المسلمون وضرورة الوعي التاريخي
عبدالقادر عبار
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
هذه الخواطر التي تأخذ شكل المقالات التي كنت نشرتها في بعض الصحف والمجلات. وقد عزمت على لمَ شتاتها وتجميعها في هذا الكتيب قصد تعميم الفائدة منقراءتها وتدبرها رغم تواضعها.
وإذا كانت مواضيعها مختلفة وعناوينها متنوعة.. إلا أنها تلتقي حول محورواحد ׃ وهو محور الوعي التاريخي.
وهو محور يحتاج في الحقيقة إلى تخصصات عالية وكفاءات ممتازة لمعالجتهمعالجة دقيقة وشاملة وإيفائه حقه في التحليل والطرح... إلا أن ذلك لا يعني عدمالمشاركة في الكتابة فيه وإثارته من طرف الآخرين ممن هم اقل كفاءة وتجربة وتخصصا..ما دامت تشغلهم هموم المسلمين التاريخية والحضارية وغيرها... وتهمهم قضايا الترشيدالثقافي وتنمية الوعي الحضاري لدى شباب المسلمين حتى يستعيدوا دورهم الخلافيوالقيادي في تعمير الأرض وإقامة البديل الإسلامي المشرق׃ حيث العدل والأمن والحرية.
عبدالقادر عبار
بين الجزم والتميّع
1) الإسلام محجوب بالمسلمين
ما اقبح أن توضع صورة متقنة بديعة براقة في إطار بخس عتيق لا يلائمها البتةفهو بقدر ما يزهد العين في النظر إليها وتأملها يصد النفس عن تذوقها وتلمس ملامح الحسن فيها ويحجبها عن أي تقييم صحيح .ومن هذا المنطلق ندرك مدى عمق تلك المقالة الجامعة التي أعلنها الشيخ الداعية محمدعبده في قولته الحكيمة "الإسلام محجوب بالمسلمين" بعد تجربته الطويلة فيأغوار النفس والمجتمع الإسلامي.
الإسلام بتعاليمه السمحاء وتشريعاته القويمة يمثل الصورة الكاملة البديعةوالمثالية للأديان السماوية غير أن الإطار الذي وجد فيه خلال السنين والقرونالأخيرة هو إطار فاسد متآكل لا يلائم حسنه وإشراقه ׃ إذ المسلمون الذين انتسبوا إليه ومثلوه في تلك السنين العجاف ببدعهمالمظلمة وتجاوزاتهم المجحفة وأعمالهم المخالفة وجهلهم وكسلهم وتميعهم.. قد حجبواالإسلام وغطوا حقيقته بما اقترفوا من بدع العبادات وفساد العادات الشيء الذي مهد-وللأسف- للأعداء على اختلافهم فرص التجريح والنقد والهدم والاتهامات القاسية لهذاالدين الحنيف الذي رأوا فيه- من خلال ما شاهدوا لا من خلال ما علموا وتحققوا- سببالتخلف والجهل والمرض والوسخ.
وفي هذا الصدد يقول المرحوم محمد فريد وجدي في بيان هذا الموقف الذي يقفهالغرب منا ومن ديننا ׃ " يجب أن نغفر للأوروبيين تصديقهم لكل الافتراءاتضد الإسلام والمسلمين.. فهم- أي الأوربيون- على حق إذا اظهروا العداء تجاه دينناطالما كانوا لا يجدون أمامهم إلا البدع التي حذقها أناس تافهوا العقول وقبلهاالجمهور وزاد فيها أشكالا أخرى من الخطأ ومخالفة الطبيعة البشرية وقوانينالحضارة.. وكيف نأمل أن يفهم الأوروبيون لب ديننا -الدين الوحيد الذي يحمل السعادةالحقة- طالما كانوا لا يعلمون إلا ملامح خارجية معينة للإسلام يشاهدونها كل يوممثل الاجتماعات الصاخبة في الشوارع سائرة خلف الأعلام والطبول ( يشير بهذا إلىمواكب الصوفية -الحضرة- التي تزحف في الشوارع بأعلامها وطبولها تملا الآفاق صياحابما يسمونه ذكر الله)... والحفلات الممجوجة المخالفة لكل وعي والتي تقام في عدد منالمدن الإسلامية يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم... والاجتماعات في حلقاتواسعة أمام الآلاف من الناس والتراتيل الصوفية التي تؤدى بصوت قوي مصحوبة بالتمايليمينا وشمالا ونحو ذلك..." (1)
أ) قرآن يتحرك
وخلافا لذلك كان السلف الطيبون الصالحون الترجمان الصادق الناصع للإسلاموالإطار الملائم البديع للدعوة فقد كانت تعاليم الدين السمحاء وتشريعاته النقيةترى في كل صغير وكبير فيهم׃ كانوا بحق واللهإسلاما يمشي في الطريق وقرآنا يتحرك في الأسواق لم يضيفوا إليه ما يخدش حسنه أويجفف إشعاعه أو يحجب في كثير أو قليل عن العالمين كماله وبهاءه.
والحقيقة المرة أن المشاهد لحال المسلمين الآن وفي فترة التخلف والدارسلحقيقة الإسلام وأحوال المسلمين الأوائل يقع في حيرة ويأسف للتناقض الحاصل ׃ " فالتاريخ يقول لهم عن الإسلام شيئا ويرسم في آبائهم الأولين صورةمشرقة لآثار الإسلام فيهم وواقع الحال يقول لهم عن الإسلام شيئا آخر مختلفا اشدالاختلاف عما يقوله التاريخ ويريهم في أنفسهم صورة تختلف تماما عن الصورة التييقال أن آباءهم الأولين كانوا عليها..." (2)
فالمطلوب من المسلمين الآن إذا كان بهم عزم صادق حقيقي في إظهار حقيقةالإسلام ناصعة للعيان ومؤثرة حقا وحتى يتجنبوا المزالق والاتهامات والتجريح الذييكيله أعداء الإسلام لهذا الدين.. المطلوب منهم أن يكونوا ترجمانا عمليا ناصعالتعاليم الإسلام القيم في سلوكياتهم وأعمالهم في سرهم وجهرهم وفي الباطن والظاهر.
ب) شهادة لهذا الدين
يقول المفسر سيد قطب في تفسير آية آل عمران (( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعناالرسول فاكتبنا مع الشاهدين)) يقول ׃ إن المسلم المؤمنبدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاءوتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسهومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيهامثلا رائعا رفيعا يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمةوأوضاع وتشكيلات وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياتهونظام مجتمعه وشريعة نفسه وقومه فيقوم مجتمع من حوله تدبر أموره وفق هذا المنهجالإلهي القويم..." (3).
وهذا- بحق- ما فهمه اتباع الأنبياء والصديقون والمخلصون وهذا ما حققه الذيناسلموا وجههم لله -حقيقة- وشهد لهم به التاريخ (( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجاتعند ربهم ومغفرة ورزق كريم))
2) لماذا شاخ المسلمون ؟
* متى افترش العنكبوت الغربي ديار المسلمين حتى التقم خيراتهم وكنز ذهبهموفضتهم واستحم بعرق عمالهم؟
* متى فقد المسلمون مقعد "الشهادة" على العالم وزج بهم في ذيلالقافلة الحضارية في نومة عميقة لم يستفيقوا منها حتى كادت خفاف الغرب- رأسماليةوشيوعية وصهيونية- أن تطأهم وطأ لا حراك بعده لولا أن الله تعالى يقيض لهذه الأمةعلى راس كل مائة عام من يجدد لها دينها ويبعث الوعي في اتباعها...؟
هذان السؤالان يطرحهما واقع الوضع المتردي الذي ركن إليه المسلمون في فتراتالانحطاط الذي احتواهم .. وواضح أن الجواب على هذين السؤالين يتبلور جليا في إرجاعذلك إلى تلك الفترة الحالكة التي اعترت المسلمين من غياب الجد وفتور روح الجزم والحسم في تنفيذ تعاليم الدين على مستوىالفرد والجماعة... ونبذهم لمقومات الذاتية الإسلامية وتركهم لأخلاقية الاستخلافالتي كرم الله تعالى بها بني آدم من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. مع تكاسلهم عنتحقيق فريضة الجهاد وخورهم عن المجابهة الحركية للظلم بمختلف أنواعه...
هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى متشابكة ساهمت بقسطها المخزي في سقوط المسلمينوإضعافهم في شتى المجالات.
أ) شيخوخة المسلمين
ضعف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر في الدعوة والعقيدة والعقليةوالعلم والجهاد... وبدا عليه الإعياء والشيخوخة. والإسلام لا يعرف الشيخوخةوالهرم...انه جديد كالشمس ولكن المسلمينهم الذين شاخوا وهرموا وضعفوا فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير ولا إبداعفي الإنتاج ولا حماسة في الدعوة ولا عرضا جميلا ومؤثرا للإسلام ومزاياه ورسالته..ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير على عقليته وهوامه الغد وجيله المرتجى.. وفي هذهالحال هجمت أوروبا بفلسفتها" التمييعية" التي تعب في تدوينها كبارالفلاسفة.. وهكذا انتشر الإلحاد والارتداد في الأوساط الإسلامية ثم تطور الأمروعظم الخطب وشملت المجتمعات الإسلامية على طولها ضبابية حالكة- عقليا وفكرياوعقائديا- حتى فترت في المسلمين جدية الالتزام بحقائق هذا الدين وكسفت شمسالمحاسبة الواعية أفقيا وعموديا.
ب) عادات.... لا عبادات
فالشعائر التعبدية لا تحس لها تأثيرا ولا حياة في الوجدان والسلوك لأنهاأصبحت تؤدى وكأنها عادات لا عبادات.. حتى لكإنما أصبحت الصلوات ترفيها رياضيالتنشيط العضلات الرخوة... أو مسلكا صحيا ( ريجيم) لتخفيف ثقل الوزن طلبا للرشاقة..فتؤدى بالجسد لا بالروح.. لا خشوع فيها ولا لذيذ مناجاة وهزل اليقين في النفوسوغاب الإخلاص والصدق وتذبذبت العقيدة قي القلوب.. وهذا له خطره.. وفي هذا المضماريقول أحد المفسرين " إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدةالخالصة عن قلوب الناس.. فما يمكن أن يقوم وقد استقر اعتقاد الناس فعلا أن الحكملله وحده لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده. والخضوع للحكم عبادة بل هي أصلا مدلولالعبادة ."
وأما في مجال الاخوة والروابط الاجتماعية... فقد أصبحت الاخوة تحية عابرةباللسان و إشارة فاترة باليد.. قد بعدت عن مدلولها الصحيح الهادف كتلك التي مثلهاالصحابة رضوان الله تعالى عليهم ׃ قسمة وإيثارا فيالأهل والمال والدماء.
وأما المساجد عندنا فقد أمست هياكل معمارية باهرة نتباهى زخرفتها ونغفل عنالدور الأساسي الذي من اجله جعلت.
ويتعرض أحد العلماء مبينا ومفسرا سنة من سنن التغيير التي تصيب الأمم وهيفي أوج حضارتها ورقيها والمفضية إلى انحلالها وتميعها فيقول " في هذه المرحلةالحاسمة- أي مرحلة القناعة بالمحصول والوقوف عند ذلك الحد المحرز عليه من المعرفة-تتخلى هذه الجماعة عن مكانها في القيادة ..إن لم يكن بالرضا والاختيار فبالقوةوالجبر لتحل مكانها جماعة أخرى أحرزت قدرا كبيرا من المعرفة وحظا أوفر من العلمويلازمها عزم وتصميم على بناء الحياة... أما هؤلاء الذين كانوا قادة فيصبحوناتباعا وبعد أن تقدموا القافلة .. يحتلون مكانهم الرمزي من ذيلها..".
ج) التطرف الصوفي
وتمثله في أنكى وجه "الطرقية" الغالية׃
فقد اقبل العامة- بقيادة المتصوفين- على الطقوس والأوراد... واقبل الحكامومن كان في ركابهم وحواشيهم على الشهوات والملذات ... وهذا الخلط الصوفي الأحمقيعتبر أول صدع أصاب التفكير الإسلامي في صميمه بل أول صدع أصاب كيان الأمةالإسلامية فيما بعد بالانهيار... فالأفكار الصوفية إذن لا مبادئ الإسلام هي التي حَملت الجماهير أوزار الاستعمار الداخلي والخارجي ووطدت للمظالم الخطيرةوخذلت الناس... حتى تركوا الجهاد وركنوا إلى الكسل والميوعة لا يعرفون معروفا ولاينكرون منكرا.. الأمر الذي اطمع في استغلالهم الأعداء وزين للظالمين استعبادهم.
3) حين يتخلى المسلمون عن الجد....
إن إرسال أمة من الرسل الأخيار .. من سيدنا نوح إلى خاتم الأنبياءوالمرسلين وتحمل الأتعاب التي تنوء دون حملها شم الجبال وتلك الابتلاءات ثم ذلكالجهاد وأخطاره والهجرة وأعباؤها كل ذلك إنما هو برهان ساطع على جدية هذا الدينوجزم هذه العقيدة حيث يلخص ذلك في انسق عبارة المفسر الشهيد سيد قطب رحمة اللهتعالى عليه قائلا " إن هذا الدين جد لا يقبل الهزل وجزم لا يقبل التميع وحقفي كل نص فيه وفي كل كلمة. فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فماأغنى هذا الدين عنه والله غني عن العالمين"
لقد كانت يقظة المسلمين الصادقين الأوائل في حين جدهم ووعيهم بأماناتالدعوة والرسالة تمثل قمعا صارما وتحديا جازما لتحركات المغرضين والمتربصين وسدامنيعا أمام مطامع ودسائس المناوئين والكائدين.
فحركة الردة السامة لولا جدية الخليفة والصدّيق الراشد وحسمهالواعي في وقفها وقطعها من جذورها لكانت بمثابة جرثومة الموت للدعوة الإسلامية فيشبابها كما أن جدية الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز في رد أمور الخلافة وشؤونالدولة إلى إطارها الصحيح قد قطعت خبث روح الملك العضوض الذي مد عنقه في ذلكالحين.
أ) في غيبة الجد
بيد انه ما إن تفترروح الجد لدى المسلمين ويغيب عنهم العزم الصادق في إقامة أمور الدين ... حتى تنقضعليهم جيوش المتربصين وتتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها وهذا مامهد للحركات الهدامة أن تبرز وتنشط وتمتد هنا وهناك في ديار المسلمين.
فمع بداية القرن ظهرتحركات عدائية ماكرة تستهدف تشويه الساحة العقائدية لامة الإسلام من ماسونيةوقاديانية وبهائية وكلها ترضع من الصهيونية القذرة وتقف مع بعضهاالبعض في تشويه وإلغاء- مثلا- فكرة الجهاد من تصور المسلمين مع خلق بلبلات ونعراتمفتعلة لتشتيت وحدة المسلمين خدمة وتوطينا للاستعمار الغربي ومساعدته على تدميروتخريب ديار المسلمين.
" هذا الاستعمار الذي استهدف في العصر الأخير أن يضرب الإسلام ضربةتقض مجامعه وتقض مضاجعه وتبعثر أمته بعثرة نفسية وفكرية لا نهاية لها واخترع منفنون الغزو الثقافي ما يملأ به الفراغ الروحي والعقلي الذي اصطنعه في كل ميدانومهد له في كل مكان..."
ب) حقائق عن بعض هذه الحركات
فمن حقائق البهائية يقول الشيخ العالم محمد الغزالي " عبد البها يمجدالصهيونية والصليبية ويزعم انه مسلم... وقد التحمت البهائية أخيرا بالهجوم اليهوديووجدت من المال الأمريكي ما يعينها على التمدد والبعث بل إن اغلب خصوم الإسلاموالعرب يعينونها على اختطاف الشباب التائه ومسخ عقله وخلقه وماذا عليهم ؟ إن ذلكفي نظرهم جبهة تفتح ضد الإسلام ويمكن أن تنال منه."
وأما في القاديانية الفاسدة فانظر ماذا يقول القدياني صاحبها׃ " لقد خطوت اكبر مرحلة من حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاععنها والفت كتبا كثيرة احرم فيها الجهاد ضدها. لو جمع كل ما كتبته في هذا الصددلبلغ خمسين كتابا ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم... ووجب على كل مسلمومسلمة تقديم الشكر إلى هذه الحكومة وحرام على كل مؤمن مقاتلتها بنيةالجهاد".
وأما عن المآسي التي لحقت المسلمين في فترات الخمول وغياب الجد والعزم منسموم الماسونية العالمية فهذا بند من بنودها الدنيئة التي نفذتها وترى في مجتمعاتنابعض آثارها المؤسفة فانظر ما توصي به جنودها ׃" على الماسونيين أن ينفذوا في صفوف الجماعات الدينية وغيرها ...لا بلعليهم إن احتاج الأمر أن يقوموا بتأسيسها على أن لا تشم منها أي رائحة حقيقيةللدين.. وعليكم أن تولوا أمورها السذج من الرجال ولتطمعوا- خفية- ذوي القلوبالكبيرة من الرجال بقطرات من سمومكم بغية التفرقة بين الفرد وأسرته... عليكم أنتنزعوا الأخلاق من أسسها لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب منالأمور المحرمة لأنها تؤثر الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة...ولتنفذوا بهم إلى ملاذ الحياة البهيمية".
إن هذا الاعتراف المخزي من الماسونيين لكاف للتدليل على مدى ما بلغت إليهروح المكر والهدم والحقد عندهم إزاء الجماعات الدينية بل إزاء الإنسانية قاطبة.
ج) وبعد...
إننا لم نورد هذه الحقائق إلا لنبرهن على أن جميع المآسي التي نخرت في كيانالأمة الإسلامية الشاهدة ... إنما حدثت كلها في فترات غاب فيها جد المسلمين وضعففيها عزمهم وتركوا فيها جهادهم.
فتسلح "الذين آمنوا" بعنوان الدعوة المحمدية -الذي هو الجدوالجزم والحق- وتحقيقه تحقيقا كاملا في سلوكياتهم وأعمالهم يمثل الغيظ المنغص لأهلالباطل وأصحاب القلوب المريضة... تماما كما تحقق ذلك في سلفهم الصالح واعترف لهمبه عدوهم. جاء ذلك على لسان أحد الملوك في قوله ׃ " كيف لي بقوم لو اقسموا على أن يزيلوا جبلا من مكانه لأزالوه "( أو كما جاء في رواية أخرى " لا طاقة لي بقوم إذا أرادوا خلع الجباللخلعوها").
4) المسجد.... ليس مكانا لطقطقة المسابيح
المسجد فيالإسلام ليس مجرد مكان للكوع ولسجود وطقطقة المسابيح. فذلك ما خطط له الاستعماروأقنعنا به نحن في هذا العصر.
إنما المسجد هوأيضا مركب جامعي ومكان لمناقشة مشاغل الناس ومشاكلهم الحياتية والأخروية.
ونظرة منصفةإلى التاريخ تؤكد ذلك.
إن أول عمل بادر بإنجازه الرسول صلى الله عليه وسلم بطيبة- المدينةالمنورة- هو وضعه لحجر الأساس لأول مسجد جامع بها والمشاركة في بنائه وتجهيزه.
ولا يخفى على الدارس الحصيف أن الرسول إنما أراد بعمله هذا أن يربط العبادبخالقهم من هذا المكان بعد أن غرس فيهم بذور التوحيد وزين لهم الإيمان وحببه إليهموشوقهم إلى الطاعات والعبادات. فكان هذا المسجد النبوي البكر بمثابة المكان"اللقيا" الذي يتجمع فيه المسلمون.
وكانت تبرم داخله عناوين الفتوحات وتسوى فيه أمور الدولة وتفصل فيه قضاياومشاغل الأمة.
ولم يأخذ قط تلك الصبغة الإدارية الجافة التي تردى فيها في عصرنا الحاضروالمتمثلة في فتحه وغلقه في أوقات معينة ومحدودة بعد أن كان- في أيام عزه- مفتوحاعلى مصراعيه آناء الليل وأطراف النهار لا يمنع من دخوله مسلم أيا كان وكيف يغلقوهو منزل عابر السبيل وكلية التعليم ومنتدى التثقيف ومجلس القضاء وخلوة الذكروالتسبيح ؟؟
أ) المسجد ׃ مركب جامعي
كان جامع "المنصور ببغداد" وهو اقدم جامع بها اشهر مركز للتعليمفي المملكة الإسلامية وقد أحصى المقدسي في تاريخه ( ص 205) في المسجد الجامعبالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرة من مجالس العلم أي بمصطلحاتنا المعاصرة نقول 110كلية هذا بدون أن ننسى "الأزهر" و"الزيتونة"و"عقبة"...
غير أن هذا لم يدم طويلا للأسف " فقد كان تغير طريقة التعليم سببا فيإيجاد نوع جديد من المؤسسات العلمية ذلك انه لما انتشرت طريقة التدريس نشأتالمدارس ولعل من اكبر الأسباب في ذلك أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بمايتبعه من مناظرة وجدل قد يخرج بأصحابها أحيانا عن الآداب التي تجب مراعاتهاللمسجد.
فالقرن الرابع هجري كما يقول " آدم متز" في كتابه عن الحضارةالإسلامية ( ص336) هو الذي اظهر هذه المعاهد الجديدة التي بقيت إلى يومنا هذا.
ب) المسجد ׃ دار قضاء
يذكر صاحب الأغاني ( ج10 ص 123 ) أن القاضي كان في أول الأمر يجلس في مكانلا يمنع أحد من المسلمين من الدخول إليه وهو المسجد الجامع حيث كان يجلس إلىاسطوانة من أساطين المسجد.
غير أن المعتضد ( سنة 279 هجري) أمر أن لا يقعد القضاة في المسجد بحجة أنجلوس القاضي في المسجد يتنافى مع ما يجب لبيوت الله من الحرمة.
أما في عصرنا الحاضر فلم يبق للمسجد من الخصوصيات والميزات التي كان يتمتعبها قديما والتي ذكرنا بعضها آنفا ... في حاضر أيامه إلا انه "مصلى"يفتح خمس مرات في اليوم يلتقي عندها أعداد محدودة لأداء الصلاة.
ولاعجب في ذلك إذا علمنا أن الاستعمار لما خطط لإسقاط الأمة الإسلامية كانهمه الأساسي يستهدف تشويه رسالة المسلم في هذه الحياة وإضعاف دوره فيها واثباطفاعليته في التمدن والتحضر وعرف انه لن ينجح في ذلك إلا بتحقيق شرطين اثنين ׃
1- تمييع علاقة المسلم بكتابه- القرآن- وصرفه عن الأخذ بآدابه والتحليبأخلاقياته والعمل بأحكامه والتناصح بأوامره. وهذا الشرط الماكر لا يؤتي أكله إلابتحقيق الثاني ׃
2- تقزيم دور المسجد في الحياة الاجتماعية وتهميشه وحصر دوره في مجالالركوع والسجود وطقطقة المسابيح... ومن ثم تولى- الاستعمار- إيجاد وبناء مؤسساتبديلة للتثقيف واللهو وخنق الفراغ حتى يستولي على اهتمام المواطن المسلم ويزهده فيارتياد المسجد.
والحقيقة المرة أن هذه البدائل المائعة قد ضيعت على المواطن المسلم كثيرامن فرص الاستفادة الحقة والتلقي النافع والتربية القويمة وهو ما ابطل فيه روح الإبداع الواسع.
ونظرة منصفة إلى الواقع تبين بوضوح مدى جدوى وسلبية وسائل ومضامين هذهالبدائل التي استحوذت باهتمامات الشباب وتبين أيضا مدى الانحطاط الخلقي والفسادالتربوي الذي حصل عندما تخلى المسجد عن دوره كمدرسة وكموجه.
ولأنهم يدركون- بالتجربة- مدى خطر دور المسجد في تحصين الفرد المسلم نرىالأعداء (أعداء الأمة الإسلامية) على اختلافهم يخططون بكل طرقهم ووسائلهم لتقليصدور المسجد ولو اقتضى الأمر هدمه أو تشويهه. واليك بعض الشواهد׃
1- في روسيا الشيوعية لم يبق من جملة 30 ألف مسجد إلا 30 منها.
2- مجمع الأحبار الإسرائيلي شكل لجنة من ثلاثة أعضاء متخصصين في التلمودلإصدار فتوى حول جواز ممارسة الطقوس الدينية اليهودية من فوق جبل المعبد الذييطلقه اليهود على منطقة المسجد الأقصى... وتجمع التقارير على أن الهدف الواضح منوراء ذلك هو هدم المسجد الأقصى ومسجد إبراهيم برخصة تلمودية ( مجلة الأمة- عدد 26-ص 88) لأنهم أيقنوا أن الفدائي الذي ينطلق من ثكنة المسجد لا ينهزم ولا تقف أمامهقوة ما.
الهوامش׃
(1) فقرة لمحمدفريد وجدي- نقلا عن كتاب "مسلمون وكفى"- لعبد الكريم الخطيب- ص 15/16
(2)"مسلمون وكفى" -ص 38
(3)"الظلال "- سيد قطب- المجلد الأول- ص 401 /402.
(4) "الإسلام المفترى عليه"- محمد الغزالي
(5) ردة-للندوي
(6) منهج جديدفي التربية والتعليم- المودودي
عبدالقادر عبار
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
هذه الخواطر التي تأخذ شكل المقالات التي كنت نشرتها في بعض الصحف والمجلات. وقد عزمت على لمَ شتاتها وتجميعها في هذا الكتيب قصد تعميم الفائدة منقراءتها وتدبرها رغم تواضعها.
وإذا كانت مواضيعها مختلفة وعناوينها متنوعة.. إلا أنها تلتقي حول محورواحد ׃ وهو محور الوعي التاريخي.
وهو محور يحتاج في الحقيقة إلى تخصصات عالية وكفاءات ممتازة لمعالجتهمعالجة دقيقة وشاملة وإيفائه حقه في التحليل والطرح... إلا أن ذلك لا يعني عدمالمشاركة في الكتابة فيه وإثارته من طرف الآخرين ممن هم اقل كفاءة وتجربة وتخصصا..ما دامت تشغلهم هموم المسلمين التاريخية والحضارية وغيرها... وتهمهم قضايا الترشيدالثقافي وتنمية الوعي الحضاري لدى شباب المسلمين حتى يستعيدوا دورهم الخلافيوالقيادي في تعمير الأرض وإقامة البديل الإسلامي المشرق׃ حيث العدل والأمن والحرية.
عبدالقادر عبار
بين الجزم والتميّع
1) الإسلام محجوب بالمسلمين
ما اقبح أن توضع صورة متقنة بديعة براقة في إطار بخس عتيق لا يلائمها البتةفهو بقدر ما يزهد العين في النظر إليها وتأملها يصد النفس عن تذوقها وتلمس ملامح الحسن فيها ويحجبها عن أي تقييم صحيح .ومن هذا المنطلق ندرك مدى عمق تلك المقالة الجامعة التي أعلنها الشيخ الداعية محمدعبده في قولته الحكيمة "الإسلام محجوب بالمسلمين" بعد تجربته الطويلة فيأغوار النفس والمجتمع الإسلامي.
الإسلام بتعاليمه السمحاء وتشريعاته القويمة يمثل الصورة الكاملة البديعةوالمثالية للأديان السماوية غير أن الإطار الذي وجد فيه خلال السنين والقرونالأخيرة هو إطار فاسد متآكل لا يلائم حسنه وإشراقه ׃ إذ المسلمون الذين انتسبوا إليه ومثلوه في تلك السنين العجاف ببدعهمالمظلمة وتجاوزاتهم المجحفة وأعمالهم المخالفة وجهلهم وكسلهم وتميعهم.. قد حجبواالإسلام وغطوا حقيقته بما اقترفوا من بدع العبادات وفساد العادات الشيء الذي مهد-وللأسف- للأعداء على اختلافهم فرص التجريح والنقد والهدم والاتهامات القاسية لهذاالدين الحنيف الذي رأوا فيه- من خلال ما شاهدوا لا من خلال ما علموا وتحققوا- سببالتخلف والجهل والمرض والوسخ.
وفي هذا الصدد يقول المرحوم محمد فريد وجدي في بيان هذا الموقف الذي يقفهالغرب منا ومن ديننا ׃ " يجب أن نغفر للأوروبيين تصديقهم لكل الافتراءاتضد الإسلام والمسلمين.. فهم- أي الأوربيون- على حق إذا اظهروا العداء تجاه دينناطالما كانوا لا يجدون أمامهم إلا البدع التي حذقها أناس تافهوا العقول وقبلهاالجمهور وزاد فيها أشكالا أخرى من الخطأ ومخالفة الطبيعة البشرية وقوانينالحضارة.. وكيف نأمل أن يفهم الأوروبيون لب ديننا -الدين الوحيد الذي يحمل السعادةالحقة- طالما كانوا لا يعلمون إلا ملامح خارجية معينة للإسلام يشاهدونها كل يوممثل الاجتماعات الصاخبة في الشوارع سائرة خلف الأعلام والطبول ( يشير بهذا إلىمواكب الصوفية -الحضرة- التي تزحف في الشوارع بأعلامها وطبولها تملا الآفاق صياحابما يسمونه ذكر الله)... والحفلات الممجوجة المخالفة لكل وعي والتي تقام في عدد منالمدن الإسلامية يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم... والاجتماعات في حلقاتواسعة أمام الآلاف من الناس والتراتيل الصوفية التي تؤدى بصوت قوي مصحوبة بالتمايليمينا وشمالا ونحو ذلك..." (1)
أ) قرآن يتحرك
وخلافا لذلك كان السلف الطيبون الصالحون الترجمان الصادق الناصع للإسلاموالإطار الملائم البديع للدعوة فقد كانت تعاليم الدين السمحاء وتشريعاته النقيةترى في كل صغير وكبير فيهم׃ كانوا بحق واللهإسلاما يمشي في الطريق وقرآنا يتحرك في الأسواق لم يضيفوا إليه ما يخدش حسنه أويجفف إشعاعه أو يحجب في كثير أو قليل عن العالمين كماله وبهاءه.
والحقيقة المرة أن المشاهد لحال المسلمين الآن وفي فترة التخلف والدارسلحقيقة الإسلام وأحوال المسلمين الأوائل يقع في حيرة ويأسف للتناقض الحاصل ׃ " فالتاريخ يقول لهم عن الإسلام شيئا ويرسم في آبائهم الأولين صورةمشرقة لآثار الإسلام فيهم وواقع الحال يقول لهم عن الإسلام شيئا آخر مختلفا اشدالاختلاف عما يقوله التاريخ ويريهم في أنفسهم صورة تختلف تماما عن الصورة التييقال أن آباءهم الأولين كانوا عليها..." (2)
فالمطلوب من المسلمين الآن إذا كان بهم عزم صادق حقيقي في إظهار حقيقةالإسلام ناصعة للعيان ومؤثرة حقا وحتى يتجنبوا المزالق والاتهامات والتجريح الذييكيله أعداء الإسلام لهذا الدين.. المطلوب منهم أن يكونوا ترجمانا عمليا ناصعالتعاليم الإسلام القيم في سلوكياتهم وأعمالهم في سرهم وجهرهم وفي الباطن والظاهر.
ب) شهادة لهذا الدين
يقول المفسر سيد قطب في تفسير آية آل عمران (( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعناالرسول فاكتبنا مع الشاهدين)) يقول ׃ إن المسلم المؤمنبدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاءوتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسهومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيهامثلا رائعا رفيعا يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمةوأوضاع وتشكيلات وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياتهونظام مجتمعه وشريعة نفسه وقومه فيقوم مجتمع من حوله تدبر أموره وفق هذا المنهجالإلهي القويم..." (3).
وهذا- بحق- ما فهمه اتباع الأنبياء والصديقون والمخلصون وهذا ما حققه الذيناسلموا وجههم لله -حقيقة- وشهد لهم به التاريخ (( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجاتعند ربهم ومغفرة ورزق كريم))
2) لماذا شاخ المسلمون ؟
* متى افترش العنكبوت الغربي ديار المسلمين حتى التقم خيراتهم وكنز ذهبهموفضتهم واستحم بعرق عمالهم؟
* متى فقد المسلمون مقعد "الشهادة" على العالم وزج بهم في ذيلالقافلة الحضارية في نومة عميقة لم يستفيقوا منها حتى كادت خفاف الغرب- رأسماليةوشيوعية وصهيونية- أن تطأهم وطأ لا حراك بعده لولا أن الله تعالى يقيض لهذه الأمةعلى راس كل مائة عام من يجدد لها دينها ويبعث الوعي في اتباعها...؟
هذان السؤالان يطرحهما واقع الوضع المتردي الذي ركن إليه المسلمون في فتراتالانحطاط الذي احتواهم .. وواضح أن الجواب على هذين السؤالين يتبلور جليا في إرجاعذلك إلى تلك الفترة الحالكة التي اعترت المسلمين من غياب الجد وفتور روح الجزم والحسم في تنفيذ تعاليم الدين على مستوىالفرد والجماعة... ونبذهم لمقومات الذاتية الإسلامية وتركهم لأخلاقية الاستخلافالتي كرم الله تعالى بها بني آدم من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. مع تكاسلهم عنتحقيق فريضة الجهاد وخورهم عن المجابهة الحركية للظلم بمختلف أنواعه...
هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى متشابكة ساهمت بقسطها المخزي في سقوط المسلمينوإضعافهم في شتى المجالات.
أ) شيخوخة المسلمين
ضعف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر في الدعوة والعقيدة والعقليةوالعلم والجهاد... وبدا عليه الإعياء والشيخوخة. والإسلام لا يعرف الشيخوخةوالهرم...انه جديد كالشمس ولكن المسلمينهم الذين شاخوا وهرموا وضعفوا فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير ولا إبداعفي الإنتاج ولا حماسة في الدعوة ولا عرضا جميلا ومؤثرا للإسلام ومزاياه ورسالته..ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير على عقليته وهوامه الغد وجيله المرتجى.. وفي هذهالحال هجمت أوروبا بفلسفتها" التمييعية" التي تعب في تدوينها كبارالفلاسفة.. وهكذا انتشر الإلحاد والارتداد في الأوساط الإسلامية ثم تطور الأمروعظم الخطب وشملت المجتمعات الإسلامية على طولها ضبابية حالكة- عقليا وفكرياوعقائديا- حتى فترت في المسلمين جدية الالتزام بحقائق هذا الدين وكسفت شمسالمحاسبة الواعية أفقيا وعموديا.
ب) عادات.... لا عبادات
فالشعائر التعبدية لا تحس لها تأثيرا ولا حياة في الوجدان والسلوك لأنهاأصبحت تؤدى وكأنها عادات لا عبادات.. حتى لكإنما أصبحت الصلوات ترفيها رياضيالتنشيط العضلات الرخوة... أو مسلكا صحيا ( ريجيم) لتخفيف ثقل الوزن طلبا للرشاقة..فتؤدى بالجسد لا بالروح.. لا خشوع فيها ولا لذيذ مناجاة وهزل اليقين في النفوسوغاب الإخلاص والصدق وتذبذبت العقيدة قي القلوب.. وهذا له خطره.. وفي هذا المضماريقول أحد المفسرين " إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدةالخالصة عن قلوب الناس.. فما يمكن أن يقوم وقد استقر اعتقاد الناس فعلا أن الحكملله وحده لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده. والخضوع للحكم عبادة بل هي أصلا مدلولالعبادة ."
وأما في مجال الاخوة والروابط الاجتماعية... فقد أصبحت الاخوة تحية عابرةباللسان و إشارة فاترة باليد.. قد بعدت عن مدلولها الصحيح الهادف كتلك التي مثلهاالصحابة رضوان الله تعالى عليهم ׃ قسمة وإيثارا فيالأهل والمال والدماء.
وأما المساجد عندنا فقد أمست هياكل معمارية باهرة نتباهى زخرفتها ونغفل عنالدور الأساسي الذي من اجله جعلت.
ويتعرض أحد العلماء مبينا ومفسرا سنة من سنن التغيير التي تصيب الأمم وهيفي أوج حضارتها ورقيها والمفضية إلى انحلالها وتميعها فيقول " في هذه المرحلةالحاسمة- أي مرحلة القناعة بالمحصول والوقوف عند ذلك الحد المحرز عليه من المعرفة-تتخلى هذه الجماعة عن مكانها في القيادة ..إن لم يكن بالرضا والاختيار فبالقوةوالجبر لتحل مكانها جماعة أخرى أحرزت قدرا كبيرا من المعرفة وحظا أوفر من العلمويلازمها عزم وتصميم على بناء الحياة... أما هؤلاء الذين كانوا قادة فيصبحوناتباعا وبعد أن تقدموا القافلة .. يحتلون مكانهم الرمزي من ذيلها..".
ج) التطرف الصوفي
وتمثله في أنكى وجه "الطرقية" الغالية׃
فقد اقبل العامة- بقيادة المتصوفين- على الطقوس والأوراد... واقبل الحكامومن كان في ركابهم وحواشيهم على الشهوات والملذات ... وهذا الخلط الصوفي الأحمقيعتبر أول صدع أصاب التفكير الإسلامي في صميمه بل أول صدع أصاب كيان الأمةالإسلامية فيما بعد بالانهيار... فالأفكار الصوفية إذن لا مبادئ الإسلام هي التي حَملت الجماهير أوزار الاستعمار الداخلي والخارجي ووطدت للمظالم الخطيرةوخذلت الناس... حتى تركوا الجهاد وركنوا إلى الكسل والميوعة لا يعرفون معروفا ولاينكرون منكرا.. الأمر الذي اطمع في استغلالهم الأعداء وزين للظالمين استعبادهم.
3) حين يتخلى المسلمون عن الجد....
إن إرسال أمة من الرسل الأخيار .. من سيدنا نوح إلى خاتم الأنبياءوالمرسلين وتحمل الأتعاب التي تنوء دون حملها شم الجبال وتلك الابتلاءات ثم ذلكالجهاد وأخطاره والهجرة وأعباؤها كل ذلك إنما هو برهان ساطع على جدية هذا الدينوجزم هذه العقيدة حيث يلخص ذلك في انسق عبارة المفسر الشهيد سيد قطب رحمة اللهتعالى عليه قائلا " إن هذا الدين جد لا يقبل الهزل وجزم لا يقبل التميع وحقفي كل نص فيه وفي كل كلمة. فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فماأغنى هذا الدين عنه والله غني عن العالمين"
لقد كانت يقظة المسلمين الصادقين الأوائل في حين جدهم ووعيهم بأماناتالدعوة والرسالة تمثل قمعا صارما وتحديا جازما لتحركات المغرضين والمتربصين وسدامنيعا أمام مطامع ودسائس المناوئين والكائدين.
فحركة الردة السامة لولا جدية الخليفة والصدّيق الراشد وحسمهالواعي في وقفها وقطعها من جذورها لكانت بمثابة جرثومة الموت للدعوة الإسلامية فيشبابها كما أن جدية الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز في رد أمور الخلافة وشؤونالدولة إلى إطارها الصحيح قد قطعت خبث روح الملك العضوض الذي مد عنقه في ذلكالحين.
أ) في غيبة الجد
بيد انه ما إن تفترروح الجد لدى المسلمين ويغيب عنهم العزم الصادق في إقامة أمور الدين ... حتى تنقضعليهم جيوش المتربصين وتتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها وهذا مامهد للحركات الهدامة أن تبرز وتنشط وتمتد هنا وهناك في ديار المسلمين.
فمع بداية القرن ظهرتحركات عدائية ماكرة تستهدف تشويه الساحة العقائدية لامة الإسلام من ماسونيةوقاديانية وبهائية وكلها ترضع من الصهيونية القذرة وتقف مع بعضهاالبعض في تشويه وإلغاء- مثلا- فكرة الجهاد من تصور المسلمين مع خلق بلبلات ونعراتمفتعلة لتشتيت وحدة المسلمين خدمة وتوطينا للاستعمار الغربي ومساعدته على تدميروتخريب ديار المسلمين.
" هذا الاستعمار الذي استهدف في العصر الأخير أن يضرب الإسلام ضربةتقض مجامعه وتقض مضاجعه وتبعثر أمته بعثرة نفسية وفكرية لا نهاية لها واخترع منفنون الغزو الثقافي ما يملأ به الفراغ الروحي والعقلي الذي اصطنعه في كل ميدانومهد له في كل مكان..."
ب) حقائق عن بعض هذه الحركات
فمن حقائق البهائية يقول الشيخ العالم محمد الغزالي " عبد البها يمجدالصهيونية والصليبية ويزعم انه مسلم... وقد التحمت البهائية أخيرا بالهجوم اليهوديووجدت من المال الأمريكي ما يعينها على التمدد والبعث بل إن اغلب خصوم الإسلاموالعرب يعينونها على اختطاف الشباب التائه ومسخ عقله وخلقه وماذا عليهم ؟ إن ذلكفي نظرهم جبهة تفتح ضد الإسلام ويمكن أن تنال منه."
وأما في القاديانية الفاسدة فانظر ماذا يقول القدياني صاحبها׃ " لقد خطوت اكبر مرحلة من حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاععنها والفت كتبا كثيرة احرم فيها الجهاد ضدها. لو جمع كل ما كتبته في هذا الصددلبلغ خمسين كتابا ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم... ووجب على كل مسلمومسلمة تقديم الشكر إلى هذه الحكومة وحرام على كل مؤمن مقاتلتها بنيةالجهاد".
وأما عن المآسي التي لحقت المسلمين في فترات الخمول وغياب الجد والعزم منسموم الماسونية العالمية فهذا بند من بنودها الدنيئة التي نفذتها وترى في مجتمعاتنابعض آثارها المؤسفة فانظر ما توصي به جنودها ׃" على الماسونيين أن ينفذوا في صفوف الجماعات الدينية وغيرها ...لا بلعليهم إن احتاج الأمر أن يقوموا بتأسيسها على أن لا تشم منها أي رائحة حقيقيةللدين.. وعليكم أن تولوا أمورها السذج من الرجال ولتطمعوا- خفية- ذوي القلوبالكبيرة من الرجال بقطرات من سمومكم بغية التفرقة بين الفرد وأسرته... عليكم أنتنزعوا الأخلاق من أسسها لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب منالأمور المحرمة لأنها تؤثر الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة...ولتنفذوا بهم إلى ملاذ الحياة البهيمية".
إن هذا الاعتراف المخزي من الماسونيين لكاف للتدليل على مدى ما بلغت إليهروح المكر والهدم والحقد عندهم إزاء الجماعات الدينية بل إزاء الإنسانية قاطبة.
ج) وبعد...
إننا لم نورد هذه الحقائق إلا لنبرهن على أن جميع المآسي التي نخرت في كيانالأمة الإسلامية الشاهدة ... إنما حدثت كلها في فترات غاب فيها جد المسلمين وضعففيها عزمهم وتركوا فيها جهادهم.
فتسلح "الذين آمنوا" بعنوان الدعوة المحمدية -الذي هو الجدوالجزم والحق- وتحقيقه تحقيقا كاملا في سلوكياتهم وأعمالهم يمثل الغيظ المنغص لأهلالباطل وأصحاب القلوب المريضة... تماما كما تحقق ذلك في سلفهم الصالح واعترف لهمبه عدوهم. جاء ذلك على لسان أحد الملوك في قوله ׃ " كيف لي بقوم لو اقسموا على أن يزيلوا جبلا من مكانه لأزالوه "( أو كما جاء في رواية أخرى " لا طاقة لي بقوم إذا أرادوا خلع الجباللخلعوها").
4) المسجد.... ليس مكانا لطقطقة المسابيح
المسجد فيالإسلام ليس مجرد مكان للكوع ولسجود وطقطقة المسابيح. فذلك ما خطط له الاستعماروأقنعنا به نحن في هذا العصر.
إنما المسجد هوأيضا مركب جامعي ومكان لمناقشة مشاغل الناس ومشاكلهم الحياتية والأخروية.
ونظرة منصفةإلى التاريخ تؤكد ذلك.
إن أول عمل بادر بإنجازه الرسول صلى الله عليه وسلم بطيبة- المدينةالمنورة- هو وضعه لحجر الأساس لأول مسجد جامع بها والمشاركة في بنائه وتجهيزه.
ولا يخفى على الدارس الحصيف أن الرسول إنما أراد بعمله هذا أن يربط العبادبخالقهم من هذا المكان بعد أن غرس فيهم بذور التوحيد وزين لهم الإيمان وحببه إليهموشوقهم إلى الطاعات والعبادات. فكان هذا المسجد النبوي البكر بمثابة المكان"اللقيا" الذي يتجمع فيه المسلمون.
وكانت تبرم داخله عناوين الفتوحات وتسوى فيه أمور الدولة وتفصل فيه قضاياومشاغل الأمة.
ولم يأخذ قط تلك الصبغة الإدارية الجافة التي تردى فيها في عصرنا الحاضروالمتمثلة في فتحه وغلقه في أوقات معينة ومحدودة بعد أن كان- في أيام عزه- مفتوحاعلى مصراعيه آناء الليل وأطراف النهار لا يمنع من دخوله مسلم أيا كان وكيف يغلقوهو منزل عابر السبيل وكلية التعليم ومنتدى التثقيف ومجلس القضاء وخلوة الذكروالتسبيح ؟؟
أ) المسجد ׃ مركب جامعي
كان جامع "المنصور ببغداد" وهو اقدم جامع بها اشهر مركز للتعليمفي المملكة الإسلامية وقد أحصى المقدسي في تاريخه ( ص 205) في المسجد الجامعبالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرة من مجالس العلم أي بمصطلحاتنا المعاصرة نقول 110كلية هذا بدون أن ننسى "الأزهر" و"الزيتونة"و"عقبة"...
غير أن هذا لم يدم طويلا للأسف " فقد كان تغير طريقة التعليم سببا فيإيجاد نوع جديد من المؤسسات العلمية ذلك انه لما انتشرت طريقة التدريس نشأتالمدارس ولعل من اكبر الأسباب في ذلك أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بمايتبعه من مناظرة وجدل قد يخرج بأصحابها أحيانا عن الآداب التي تجب مراعاتهاللمسجد.
فالقرن الرابع هجري كما يقول " آدم متز" في كتابه عن الحضارةالإسلامية ( ص336) هو الذي اظهر هذه المعاهد الجديدة التي بقيت إلى يومنا هذا.
ب) المسجد ׃ دار قضاء
يذكر صاحب الأغاني ( ج10 ص 123 ) أن القاضي كان في أول الأمر يجلس في مكانلا يمنع أحد من المسلمين من الدخول إليه وهو المسجد الجامع حيث كان يجلس إلىاسطوانة من أساطين المسجد.
غير أن المعتضد ( سنة 279 هجري) أمر أن لا يقعد القضاة في المسجد بحجة أنجلوس القاضي في المسجد يتنافى مع ما يجب لبيوت الله من الحرمة.
أما في عصرنا الحاضر فلم يبق للمسجد من الخصوصيات والميزات التي كان يتمتعبها قديما والتي ذكرنا بعضها آنفا ... في حاضر أيامه إلا انه "مصلى"يفتح خمس مرات في اليوم يلتقي عندها أعداد محدودة لأداء الصلاة.
ولاعجب في ذلك إذا علمنا أن الاستعمار لما خطط لإسقاط الأمة الإسلامية كانهمه الأساسي يستهدف تشويه رسالة المسلم في هذه الحياة وإضعاف دوره فيها واثباطفاعليته في التمدن والتحضر وعرف انه لن ينجح في ذلك إلا بتحقيق شرطين اثنين ׃
1- تمييع علاقة المسلم بكتابه- القرآن- وصرفه عن الأخذ بآدابه والتحليبأخلاقياته والعمل بأحكامه والتناصح بأوامره. وهذا الشرط الماكر لا يؤتي أكله إلابتحقيق الثاني ׃
2- تقزيم دور المسجد في الحياة الاجتماعية وتهميشه وحصر دوره في مجالالركوع والسجود وطقطقة المسابيح... ومن ثم تولى- الاستعمار- إيجاد وبناء مؤسساتبديلة للتثقيف واللهو وخنق الفراغ حتى يستولي على اهتمام المواطن المسلم ويزهده فيارتياد المسجد.
والحقيقة المرة أن هذه البدائل المائعة قد ضيعت على المواطن المسلم كثيرامن فرص الاستفادة الحقة والتلقي النافع والتربية القويمة وهو ما ابطل فيه روح الإبداع الواسع.
ونظرة منصفة إلى الواقع تبين بوضوح مدى جدوى وسلبية وسائل ومضامين هذهالبدائل التي استحوذت باهتمامات الشباب وتبين أيضا مدى الانحطاط الخلقي والفسادالتربوي الذي حصل عندما تخلى المسجد عن دوره كمدرسة وكموجه.
ولأنهم يدركون- بالتجربة- مدى خطر دور المسجد في تحصين الفرد المسلم نرىالأعداء (أعداء الأمة الإسلامية) على اختلافهم يخططون بكل طرقهم ووسائلهم لتقليصدور المسجد ولو اقتضى الأمر هدمه أو تشويهه. واليك بعض الشواهد׃
1- في روسيا الشيوعية لم يبق من جملة 30 ألف مسجد إلا 30 منها.
2- مجمع الأحبار الإسرائيلي شكل لجنة من ثلاثة أعضاء متخصصين في التلمودلإصدار فتوى حول جواز ممارسة الطقوس الدينية اليهودية من فوق جبل المعبد الذييطلقه اليهود على منطقة المسجد الأقصى... وتجمع التقارير على أن الهدف الواضح منوراء ذلك هو هدم المسجد الأقصى ومسجد إبراهيم برخصة تلمودية ( مجلة الأمة- عدد 26-ص 88) لأنهم أيقنوا أن الفدائي الذي ينطلق من ثكنة المسجد لا ينهزم ولا تقف أمامهقوة ما.
الهوامش׃
(1) فقرة لمحمدفريد وجدي- نقلا عن كتاب "مسلمون وكفى"- لعبد الكريم الخطيب- ص 15/16
(2)"مسلمون وكفى" -ص 38
(3)"الظلال "- سيد قطب- المجلد الأول- ص 401 /402.
(4) "الإسلام المفترى عليه"- محمد الغزالي
(5) ردة-للندوي
(6) منهج جديدفي التربية والتعليم- المودودي
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب