14 ).
الهومش
(1 )
– ابن عابدين، رد المحتار على
الدر المختار، ج6، ص70.
(2 ) – السرخسي، المبسوط، ج26،
ص149.
(3 ) – الزيلعي، تبيين
الحقائق، ج5، ص137.
(4 ) – ينظر على سبيل المثال
لهذه الصور، النووي، المجموع شرح المهذب، ج15، ص82. – ابن حجر، الفتاوى الكبرى، ج3،
ص149. – التاج المذهب، ج3، ص107.
(5 ) – محمود جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق،
ج3، ص283.
(6 ) – أحمد شرف الدين، الأحكام الشرعية الطبية، المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، الكويت، 1983، ص41-42.
(7 ) – د. محمد علي البار، ضمان
الطبيب، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة عشرة، ص11.
(8 ) – محمد علي البار،
أخلاقيات الطبيب، مسؤوليته وضمانه، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة،
1414هـ ص 83-90.
(9 ) – مخلوف،
فتاوى شرعية، ص108.
(10 ) – الزحيلي، نظرية الضمان،
ص212.
(11 ) – ابن
عابدين، رد المحتار على الدر
المختار، ج6، ص68. - الأشباه والنظائر للسيوطي، ص11.- الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص305.
(12 ) – انظر: د. عبد السميع
عبد الوهاب أبو الخير، طبيعة المسؤولية المدنية عن ضرر الخطإ الطبي
للطبيب ونطاق ضمانه في الفقه الإسلامي، ضمن أعمال مؤتمر الطب والقانون، الذي
نظمته كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة، في 7-9 محرم 1419هـ
3-5 مايو1998م. ص285، نقلا عن حاشية الطحاوي على الدر المختار، ج4، ص276.
(13 ) – انظر: د. عبد السميع
عبد الوهاب، طبيعة
المسؤولية المدنية عن ضرر الخطإ الطبي للطبيب ونطاق ضمانه في الفقه
الإسلامي، ص285، نقلا عن
الفتاوى الخيرية لنفع خير البرية. حاشية الطحاوي على الدر المختار، ج4، ص276.
(14 ) – ابن القيم، زاد المعاد
في هدي خير العباد، ج4، ص139.
منقول
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب