خصخصة الدعوىالجزائية
وسائلبديلة ومستحدثة لمواجهة أزمة
العدالة الجنائية
تمهيد:
تعاني
المجتمعات من ظاهرتين أولاهما: زيادة عدد الجرائم، وثانيهما: ظاهرة الحفظ بلا
تحقيق أو بالأحرى الحفظ الإداري للواقعة "Calsses Sans Suite"(1)، وهذا ما
حدا بالبعض للقول وبحق بأن العدالة الجنائية المرفق الذي ينصف الآخرين قد
أصبح في حاجة لمن ينصفه(2)، وعليه
طغى إلى سطح المجتمعات ما يُعرف بأزمة العدالة الجنائية "La crise de la Justice pénale"، وبالرغم من الجهود والمحاولات المضنية المبذولة من قبل الحكومات لتخفيف العبء عن
كاهل القضاة عن طريق زيادة أعدادهم، فإن هذه الزيادة لا تتناسب البتة مع الزيادة
المتضاعفة لكم القضايا التي تعرض على المحاكم كل عام(3).
ولا أعتقد أن أي زيادة في عدد
القضاة يمكن أن تواكب هذا الكم الهائل من المشكلات والخلافات(4)، بالإضافة إلى أن توفير العدد اللازم أمر في حكم المستحيل، لأنه يتطلب
أعباء مالية كبيرة لا تتمكن الدولة من توفيرها في ظل ظروفها الاقتصادية الراهنة،
وليت الأمر يتوقف على تذليل الصعوبات الاقتصادية وحدها بل أن الأمر يتطلب أكثر من ذلك
لأن توفير رجل العدالة يتطلب توافر شروط معينة فيمن يسند إليه القيام بتلك المهمة
الجليلة سواءً من الناحية العملية أو القانونية أو الأخلاقية وهذه الأمور ليست
باليسيرة(5).
أولاً- أزمة العدالة الجنائية (الأسباب و النتائج:
إن القضايا في تزايدمستمر
وتأجيل نظرها إلى جلسات متعددة أصبحت السمة الغالبة على عمل الجهاز القضائي،فأصبح
عاجزاً عن القيام بدوره في تحقيق العدالة الجنائية، ولذلك أسبابه نورد منهاظاهرة
التضخم التشريعيinflation pénaleوأزمة العقوبة، وظاهرة الحبس قصيرة المدة،وظهور
نماذج إجرائية متعددة، وفشل السجن في دوره الإصلاحي، وارتفاع تكلفة الجريمة،وسياسة
الإغراق في الشكليات الإجرائية، فقد فعالية أجهزة العدالة الجنائية وكانلتلك
الأزمة نتائجها الخطيرة وعلى مسرح العدالة الجنائية، فكان البطء في الإجراءاتالجنائية
وحفظ الملفات والإخلال بمبدأ المساواة والحد من قدرة الجهاز القضائي علىمواجهة
الجريمة وإدانة الأبرياء.
وأمام هذه المؤشراتالخطيرة
كان على السياسة الجنائية أن تعيد النظر في إستراتيجيتها في مكافحةالإجرام،
وبالفعل بدأت السياسة الجنائية منذ منتصف القرن الماضي تبحث عن وسائل تحققأقصى
فاعلية ممكنة في مكافحة الإجرام، وعليه اتّجهت السياسة الجنائية اتجاهينأحدهما
موضوعي يتمثل في سياسة الحد من التجريمla
décriminalizationوسياسة الحد من العقابla décriminalizationوالآخر
إجرائييتمثل في الوسائل الممكنة في
تيسير إجراءات الدعوى الجزائية أو بدائل الدعوىالجزائية لمواجهة أزمة العدالة
الجنائية، فكانت من أهم آليات مواجهة أزمة العدالةالجنائية هو ما يعرف بخصخصة
الدعوى الجزائية.
ثانياً- المقصود بخصخصة
الدعوى
الجزائية:
لقد ظهرت الوسائل البديلة لحل
المنازعات كنتاج لعدم فعالية الجهاز القضائي التقليدي في حسم القضايا الجنائية، فإذا
كانت ممارسة الدعوى الجزائية تفترض المرور بمراحلها الإجرائية في الاتهام والتحقيق
والمحاكمة فهذه الوسائل البديلة المختلفة فهي تستهدف بالدرجة الأولى اختصار هذه
الإجراءات الشكلية أملاً في زيادة فعالية العدالة الجنائية في إنجاز القضايا(6).
وإن كانت من أهم أهداف الوسائل
البديلة وهو إصلاح الجاني وتعاون كافة قطاعات الدولة في مكافحة الجرائم إلى جانب القطاع
الجنائي لتحقيق هذا الهدف، حيث أن مكافحة الإجرام لم يعُد قاصراً على القطاع
الجنائي وحده(7)، ونقصد
بذلك المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك من أهداف هذه الوسائل البديلة هو البحث
عن أسباب النزاع وبذل الجهود للقضاء على مسبباته في المستقبل مثل نظام الوساطة
الجنائية، وهو ما ذكره الأستاذ زبكوتسكي من كندا في الجلسة الأولى من المؤتمر الدولي
الثالث عشر لقانون العقوبات(. وبالطبع من أهداف هذه البدائل هو تخفيف العبء عن كاهل
أجهزة
العدالة الجنائية.
وختام القول نقصد بتعبير خصخصة الدعوى
الجزائية هو إعطاء دور أكبر لأطراف الدعوى الجزائية من المتهم والمجني عليه
وبمشاركة المجتمع في إنهاء الدعوى الجزائية والسيطرة على مجرياتها لمواجهة الظاهرة
الإجرامية.
ثالثاً- تطور سلطة
الدولة في
العقاب وخصخصة الدعوى الجزائية:
تقوم الدول باقتضاء حقها في العقاب
عن طريق الدعوى الجنائية تطبيقاً لمبدأ لا عقوبة بغير دعوى جنائية(9). وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تظهر اتجاهات
حديثة في
سياسة العقاب وبدأت تضعف قيمة الدعوى الجنائية كأسلوب قانوني لأعمال سلطة
الدولة
في العقاب(10)، بعد أن
لوحظ أن جهود المجتمع لمعالجة المجرمين كانت في أسوأ تقدير غير إنسانية
وفي أحسن حال تعتبر غير فعالة وأنها في الغالب عقيمة وفي جميع الأحوال غير
مشوشة(11). ونتيجة لأزمة العدالة الجنائية
وما
انعكست على حجم القضايا الجنائية، ومن هنا أضحت الأساليب غير القضائية لإدارة
الدعوى
الجنائية ضرورة ملحة لمواجهة البطء في الإجراءات الجنائية التقليدية بهدف
اختصار
تلك الإجراءات(12)، فكان
أحد معالم التطور العلمي الجنائي وهو بدائل الخصومة الجنائية للنظر
في مكافحة الإجرام بغير الإجراءات الجنائية التقليدية(13)، وضرورة
التخلي عنها في نطاق الجرائم القليلة الأهمية واستبدالها بوسائل إجرائية
بسيطة ومرنة (كالوساطة والصلح والتصالح والأمر الجنائي)،
من شأنها
تأمين سرعة حسم الخصومات الجنائية وإدارة النزاع بطريقة سهلة ميسرة
ومختصرة
وتخفيف الضغط عن كاهل إدارة العدالة الجنائية(14)، مما أدى
إلى ظهور ما يطلق عليه "العدالة الرضائية أو التفاوضية" في
المواد الجنائية، وقضى أن المشرع الجنائي قد أجاز التحول عن العدالة القسرية (الدعوى
الجنائية)، أما الأخذ في الاعتبار إرادة المتهم وإرادة المجني عليه عند إدارة العدالة
الجنائية(15). وهذا بالطبع فإن البدائل تضمن سرعة الفصل في الدعوى وهو
يتفق مع
المبدأ الدستوري من ضرورة الفصل في الدعوى في المدة المعقولة المنصوص عليها
في
غالبية الدساتير، بل أن مشكلة بطء الإجراءات الجنائية تعرقل سير العدالة
الجنائية
لكون العدالة البطيئة تعتبر صورة من صور الظلم(16).
رابعاً- إشكال خصخصة
الدعوى
الجزائية:
لقد أدت سياسة تيسير الإجراءات
الجنائية في تبسيط الإجراءات أو اختصارها أو الإسراع بها إلى وضع آلية بدائل الدعوى
الجنائية لمواجهة أزمة العدالة الجنائية، وعليه نقسم أشكال خصخصة الدعوى الجزائية
إلى التالي:
[1] شكوىالمجني عليه والتنازل عنها:
الشكوى هي قيد من قيود مباشرة
الدعوى الجنائية وضعه المشرع في يد المجني عليه يستطيع بمقتضاه تقييد حرية
النيابة العامة بوصفها سلطة اتهام في رفع الدعوى الجنائية، لذلك فهي ذات طبيعة
إجرائية بحتة(17). وعليه فإن الشكوى هو
عمل
قانوني يصدر من المجني عليه بقصد تحريك الدعوى الجنائية في بعض الجرائم التي
يرى
المشرّع فيها إعطاء مصلحة المجني عليه الأولوية و الاعتبار(18). أما التنازل عن الشكوى فهو عمل قانوني يصدر من صاحب الحق في
الشكوى ويترتب عليه انقضاء هذا الحق ولو كانت ميعاد استعماله لا زال ممتداً(19). وقد أخذت العديد من التشريعات بهذا الأسلوب للحيلولة دون تحريك الدعوى
الجنائية إذا لم يقدم المجني عليه الشكوى، حتى يفصح المجال للجاني وأسرته في إرضاء المجني
عليه للحيلولة دون تقديم الشكوى(20). أو أن المجني عليه يرى أن مصلحته في عدم تحريك الدعوى
الجنائية
كما هو الحال في جريمة الزنا علماً بأن المشرّع قد حدد على سبيل الحصر
الجرائم
التي لا يجوز تحريكها إلا بناءً على شكوى من المجني عليه، كما أجاز له أن
يتنازل
عنها قبل صدور حكم باتّ فيها ويترتب عليها انقضاء الدعوى الجنائية(21)، وعلى
ذلك فإن الشكوى والتنازل عنها يعتبران وجهان لعملة واحدة هي بدائل الدعوى الجنائية(22). وهي وسيلة تقليدية من أشكال خصخصة الدعوى الجزائية.
[2] الصلحالجنائي:
إن الصلح الجنائي بين المتهم
والمجني عليه بعيداً عن ساحة القضاء وفي جرائم محددة عينها القانون لغايات الحفاظ
على روابط عائلية أو خاصة لخصوصية العلاقة بين المجني عليه والمتهم أو لارتباط
الجريمة للمجني عليه، فهو الأقدر على حماية ومعرفة مصالحه الخاصة وهي بديلاً عن الدعوى
الجنائية(23). وبذلك نجد المشرع المصري عاد
إلى
الأخذ بنظام الصلح في قانون الإجراءات بل ووسع في نطاقه وذلك بمقتضى القانون
رقم 174
لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية المادة 18 مكرراً (أ) إجراءات جنائية(24)، بل وسع المشرع المصري في تعديل قانون الإجراءات
الجنائية
في عام 2006 من حالات التي تقع عليها الصلح رغبة منه في مواجهة أزمة
العدالة
الجنائية وإعطاء أطراف الدعوى الجنائية المتهم والمجني عليه إنهاء الخصومة
الجنائية
بدون حكم، وبذلك يعد هذا النص تطبيقاً للاتجاهات الحديثة في التشريعات
الجنائية
المعاصرة التي تعطى للمجني عليه دوراً ملحوظاً في إنهاء الدعوى الجنائية
بالنسبة
لبعض الجرائم(25)، وبخاصة
تلك الواقعة على الأفراد والتي توصف بأنها قليلة أو متوسطة الخطورة والتي تقع على المجني عليه
بمناسبة علاقاته الاجتماعية بالمتعاملين معه دون أن يتعارض الصلح في هذه
الأحوال مع مقتضيات الحفاظ على المصلحة العامة(26). وبالنسبة للمشرّع العربي فهو لم يختلف بدوره -في بعض الدول- عن مسايرة هذا الاتجاه فنص على الصلح الجنائي
مثال ذلك قانون أصول المحاكمات الجزائية البحريني الصادر سنة 1966 (م 186) وقانون
الإجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي الصادر سنة 1968 (م 240)، وقانون المرافعات
الجنائية التونسي الصادر سنة 1968(27). وإني أنادي بأن يشمل مشروع قانون العقوبات الفلسطيني النص صراحة على حق
المجني عليه في الصلح مع المتهم في الجرائم ذات الاعتبار الخاص بين الطرفين أو
في الجُنح البسيطة.
[3] الصلحفي الشريعة الإسلامية:
كرست الشريعة الإسلاميةنظام
الصلح بين الأفراد منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، حيث حظي بتسجيل القرآنالكريم
في العديد من آياته الحكيمة على ما يفيد ذلك مثل "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن
بَعْلِهَانُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ
جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَاصُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْوَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً"(28). "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَاقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىفَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُقْسِطِينَ،إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْتُرْحَمُونَ"(29). وهو ما أكدت السيرةالنبوية
حيث روِيَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"الصلح
جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً، أو أحلّ حراماً"... وإن كانتالقاعدة
أن الصلح جائز في جرائم القصاص وجرائم التعزير والتي حق العبد بها غالب وإنكان
الصلح غير جائز في جرائم الحدود وجرائم التعزير والحق الله بها هو الغالب،وبذلك
نجد أن نظام الدية في الشريعة الإسلامية هي بديل عن طلب القصاص شرعاً لكونالدية هي
مقدار معين من المال يدفع في جرائم القتل والجرح عقوبة وتعويضاً حيث تشبهالغرامة
لأنها فيها معنى زجر الجاني بحرمانه من جزء من ماله ومقدرة القيمة وتشبهالتعويض
لأنها تعويض للمجني عليه في حدود معينة ويترتب على أداء الدية انقضاء حقأولياء
الدم في طلب القصاص، أما إذا لم تؤدّ الدية وطلب أولياء الدم بقصاص وجبالحكم
به، وعليه فإن الدية في لغة القانون الوضعي هي بديل عن الدعوى الجنائية فيجرائم
القصاص(30)، والواقع
أن الدية يتحقق فيها المعنيان الزجر والردعللجاني والتعويض والتشفي
لأولياء القتيل.
[4] نظامالوساطة الجنائية:
يقصد بالوساطة الجنائيةla mediation pénaleهو ذلكالإجراء
الذي بموجبه يحاول شخص من الغير بناءً على اتفاق الأطراف وضع حد ونهايةلحالة
الاضطراب التي أحدثتها الجريمة عن طريق حصول المجني عليه على تعويض كافٍ عنالضرر
الذي حدث له فضلاً عن إعادة تأهيل الجاني(31)، وبذلك
يتضح بالفعلأن الوساطة الجنائية أحد صور
خصخصة الدعوى الجزائية، وكذلك يتضح أن جوهر الوساطة هوالرضائية في اتباع هذا النظام
والموافقة على تنفيذ العقوبة بالرضا، وذلك بناءً علىاقتراح النيابة العامة، وبذلك
يتضح دور الرضا في نطاق الوساطةالجنائية(32). ولذلك اتجه رأي الفقه على ضوء ذلك على اعتبار الرضا فيالوساطة
نوعاً من التصالح المدني(33). ولقد صدر العديد من التوصيات عنالمجلس الأوروبي منها: التوصية
الصادرة في عام 1987 والتوصية الصادرة في 15 سبتمبرسنة 1999 بشأن إقرار بدائل
الدعوى الجنائية لمواجهة بعض الجرائم وخاصة الوساطةالجنائية بين المجني عليه
والجناة باعتبار أن هذا الخيار يُعدّ أحد البدائل الهامةللإجراءات الجنائية التقليدية(34). علماً بأن الوساطة الجنائية ترجع فيأصل نشأتها إلى قوانين الدول
الأنجلوسكسونية وخاصة الولايات المتحدة وإنجلتراوكندا(35). علماً بأن الوسيط قد يكون شخصاً طبيعياً أو شخصية معنويةكجمعيات
ضحايا الجريمة أو جمعيات وساطة، ومن الممكن بأن يكون عضو النيابة أو القاضيفي بعض
الأنظمة القانونية بدور الوسيط وإن كانت بعض الأنظمة تحظر ذلك.
وقد انتشرت الوساطة الجنائية
انتشاراً واسعاً في معظم القارة الأوروبية، وهناك العديد من الأساتذة في الدول العربية
نادوا صراحة بتبني هذا النظام الرضائي البديل وخاصة في علاج القضايا العائلية أو
محيط الجيران(36). وإني أرى أن نظام
الوساطة
صالح للتطبيق في المجتمع الفلسطيني عن طريق تبني نظام قانون يسمح بإحالة
بعض
القضايا ذات الطابع العائلي أو في محيط الجيران أو الأسرة إلى لجان إصلاح بشرط
رضا كافة
أطراف الدعوى الجنائية، وفي جرائم خاصة الجنح محددة ذات الطابع المذكور،
وخلال
مدة محددة ويترتب عليها إنهاء الدعوى الجنائية حين تنفيذ بنود الوساطة سواءً
باعتذار
الجاني وإنهاء الاضطراب الجنائي الذي أحدثته الجريمة أو التعويض المادي
للمجني
عليه.
[5] نظام التسوية الجنائيةLa composition
pénale:
استحدث المشرّع الفرنسي نظام
التسوية الجنائية بالقانون رقم 99-515 الصادر في 23 يونيو سنة 1999 بشأن تدعيم
فعالية الإجراءات الجنائية، ثم عدله بالقانون رقم 2004-204 الصادر في 9 مارس سنة 2004(37). ويمثل بديلاً جديداً من بدائل الدعوى الجنائية، إذ يتيح لنائب
الجمهورية أن يقترح على الشخص الطبيعي البالغ الذي يعترف بارتكابه واحدة أو أكثر
من الجنح المعاقَب عليها كعقوبة أصلية بعقوبة الغرامة أو بعقوبة الحبس الذي لا تزيد
مدته على خمس سنوات وكذلك عند الاقتضاء واحدة أو أكثر من المخالفات المرتبطة بهذه
الجُنح، وتتكون التسوية من تدابير أو أكثر من التدابير الآتية:
1-دفع غرامة التسوية للخزانةالعامة،
ولا يجوز أن يزيد مقدار هذه الغرامة على الحد الأقصى للغرامة المقررةقانوناً
للجريمة. ويتم تحديدها تبعاً لجسامة الجريمة ودخول الجاني والتزاماته. ويجوز أن تسدد الغرامة على
أقساط يحددها نائب الجمهورية خلال مدة لا تجاوزسنة.
2-التنازل لمصلحة الدولة عنالأشياء
التي استخدمت أو كانت مُعدّة للاستخدام في ارتكاب الجريمة أو المتحصلةمنها.
3-تسليم السيارة لمدة أقصاهاستة أشهر
بغرض توقيفها.
4-تسليم رخصة القيادة إلى قلمكتاب
المحكمة الابتدائية، وذلك لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
5-تسليم رخصة الصيد إلى قلمكتاب
المحكمة الابتدائية لمدة لا تجاوز ستة أشهر.
6-القيام لمصلحة المجتمع بعملبدون أجر
لمدة لا تزيد على ستين ساعة، خلال مدة لا تجاوز ستة أشهر.
7-متابعة تدريب أو تأهيل فيمؤسسة أو
مركز صحي أو اجتماعي أو مهني لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، وذلك خلال فترةلا تجاوز
ثمانية عشر شهراً.
8-المنع من إصدار شيكات غير تلكالتي
تسمح للساحب باسترداد ماله لدى المسحوب عليه أو الشيكات المعتمدة وحظر استعمالبطاقات
الوفاء، وذلك لمدة ستة أشهر على الأقل.
9-عدم الظهور في المكان أوالأماكن
التي وقعت فيها الجريمة والتي يحددها نائب الجمهورية، لمدة لا تزيد على ستةأشهر،
وذلك باستثناء الأماكن التي يقيم فيها الشخص عادة.
10-حظر مقابلة أو استقبال المجنيعليه أو
المجني عليهم في الجريمة الذين يحددهم نائب الجمهورية أو الدخول في علاقاتمعهم،
وذلك لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
11-حظر مقابلة أو استقبال الفاعلأو
الفاعلين الآخرين أو الشركاء الذين يحددهم نائب الجمهورية أو الدخول في علاقاتمعهم،
لمدة لا تجاوز ستة أشهر.
12-عدم مغادرة الإقليم الوطنيوتسليم
جواز السفر لمدة لا تجاوز سنة أشهر.
13-القيام عدن اللزوم بمتابعةتدريب
للمواطنة، وذلك على نفقته (أي على نفقة المتهم.
ويستطيع نائب الجمهورية ما دامت
الدعوى الجنائية لم تتحرك أن يقترح مباشرة أو عن طريق شخص مخول بذلك التسوية
الجنائية، ويسمو مفوض نائب الجمهورية علماً بأن التسوية الجنائية لا تطبق عن الأحداث
أقل من ثمانية عشر سنة، ولا على جرائم الصحافة، ولا جرائم القتل الخطأ، ولا على
الجرائم السياسية وإذا لم يقبل المتهم التسوية الجنائية أو لم يقم بالتنفيذ الكامل
للتدابير المقررة بعد الموافقة، فلنائب الجمهورية أن يحرك الدعوى مع الأخذ في
الاعتبار ما تم تنفيذه من قبل الجاني. مع وضع في الاعتبار إذا كان المجني عليه معروفاً
فيجب أن يتضمن اقتراح نائب الجمهورية بالتسوية الجنائية على الجاني قيام هذا
الأخير بتعويض الضرر الذي أصاب المجني عليه بسبب الجريمة خلال مدة لا تزيد على
ستة أشهر.
ومؤدى ذلك أن هذا التدبير له صفة
وجوبية ما لم يثبت الجاني أنه قد سبق وقام بهذا التعويض فعلاً(38)، وبذلك
يتضح بالفعل معنى خصخصة الدعوى الجزائية وهو تحكم أطرافها بمصيرها، وهذا ويتدرب
على اعتماد اقتراح التسوية الجنائية على القاضي المختص وقيام الجاني بتنفيذ
كافة التدابير المقررة انقضاء الدعوى الجنائية(39). وبالطبع عند عدم قبول التسوية أو عدم تنفيذ التدابير
المقترح
يحق لنائب الجمهورية تحريك الدعوى الجنائية.
خامساً- تقييم الوسائل
البديلة
الخاصة بخصخصة الدعوى الجزائية:
لقد اتضح من خلال دراسة التشريعات
المقارنة وخاصة الأوروبية مدى إدراجها لكافة الوسائل البديلة للدعوى الجزائية، وخاصة
في ظل طغيان أزمة العدالة الجنائية، فكان اللجوء إليها لتخفيف الضغط على المحاكم
في الكم الهائل المفترض للفصل بها، فكانت الوساطة الجنائية والصلح والتسوية
الجنائية من البدائل التي اتخذتها الدول المختلفة في إطار سياستها الجنائية المعاصرة
وخاصة أن ركيزتها الرضا أطراف الدعوى الجزائية على وسيلة إنهائها، وبذلك يتحقق بفعل
خصخصة للدعوى الجنائية بعدما أن كانت ملكاً للدولة لا يجوز التنازل عنها أو التفاوض
بخصوصها ومن المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها، بل لقد أدخلت هذه البدائل مؤسسات
مدنية خارج إطار المؤسسة القضائية وإن كانت شعبية لمشاركة القضاء في مواجهة أزمته
مثل مؤسسات الوساطة وبذلك يتحقق مشاركة المجتمع في مواجهة الجريمة ويتحقق تعاون
كافة قطاعات الدولة لمواجهة الجريمة، وبذلك يتحقق بالفعل خصخصة للدعوى الجزائية.
وسائلبديلة ومستحدثة لمواجهة أزمة
العدالة الجنائية
تمهيد:
تعاني
المجتمعات من ظاهرتين أولاهما: زيادة عدد الجرائم، وثانيهما: ظاهرة الحفظ بلا
تحقيق أو بالأحرى الحفظ الإداري للواقعة "Calsses Sans Suite"(1)، وهذا ما
حدا بالبعض للقول وبحق بأن العدالة الجنائية المرفق الذي ينصف الآخرين قد
أصبح في حاجة لمن ينصفه(2)، وعليه
طغى إلى سطح المجتمعات ما يُعرف بأزمة العدالة الجنائية "La crise de la Justice pénale"، وبالرغم من الجهود والمحاولات المضنية المبذولة من قبل الحكومات لتخفيف العبء عن
كاهل القضاة عن طريق زيادة أعدادهم، فإن هذه الزيادة لا تتناسب البتة مع الزيادة
المتضاعفة لكم القضايا التي تعرض على المحاكم كل عام(3).
ولا أعتقد أن أي زيادة في عدد
القضاة يمكن أن تواكب هذا الكم الهائل من المشكلات والخلافات(4)، بالإضافة إلى أن توفير العدد اللازم أمر في حكم المستحيل، لأنه يتطلب
أعباء مالية كبيرة لا تتمكن الدولة من توفيرها في ظل ظروفها الاقتصادية الراهنة،
وليت الأمر يتوقف على تذليل الصعوبات الاقتصادية وحدها بل أن الأمر يتطلب أكثر من ذلك
لأن توفير رجل العدالة يتطلب توافر شروط معينة فيمن يسند إليه القيام بتلك المهمة
الجليلة سواءً من الناحية العملية أو القانونية أو الأخلاقية وهذه الأمور ليست
باليسيرة(5).
أولاً- أزمة العدالة الجنائية (الأسباب و النتائج:
إن القضايا في تزايدمستمر
وتأجيل نظرها إلى جلسات متعددة أصبحت السمة الغالبة على عمل الجهاز القضائي،فأصبح
عاجزاً عن القيام بدوره في تحقيق العدالة الجنائية، ولذلك أسبابه نورد منهاظاهرة
التضخم التشريعيinflation pénaleوأزمة العقوبة، وظاهرة الحبس قصيرة المدة،وظهور
نماذج إجرائية متعددة، وفشل السجن في دوره الإصلاحي، وارتفاع تكلفة الجريمة،وسياسة
الإغراق في الشكليات الإجرائية، فقد فعالية أجهزة العدالة الجنائية وكانلتلك
الأزمة نتائجها الخطيرة وعلى مسرح العدالة الجنائية، فكان البطء في الإجراءاتالجنائية
وحفظ الملفات والإخلال بمبدأ المساواة والحد من قدرة الجهاز القضائي علىمواجهة
الجريمة وإدانة الأبرياء.
وأمام هذه المؤشراتالخطيرة
كان على السياسة الجنائية أن تعيد النظر في إستراتيجيتها في مكافحةالإجرام،
وبالفعل بدأت السياسة الجنائية منذ منتصف القرن الماضي تبحث عن وسائل تحققأقصى
فاعلية ممكنة في مكافحة الإجرام، وعليه اتّجهت السياسة الجنائية اتجاهينأحدهما
موضوعي يتمثل في سياسة الحد من التجريمla
décriminalizationوسياسة الحد من العقابla décriminalizationوالآخر
إجرائييتمثل في الوسائل الممكنة في
تيسير إجراءات الدعوى الجزائية أو بدائل الدعوىالجزائية لمواجهة أزمة العدالة
الجنائية، فكانت من أهم آليات مواجهة أزمة العدالةالجنائية هو ما يعرف بخصخصة
الدعوى الجزائية.
ثانياً- المقصود بخصخصة
الدعوى
الجزائية:
لقد ظهرت الوسائل البديلة لحل
المنازعات كنتاج لعدم فعالية الجهاز القضائي التقليدي في حسم القضايا الجنائية، فإذا
كانت ممارسة الدعوى الجزائية تفترض المرور بمراحلها الإجرائية في الاتهام والتحقيق
والمحاكمة فهذه الوسائل البديلة المختلفة فهي تستهدف بالدرجة الأولى اختصار هذه
الإجراءات الشكلية أملاً في زيادة فعالية العدالة الجنائية في إنجاز القضايا(6).
وإن كانت من أهم أهداف الوسائل
البديلة وهو إصلاح الجاني وتعاون كافة قطاعات الدولة في مكافحة الجرائم إلى جانب القطاع
الجنائي لتحقيق هذا الهدف، حيث أن مكافحة الإجرام لم يعُد قاصراً على القطاع
الجنائي وحده(7)، ونقصد
بذلك المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك من أهداف هذه الوسائل البديلة هو البحث
عن أسباب النزاع وبذل الجهود للقضاء على مسبباته في المستقبل مثل نظام الوساطة
الجنائية، وهو ما ذكره الأستاذ زبكوتسكي من كندا في الجلسة الأولى من المؤتمر الدولي
الثالث عشر لقانون العقوبات(. وبالطبع من أهداف هذه البدائل هو تخفيف العبء عن كاهل
أجهزة
العدالة الجنائية.
وختام القول نقصد بتعبير خصخصة الدعوى
الجزائية هو إعطاء دور أكبر لأطراف الدعوى الجزائية من المتهم والمجني عليه
وبمشاركة المجتمع في إنهاء الدعوى الجزائية والسيطرة على مجرياتها لمواجهة الظاهرة
الإجرامية.
ثالثاً- تطور سلطة
الدولة في
العقاب وخصخصة الدعوى الجزائية:
تقوم الدول باقتضاء حقها في العقاب
عن طريق الدعوى الجنائية تطبيقاً لمبدأ لا عقوبة بغير دعوى جنائية(9). وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تظهر اتجاهات
حديثة في
سياسة العقاب وبدأت تضعف قيمة الدعوى الجنائية كأسلوب قانوني لأعمال سلطة
الدولة
في العقاب(10)، بعد أن
لوحظ أن جهود المجتمع لمعالجة المجرمين كانت في أسوأ تقدير غير إنسانية
وفي أحسن حال تعتبر غير فعالة وأنها في الغالب عقيمة وفي جميع الأحوال غير
مشوشة(11). ونتيجة لأزمة العدالة الجنائية
وما
انعكست على حجم القضايا الجنائية، ومن هنا أضحت الأساليب غير القضائية لإدارة
الدعوى
الجنائية ضرورة ملحة لمواجهة البطء في الإجراءات الجنائية التقليدية بهدف
اختصار
تلك الإجراءات(12)، فكان
أحد معالم التطور العلمي الجنائي وهو بدائل الخصومة الجنائية للنظر
في مكافحة الإجرام بغير الإجراءات الجنائية التقليدية(13)، وضرورة
التخلي عنها في نطاق الجرائم القليلة الأهمية واستبدالها بوسائل إجرائية
بسيطة ومرنة (كالوساطة والصلح والتصالح والأمر الجنائي)،
من شأنها
تأمين سرعة حسم الخصومات الجنائية وإدارة النزاع بطريقة سهلة ميسرة
ومختصرة
وتخفيف الضغط عن كاهل إدارة العدالة الجنائية(14)، مما أدى
إلى ظهور ما يطلق عليه "العدالة الرضائية أو التفاوضية" في
المواد الجنائية، وقضى أن المشرع الجنائي قد أجاز التحول عن العدالة القسرية (الدعوى
الجنائية)، أما الأخذ في الاعتبار إرادة المتهم وإرادة المجني عليه عند إدارة العدالة
الجنائية(15). وهذا بالطبع فإن البدائل تضمن سرعة الفصل في الدعوى وهو
يتفق مع
المبدأ الدستوري من ضرورة الفصل في الدعوى في المدة المعقولة المنصوص عليها
في
غالبية الدساتير، بل أن مشكلة بطء الإجراءات الجنائية تعرقل سير العدالة
الجنائية
لكون العدالة البطيئة تعتبر صورة من صور الظلم(16).
رابعاً- إشكال خصخصة
الدعوى
الجزائية:
لقد أدت سياسة تيسير الإجراءات
الجنائية في تبسيط الإجراءات أو اختصارها أو الإسراع بها إلى وضع آلية بدائل الدعوى
الجنائية لمواجهة أزمة العدالة الجنائية، وعليه نقسم أشكال خصخصة الدعوى الجزائية
إلى التالي:
[1] شكوىالمجني عليه والتنازل عنها:
الشكوى هي قيد من قيود مباشرة
الدعوى الجنائية وضعه المشرع في يد المجني عليه يستطيع بمقتضاه تقييد حرية
النيابة العامة بوصفها سلطة اتهام في رفع الدعوى الجنائية، لذلك فهي ذات طبيعة
إجرائية بحتة(17). وعليه فإن الشكوى هو
عمل
قانوني يصدر من المجني عليه بقصد تحريك الدعوى الجنائية في بعض الجرائم التي
يرى
المشرّع فيها إعطاء مصلحة المجني عليه الأولوية و الاعتبار(18). أما التنازل عن الشكوى فهو عمل قانوني يصدر من صاحب الحق في
الشكوى ويترتب عليه انقضاء هذا الحق ولو كانت ميعاد استعماله لا زال ممتداً(19). وقد أخذت العديد من التشريعات بهذا الأسلوب للحيلولة دون تحريك الدعوى
الجنائية إذا لم يقدم المجني عليه الشكوى، حتى يفصح المجال للجاني وأسرته في إرضاء المجني
عليه للحيلولة دون تقديم الشكوى(20). أو أن المجني عليه يرى أن مصلحته في عدم تحريك الدعوى
الجنائية
كما هو الحال في جريمة الزنا علماً بأن المشرّع قد حدد على سبيل الحصر
الجرائم
التي لا يجوز تحريكها إلا بناءً على شكوى من المجني عليه، كما أجاز له أن
يتنازل
عنها قبل صدور حكم باتّ فيها ويترتب عليها انقضاء الدعوى الجنائية(21)، وعلى
ذلك فإن الشكوى والتنازل عنها يعتبران وجهان لعملة واحدة هي بدائل الدعوى الجنائية(22). وهي وسيلة تقليدية من أشكال خصخصة الدعوى الجزائية.
[2] الصلحالجنائي:
إن الصلح الجنائي بين المتهم
والمجني عليه بعيداً عن ساحة القضاء وفي جرائم محددة عينها القانون لغايات الحفاظ
على روابط عائلية أو خاصة لخصوصية العلاقة بين المجني عليه والمتهم أو لارتباط
الجريمة للمجني عليه، فهو الأقدر على حماية ومعرفة مصالحه الخاصة وهي بديلاً عن الدعوى
الجنائية(23). وبذلك نجد المشرع المصري عاد
إلى
الأخذ بنظام الصلح في قانون الإجراءات بل ووسع في نطاقه وذلك بمقتضى القانون
رقم 174
لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية المادة 18 مكرراً (أ) إجراءات جنائية(24)، بل وسع المشرع المصري في تعديل قانون الإجراءات
الجنائية
في عام 2006 من حالات التي تقع عليها الصلح رغبة منه في مواجهة أزمة
العدالة
الجنائية وإعطاء أطراف الدعوى الجنائية المتهم والمجني عليه إنهاء الخصومة
الجنائية
بدون حكم، وبذلك يعد هذا النص تطبيقاً للاتجاهات الحديثة في التشريعات
الجنائية
المعاصرة التي تعطى للمجني عليه دوراً ملحوظاً في إنهاء الدعوى الجنائية
بالنسبة
لبعض الجرائم(25)، وبخاصة
تلك الواقعة على الأفراد والتي توصف بأنها قليلة أو متوسطة الخطورة والتي تقع على المجني عليه
بمناسبة علاقاته الاجتماعية بالمتعاملين معه دون أن يتعارض الصلح في هذه
الأحوال مع مقتضيات الحفاظ على المصلحة العامة(26). وبالنسبة للمشرّع العربي فهو لم يختلف بدوره -في بعض الدول- عن مسايرة هذا الاتجاه فنص على الصلح الجنائي
مثال ذلك قانون أصول المحاكمات الجزائية البحريني الصادر سنة 1966 (م 186) وقانون
الإجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي الصادر سنة 1968 (م 240)، وقانون المرافعات
الجنائية التونسي الصادر سنة 1968(27). وإني أنادي بأن يشمل مشروع قانون العقوبات الفلسطيني النص صراحة على حق
المجني عليه في الصلح مع المتهم في الجرائم ذات الاعتبار الخاص بين الطرفين أو
في الجُنح البسيطة.
[3] الصلحفي الشريعة الإسلامية:
كرست الشريعة الإسلاميةنظام
الصلح بين الأفراد منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، حيث حظي بتسجيل القرآنالكريم
في العديد من آياته الحكيمة على ما يفيد ذلك مثل "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن
بَعْلِهَانُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ
جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَاصُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْوَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً"(28). "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَاقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىفَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُقْسِطِينَ،إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْتُرْحَمُونَ"(29). وهو ما أكدت السيرةالنبوية
حيث روِيَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"الصلح
جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً، أو أحلّ حراماً"... وإن كانتالقاعدة
أن الصلح جائز في جرائم القصاص وجرائم التعزير والتي حق العبد بها غالب وإنكان
الصلح غير جائز في جرائم الحدود وجرائم التعزير والحق الله بها هو الغالب،وبذلك
نجد أن نظام الدية في الشريعة الإسلامية هي بديل عن طلب القصاص شرعاً لكونالدية هي
مقدار معين من المال يدفع في جرائم القتل والجرح عقوبة وتعويضاً حيث تشبهالغرامة
لأنها فيها معنى زجر الجاني بحرمانه من جزء من ماله ومقدرة القيمة وتشبهالتعويض
لأنها تعويض للمجني عليه في حدود معينة ويترتب على أداء الدية انقضاء حقأولياء
الدم في طلب القصاص، أما إذا لم تؤدّ الدية وطلب أولياء الدم بقصاص وجبالحكم
به، وعليه فإن الدية في لغة القانون الوضعي هي بديل عن الدعوى الجنائية فيجرائم
القصاص(30)، والواقع
أن الدية يتحقق فيها المعنيان الزجر والردعللجاني والتعويض والتشفي
لأولياء القتيل.
[4] نظامالوساطة الجنائية:
يقصد بالوساطة الجنائيةla mediation pénaleهو ذلكالإجراء
الذي بموجبه يحاول شخص من الغير بناءً على اتفاق الأطراف وضع حد ونهايةلحالة
الاضطراب التي أحدثتها الجريمة عن طريق حصول المجني عليه على تعويض كافٍ عنالضرر
الذي حدث له فضلاً عن إعادة تأهيل الجاني(31)، وبذلك
يتضح بالفعلأن الوساطة الجنائية أحد صور
خصخصة الدعوى الجزائية، وكذلك يتضح أن جوهر الوساطة هوالرضائية في اتباع هذا النظام
والموافقة على تنفيذ العقوبة بالرضا، وذلك بناءً علىاقتراح النيابة العامة، وبذلك
يتضح دور الرضا في نطاق الوساطةالجنائية(32). ولذلك اتجه رأي الفقه على ضوء ذلك على اعتبار الرضا فيالوساطة
نوعاً من التصالح المدني(33). ولقد صدر العديد من التوصيات عنالمجلس الأوروبي منها: التوصية
الصادرة في عام 1987 والتوصية الصادرة في 15 سبتمبرسنة 1999 بشأن إقرار بدائل
الدعوى الجنائية لمواجهة بعض الجرائم وخاصة الوساطةالجنائية بين المجني عليه
والجناة باعتبار أن هذا الخيار يُعدّ أحد البدائل الهامةللإجراءات الجنائية التقليدية(34). علماً بأن الوساطة الجنائية ترجع فيأصل نشأتها إلى قوانين الدول
الأنجلوسكسونية وخاصة الولايات المتحدة وإنجلتراوكندا(35). علماً بأن الوسيط قد يكون شخصاً طبيعياً أو شخصية معنويةكجمعيات
ضحايا الجريمة أو جمعيات وساطة، ومن الممكن بأن يكون عضو النيابة أو القاضيفي بعض
الأنظمة القانونية بدور الوسيط وإن كانت بعض الأنظمة تحظر ذلك.
وقد انتشرت الوساطة الجنائية
انتشاراً واسعاً في معظم القارة الأوروبية، وهناك العديد من الأساتذة في الدول العربية
نادوا صراحة بتبني هذا النظام الرضائي البديل وخاصة في علاج القضايا العائلية أو
محيط الجيران(36). وإني أرى أن نظام
الوساطة
صالح للتطبيق في المجتمع الفلسطيني عن طريق تبني نظام قانون يسمح بإحالة
بعض
القضايا ذات الطابع العائلي أو في محيط الجيران أو الأسرة إلى لجان إصلاح بشرط
رضا كافة
أطراف الدعوى الجنائية، وفي جرائم خاصة الجنح محددة ذات الطابع المذكور،
وخلال
مدة محددة ويترتب عليها إنهاء الدعوى الجنائية حين تنفيذ بنود الوساطة سواءً
باعتذار
الجاني وإنهاء الاضطراب الجنائي الذي أحدثته الجريمة أو التعويض المادي
للمجني
عليه.
[5] نظام التسوية الجنائيةLa composition
pénale:
استحدث المشرّع الفرنسي نظام
التسوية الجنائية بالقانون رقم 99-515 الصادر في 23 يونيو سنة 1999 بشأن تدعيم
فعالية الإجراءات الجنائية، ثم عدله بالقانون رقم 2004-204 الصادر في 9 مارس سنة 2004(37). ويمثل بديلاً جديداً من بدائل الدعوى الجنائية، إذ يتيح لنائب
الجمهورية أن يقترح على الشخص الطبيعي البالغ الذي يعترف بارتكابه واحدة أو أكثر
من الجنح المعاقَب عليها كعقوبة أصلية بعقوبة الغرامة أو بعقوبة الحبس الذي لا تزيد
مدته على خمس سنوات وكذلك عند الاقتضاء واحدة أو أكثر من المخالفات المرتبطة بهذه
الجُنح، وتتكون التسوية من تدابير أو أكثر من التدابير الآتية:
1-دفع غرامة التسوية للخزانةالعامة،
ولا يجوز أن يزيد مقدار هذه الغرامة على الحد الأقصى للغرامة المقررةقانوناً
للجريمة. ويتم تحديدها تبعاً لجسامة الجريمة ودخول الجاني والتزاماته. ويجوز أن تسدد الغرامة على
أقساط يحددها نائب الجمهورية خلال مدة لا تجاوزسنة.
2-التنازل لمصلحة الدولة عنالأشياء
التي استخدمت أو كانت مُعدّة للاستخدام في ارتكاب الجريمة أو المتحصلةمنها.
3-تسليم السيارة لمدة أقصاهاستة أشهر
بغرض توقيفها.
4-تسليم رخصة القيادة إلى قلمكتاب
المحكمة الابتدائية، وذلك لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
5-تسليم رخصة الصيد إلى قلمكتاب
المحكمة الابتدائية لمدة لا تجاوز ستة أشهر.
6-القيام لمصلحة المجتمع بعملبدون أجر
لمدة لا تزيد على ستين ساعة، خلال مدة لا تجاوز ستة أشهر.
7-متابعة تدريب أو تأهيل فيمؤسسة أو
مركز صحي أو اجتماعي أو مهني لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، وذلك خلال فترةلا تجاوز
ثمانية عشر شهراً.
8-المنع من إصدار شيكات غير تلكالتي
تسمح للساحب باسترداد ماله لدى المسحوب عليه أو الشيكات المعتمدة وحظر استعمالبطاقات
الوفاء، وذلك لمدة ستة أشهر على الأقل.
9-عدم الظهور في المكان أوالأماكن
التي وقعت فيها الجريمة والتي يحددها نائب الجمهورية، لمدة لا تزيد على ستةأشهر،
وذلك باستثناء الأماكن التي يقيم فيها الشخص عادة.
10-حظر مقابلة أو استقبال المجنيعليه أو
المجني عليهم في الجريمة الذين يحددهم نائب الجمهورية أو الدخول في علاقاتمعهم،
وذلك لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
11-حظر مقابلة أو استقبال الفاعلأو
الفاعلين الآخرين أو الشركاء الذين يحددهم نائب الجمهورية أو الدخول في علاقاتمعهم،
لمدة لا تجاوز ستة أشهر.
12-عدم مغادرة الإقليم الوطنيوتسليم
جواز السفر لمدة لا تجاوز سنة أشهر.
13-القيام عدن اللزوم بمتابعةتدريب
للمواطنة، وذلك على نفقته (أي على نفقة المتهم.
ويستطيع نائب الجمهورية ما دامت
الدعوى الجنائية لم تتحرك أن يقترح مباشرة أو عن طريق شخص مخول بذلك التسوية
الجنائية، ويسمو مفوض نائب الجمهورية علماً بأن التسوية الجنائية لا تطبق عن الأحداث
أقل من ثمانية عشر سنة، ولا على جرائم الصحافة، ولا جرائم القتل الخطأ، ولا على
الجرائم السياسية وإذا لم يقبل المتهم التسوية الجنائية أو لم يقم بالتنفيذ الكامل
للتدابير المقررة بعد الموافقة، فلنائب الجمهورية أن يحرك الدعوى مع الأخذ في
الاعتبار ما تم تنفيذه من قبل الجاني. مع وضع في الاعتبار إذا كان المجني عليه معروفاً
فيجب أن يتضمن اقتراح نائب الجمهورية بالتسوية الجنائية على الجاني قيام هذا
الأخير بتعويض الضرر الذي أصاب المجني عليه بسبب الجريمة خلال مدة لا تزيد على
ستة أشهر.
ومؤدى ذلك أن هذا التدبير له صفة
وجوبية ما لم يثبت الجاني أنه قد سبق وقام بهذا التعويض فعلاً(38)، وبذلك
يتضح بالفعل معنى خصخصة الدعوى الجزائية وهو تحكم أطرافها بمصيرها، وهذا ويتدرب
على اعتماد اقتراح التسوية الجنائية على القاضي المختص وقيام الجاني بتنفيذ
كافة التدابير المقررة انقضاء الدعوى الجنائية(39). وبالطبع عند عدم قبول التسوية أو عدم تنفيذ التدابير
المقترح
يحق لنائب الجمهورية تحريك الدعوى الجنائية.
خامساً- تقييم الوسائل
البديلة
الخاصة بخصخصة الدعوى الجزائية:
لقد اتضح من خلال دراسة التشريعات
المقارنة وخاصة الأوروبية مدى إدراجها لكافة الوسائل البديلة للدعوى الجزائية، وخاصة
في ظل طغيان أزمة العدالة الجنائية، فكان اللجوء إليها لتخفيف الضغط على المحاكم
في الكم الهائل المفترض للفصل بها، فكانت الوساطة الجنائية والصلح والتسوية
الجنائية من البدائل التي اتخذتها الدول المختلفة في إطار سياستها الجنائية المعاصرة
وخاصة أن ركيزتها الرضا أطراف الدعوى الجزائية على وسيلة إنهائها، وبذلك يتحقق بفعل
خصخصة للدعوى الجنائية بعدما أن كانت ملكاً للدولة لا يجوز التنازل عنها أو التفاوض
بخصوصها ومن المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها، بل لقد أدخلت هذه البدائل مؤسسات
مدنية خارج إطار المؤسسة القضائية وإن كانت شعبية لمشاركة القضاء في مواجهة أزمته
مثل مؤسسات الوساطة وبذلك يتحقق مشاركة المجتمع في مواجهة الجريمة ويتحقق تعاون
كافة قطاعات الدولة لمواجهة الجريمة، وبذلك يتحقق بالفعل خصخصة للدعوى الجزائية.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب