المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق
الدولية
الأستاذ الدكتور عمار بوضياف
مقدمة:
إذا كانت السياسة الجنائية في كل مكان وزمان تفرض تجريم بعض الأفعال الضارة
بمصلحة المجتمع ومصلحة الأفراد، ووضع عقوبات لها. ولا يتصور أن يعرف المجتمع
استقرارا وتنمية وعمارا ومدنية خارج إطار هذا التجريم وهذا العقاب. فإن العدالة
الجنائية من جهة أخرى تفرض النظر إلى المتهم باعتباره إنسانا، له كرامته
وشعوره،كيانه وشخصيته، ومن حقه أن يتمتع بمحاكمة عادلة، أيا كان الفعل المنسوب
إليه، وأيا كانت حالته السياسية أو المدنية أو المالية، تمس جميع المراحل ،سواء
مرحلة التحري والتحقيق أو مرحلة المحاكمة أو مرحلة تنفيذ العقوبة.
ولقد استقطب الحق في المحاكمة العادلة، وهو من أرقى حقوق الإنسان اليوم ،
اهتمام المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وكذلك المنظمات والاتحادات
الإقليمية، وامتد الاهتمام للمنظمات غير الحكومة، وجمعيات حقوق الإنسان ومنظمات
المحامين في كل الدول. وعرف هذا الحق بالتحديد العديد من التظاهرات العلمية، من
مؤتمرات وملتقيات وندوات في كثير من الدول، كان لها الأثر العميق والفاعل في الكشف
عن مختلف الجوانب الإجرائية للمحاكمة العادلة. وفي دفع المشرعين للاهتمام أكثر
بهذا الحق وإعادة النظر في منظومات قانونية إجرائية.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد كرس جملة من الضمانات وصولا
لمحاكمة عادلة. وهو ما تأكد في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتم
تثبيت هذه الضمانات في اتفاقيات كثيرة أمريكية وأوروبية وعربية وغيرها. وجسدت هذه
الضمانات في دساتير هذه الدول، وفي قوانين الإجراءات الجنائية، فإن السؤال
المطروح: ما هي مصادر قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي
والمواثيق الدولية؟. وهل كفل النظام الجنائي الإسلامي ضمانات للمتهم بما يحقق
المحاكمة العادلة؟. وما هي أوجه الشبة والالتقاء بين ضمانات المحاكمة العادلة في
النظام الجنائي الإسلامي وبين الضمانات المقررة للمتهم في المواثيق الدولية وعلى
رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية؟ وبم
تميز النظام الجنائي الإسلامي عن غيره من الأنظمة الوضعية؟.
وإن الغرض الأساس من طرح هذه الأسئلة هو الكشف أولا عن مدى تميز قواعد
المحاكمة العادلة المقررة في النظام الجنائي الإسلامي عن تلك المقررة والثابتة في
المواثيق الدولية . وثانيا تأكيد حقيقة علمية أن النظام الجنائي الإسلامي كان
سباقا في إقرار كل ضمانات المحاكمة العادلة مع الاستدلال بالقواعد التي تؤكد ذلك .
ولما كان موضوع المحاكمة العادلة من السعة بمكان، فإننا سنقتصر في مؤلفنا
هذا على مرحلة المحاكمة دون مرحلة التحقيق أو ما يطلق عليها بمرحلة ما قبل المحاكمة
.وهذا بالنظر لأهميتها كونها المرحلة الحاسمة التي سيتقرر مصير المتهم من خلالها
إما بإدانته أو إقرار براءته.
ولقد قدرنا معالجة هذا الموضوع من خلال مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: مفهوم المحاكمة
العادلة.
المبحث الثاني: مصادر قواعد
المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية.
المبحث الثالث: ضمانات المحاكمة
العادلة في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية.
ونتوج هذه
الدراسة باستعراض أهم النتائج التي توصلنا إليها.
المبحث الأول
مفهوم المحاكمة العادلة
إذا كانت الوظيفة الأساسية لقانون العقوبات في سائر الأنظمة تكمن في تكفله
بحماية وتأمين مصالح الأفراد والجماعة لضمان حد معقول من الاستقرار الاجتماعي، فإن
هذه الوظيفة لن تكتمل إلا بتنظيم الإجراءات الجنائية التي يتم بمقتضاها توقيع
العقاب على الأشخاص الذين يرتكبون أفعالا تندرج تحت نصوصه.[1]
وإذا كان من المسلم به في سائر الأنظمة القانونية أن لكل دولة الحق في
توقيع العقوبة اللازمة على مرتكبي الجرائم، من وطنيين وأجانب مقيمين فوق ترابها،
تأمينا لمصلحة الجماعة والأفراد، إلا أن ممارسة هذا الحق يظل مقيدا بمراعاة الدولة
لضوابط المحاكمة العادلة وإتباعها سائر الإجراءات التي تكفل احترام الشخصية
القانونية للمتهم، أيا كانت حالته السياسية، وأيا كان وضعه الاجتماعي ، وسواء سبق
له المثول أمام المحكمة وتوقيع العقوبة عليه، أو لم يسبق له ذلك. وهو ما يفرض على
المشرع تحقيق التوازن بين مصلحتين متعارضتين، هما المصلحة العامة في تحقيق العدالة
الجنائية بتطبيق قانون العقوبات، والمصلحة الخاصة في حماية الحرية الشخصية وما
التصق بها من حقوق الإنسان[2]
. ولا يمكن أن يتجسد التوازن في أرض الواقع ما لم تخصص الدولة قواعد إجرائية، من
شأنها ضمان محاكمة عادلة، عادة ما يتم إقرار
أصولها العامة في النصوص الدستورية وقواعدها التفصيلية في قانون الإجراءات
الجنائية والقوانين الأخرى ذات الصلة. وهذا ما دأبت عليه مختلف الأنظمة القانونية
.
ولقد وصف الأستاذ الدكتور فتحي سرور المحاكمة العادلة على أنها أحد الحقوق
الأساسية للإنسان. وهي تقوم على توافر مجموعة من الإجراءات التي تتم بها الخصومة
الجنائية في إطار حماية الحريات الشخصية وغيرها من حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته
المتكاملة.[3]
فالمحاكمة العادلة تقوم أساسا على توافر مجموعة إجراءات تلازم كل مراحل المساءلة
الجنائية، من شأنها أن تحفظ للمتهم كرامته وشخصيته القانونية.
ولا ينبغي تطبيقا لهذه الإجراءات ،إخضاعه لمعاملة قاسية، أو تعريضه للضرب
والعذاب، أو دفعه على الاعتراف ضد نفسه، أو عدم تمكينه من تقديم أدلته
وتوضيحاته،أو حرمانه من ممارسته حق الدفاع، أو إحالته على محكمة خاصة. ولا ينبغي
أيضا فرض ازدواجية في مجال الإجراءات الجنائية ليطبق كل إجراء على فئة دون أخرى،
بل يتعين أن تكون الإجراءات واحدة إذا كانت الجريمة المنسوبة للمتهم واحدة.
وتقتضي أصول المحاكمة العادلة أن
يعامل المتهم معاملة البريء حتى صدور حكم الإدانة ضده من قبل جهة القضاء المختصة،
وبعد توافر جملة الأدلة تجاهه ، وبعد أن يمكن من كل الضمانات المقررة له قانونا.
كما تقتضي عرض قضيته على محكمة مستقلة محايدة ،وأن تنظر فيها نظرا موضوعيا عادلا
وسريعا، وأن يسبب الحكم، ويمكن المتهم من حق الطعن.
و ترسخ الاعتقاد لدى الكثير اليوم، أن الحرية لم تعد مجرد فكرة مثالية أو
نظرية،بل صار لها وجودا على المستوى العملي، و قيمة محددة يتمتع بها الأفراد في
مواجهة السلطة ،وذلك عن طريق تقييد نشاطها وتحديد نطاقها. وهذا القيد يسمى بمبدأ
الشرعية الإجرائية ،والذي تدور حوله فكرة المحاكمة العادلة.
وإذا عدنا للنظام الجنائي الإسلامي نجده قد حرص على حماية المتهم باعتباره
إنسانا في كل مراحل المتابعة والمحاكمة ، بل وحتى مرحلة تنفيذ العقوبة ،حرصا لم
ترق إليه القوانين الوضعية. ومكنه من وسائل الدفاع عن نفسه. وافترض فيه البراءة
حتى يثبت العكس. كما لم يعتمد النظام القضائي الإسلامي فكرة المحاكم الخاصة أو
الإجراءات الخاصة، بل كانت هيئات القضاء واحدة تنظر في جميع الجرائم، وبذات
القواعد الإجرائية والتي اتسمت بالبساطة بحكم بساطة المجتمع الإسلامي في ذلك
الوقت.
وكانت الدعاوى المعروضة أمام القضاة
يفصل فيها في آجال قصيرة، لأن إطالة عمر النزاع أمر تعارضه شريعتنا الغراء،
وهي شريعة العدل والعدالة. وسنفصل في كل هذه الأحكام الإجرائية باعتبارها ضمانات
للمتهم في المبحث الثالث، مع تقديم القواعد الدالة على وجودها.
وعليه، فإن فكرة المحاكمة العادلة كمفهوم قانوني، لها وثيق الصلة اليوم
بمجالات حقوق الإنسان، عرفها النظام الجنائي الإسلامي نصا وواقعا وتطبيقا قبل أن
يكتشفها المجتمع الإنساني وتقرها القوانين الوضعية، وقبل أن يتفق عليها المجتمع
الدولي المعاصر ويعتمدها في وثائق ونصوص رسمية.وليس غريبا أن تعير شريعة الإسلام
العناية اللازمة لكرامة المتهم وشخصيتة باعتباره إنسانا كرمه الله عز وجل وأنزل من
أجله الأحكام الدالة على هذا التكريم .
المبحث الثاني
مصادر قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي
الإسلامي والمواثيق الدولية
لعل السؤال يطرح ما هي مصادر قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي
الإسلامي؟ وهل ما تم إقراره اليوم من ضمانات للمتهم في المواثيق الدولية جاء
بطريقة عفوية وتلقائية أم كان نتيجة تضحيات ومطالبات؟. وما هو نطاق الحماية
الإجرائية للمتهم في كل من النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية؟
لقد بات واضحا اليوم أن المجتمع الدولي المعاصر إذا كان قد وصل من مدة
قصيرة إلى الاتفاق حول مواثيق دولية تقر جملة من الحقوق، كالإعلان العالمي لحقوق
الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من شهر ديسمبر 1948.
والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن نفس الجهة في السادس
عشرة من شهر ديسمبر 1966.وأضحت هذه المواثيق تشكل من جهة مصدرا دوليا اعتمدت عليه
الدول عند وضع دساتيرها، وفي صياغة قوانينها خاصة الجزائية منها. كما أنها تمثل من
جهة أخرى رمزا للتطور، وعلامة من علامات التقدم والارتقاء، وعنوانا للوحدة
القانونية بين مختلف أعضاء المجتمع الدولي المعاصر رغم الاختلاف في طبيعة النظام
السياسي.غير أنه من الثابت والمؤكد أن الأنظمة الوضعية لم تصل إلى هذه المرحلة من
الإجماع حول هذه الحقوق والحريات، إلا بعد انتهاكات وعدوان على حقوق الإنسان،حدث على
مر أجيال متعاقبة، وبعد اصطدامات وإسالة دماء ومطالبات، من جمعيات واتحادات
ومنظمات كثيرة. ولم يتم إقرار هذه الحقوق، إلا بعد أن تعرض الأفراد، وفي مناطق
كثيرة من العالم إلى اعتداءات وتجاوزات، كانت محل كتابات مختلفة من قبل المهتمين
بمجالات حقوق الإنسان، من فلاسفة ومفكرين وعلماء اجتماع ومهتمين بالدراسات
السياسية والقانونية.
وحسبنا الإشارة أن بعض الدول الفاعلة اليوم في المجتمع الدولي المعاصر،
ساهمت وحتى وقت قريب، وبشكل معلن وفاضح، في اغتصاب حقوق الغير ،وفي ارتكاب مجازر
ضد المدنيين ، وفي فرض قيود شتى على الحريات العامة، بل ثبت تورطها في أكثر من
إبادة جماعية وتفننت في تقديم أبشع صور العذاب والتقتيل .وصار مؤكدا اليوم، أن ما
تم إقراره في المواثيق الدولية من حقوق وحريات، كان نتيجة تضحيات ومطالبات. ولم
يتم بصفة عفوبة، بل عبر نضال طويل ومرير، شهدته البشرية في كثير من أنحاء العالم.
أما في الشريعية الإسلامية فلم تأت هذه الحقوق والحريات نتيجة ضغوط أو
مطالبات أو مظاهرات أو إسالة دماء، وإنما شرعها المولى تبارك وتعالى. وفصلها النبي
صلى الله عليه وسلم. وكتب بشأنها علماء هذه الأمة. وامتثل إليها الخلفاء والأمراء
والولاة وقادة الجيوش والشرطة. وخضع إليها العامة. وطبقها القضاة على الدعاوى
المعروضة عليهم اعتبارا من أنها قواعد الهية يلزم أيا كان باحترامها والامتثال
إليها. وهكذا نبعت قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي من مكانة
الإنسان ككائن بشري في ميزان القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وفي أقوال
علماء الأمة الإسلامية. ومن منطلق هذه المكانة السامية والدرجة الرفيعة تعين
التعامل معه بما يليق وهذه المرتبة.
ومن أرقى آيات تكريم المولى عز وجل للإنسان عامة قوله تعالى:" وإذا
قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون" [4].
قال بن كثير يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى
قبل إيجادهم.[5]
ثم أتبع قوله مفسرا لذات الآية وقول الملائكة "أتجعل فيها من يفسد
فيها" ليس على وجه الاعتراض على الله وعلى وجه الحسد لبني آدم كما قد
يتوهمه بعض المفسرين، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف على الحكمة في ذلك.[6]
وقال القرطبي إنهم لما سمعوا –أي الملائكة- خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد إذ
الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد لكن عمموا الحكم على المجتمع بالمعصية
فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء.[7]
وقال الطبري خليفة في الأرض أي ساكنا وعامرا ويعمرها خلقا ليس منكم أي الملائكة. [8]وعليه فإن أول مظهر من مظاهر تكريم المولى تبارك وتعالى للإنسان، هو
جعله خليفة في الأرض، وفي تعليمه الأسماء.وأنه سخر له عز وجل ما في الأرض لخدمة
مصالحه.
ومن أسمى عبارات التكريم للإنسان الواردة في القرآن الكريم قوله تعالى:"
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على
كثير ممن خلقنا تفضيلا"[9] ". " قال بن كثير :" يخبر
تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها
كقوله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". أن يمشي قائما
منتصبا على رجليه، ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.
جعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله، وينتفع به، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف
منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية".[10]
وأقرت الشريعة الإسلامية حرية التنقل تأكيدا لتفضيل الإنسان واعترافا منها
بتكريمه، وهذا بغرض تمكينه من قضاء مصالحه وتحصيل رزقه. قال جل شأنه:" هو
الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور".[11] قال بن كثير: " أي فسافروا حيث شئتم من
أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات".[12] وقال الشوكاني:" جعل لكم الأرض ذلولا أي
سهلة لينة تستقرون عليها ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي
عليها.[13]
وكهذا أقر القرآن الكريم للإنسان حرية التنقل في مناكب الأرض ونواحيها
وأطرافها وفجاجها، بصرف النظر عن معتقده
أو وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي أو حالته الدينية. بل وأمره بعد أداء
الصلاة بأن يسير في الأرض لتحصيل رزقه قال تعالى:" فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله". [14]
وها هو المجتمع الدولي المعاصر وبعد قرون خلت من ظهور الإسلام يقر ذات
الحرية بموجب المادة الثالثة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[15]
والتي جاء فيها: "لكل فرد حرية التنقل...".وتم تأكيد هذه الحرية بموجب
المادة الثانية عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي ورد
فيها :" يكون لكل إنسان موجود داخل إقليم أية دولة بصورة قانونية حق التمتع
فيه بحرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته".
كما فرضت الشريعة الإسلامية احترام الحياة الخاصة وحرمة المساكن قال تعالى:"
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها
ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون."[16]
فمن حق الإنسان أن ينعم بحرمة مسكنه، وألا
يتعرض لأي مضايقة ،وأن يكشف أسرار بيته للغير. قال تعالى:" فإن لم تجدوا
فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله
بما تعملون عليم."[17]
فأي مقام هذا لحرمة المسكن في شريعتنا الغراء. فقد نهى الله عن دخول منازل
الغير حتى يستأذن من أصحابها أولا ويشعر الداخل بالترحاب . وأمرنا بالرجوع إذا لم
تسمح ظروف صاحب المسكن بالاستقبال. وحث تبارك وتعالى على عدم اقتحام البيوت
وتسورها. واوجب دخولها من أبوابها وبإذن أصحابها قال عز وجل:" وليس البر
بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا
الله لعلكم تفلحون"[18]
.
وإهتدت البشرية إلى إقرار هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموجب
المادة الثانية عشرة بقولها: " لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو
أسرته أو مسكنه...." وورد التأكيد على هذا الحق في المادة السابعة عشرة من
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إذ جاء فيها" لا يجوز إجراء أي
تعرض تحكمي لا قانوني لأي إنسان في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله...".
وكفلت قواعد الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة قال تعالى:" يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير."[19]
ونجم عن تطبيق هذا النص زوال كل أشكال التمييز التي عرفها المجتمع الإنساني قبل
ظهور شريعة الإسلام، كالتمييز بين المرأة والرجل، والسيد والعبد، والوطني و
الأجنبي. وها هي الشريعة الإسلامية تجسد أرقى صور المساواة بين أفراد ينتمون
لمجتمعات مختلفة ولأصول عرقية متباينة. فساوت بين أبي بكر القرشي وبلال الحبشي
وصهيب الرومي وسلمان الفارسي. في حين عرفت الحضارة اليونانية أشكالا مختلفة
للتمييز بين الأفراد وكذلك الحضارة الرومانية وحضارات أخرى كثيرة.[20].
وتأكد مبدأ المساواة في المواثيق الدولية نظرا لأهميته فتم تثبيته في
المادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فجاء فيها:" كل الناس
سواسية أمام القانون". كما تكرس في المادة الثالثة من العهد الدولي للحقوق
المدنية والسياسية بقولها:" تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بتأمين حق
الرجل والمرأة المتساوي في التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية".
وطالما كان مصدر قواعد حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد بات من واجب كل مؤمن بكتاب الله الخضوع لهذه
القواعد والامتثال لهذه الأحكام باعتبارها واجبا دينيا ينجم عن مخالفته جزاء أخروي
فضلا عن الجزاء في الدنيا. لذلك ذهب البعض إلى القول أن أساس حقوق الإنسان في
الإسلام هي العقيدة.[21]
فحين يحترم الخليفة حقوق الرعية كحق الملكية، وحرية التنقل ،وحرمة المسكن،
وسائر الحقوق الأخرى المدنية والسياسية، فإنما يكون بعمله هذا قد امتثل إلى واجب
ديني وطبق قاعدة شرعية. وحين يتصدى القاضي لكل معتد على الحقوق المقررة والثابتة
بموجب نصوص شرعية، ويوقع الجزاء اللازم والعادل على كل متجاوز أو منتهك لها، فإنما
يكون بذلك قد امتثل هو الآخر لالتزام ديني. فكأنما كل مسؤول في الدولة الإسلامية
أيا كانت وظيفته مطالب بتطبيق النصوص الشرعية التي تكفل الحماية اللازمة لحقوق
الإنسان.
ومن المؤكد أن الحكم متى كان له الطابع الديني، وصدر عن إرادة المولى عز
وجل، كان أشد وقعا وأثرا على نفسية وضمير المعني بالامتثال إليه، أو المعني
بتطبيقه، سواء كان خليفة، أو واليا، أو قائد جيش، أو قائد شرطة وغيرهم. ومتى كان للقاعدة الدينية هذا
النفوذ المعنوي، فإنه لا خوف من حيث الأصل على دائرة حقوق الإنسان في النظام
الإسلامي، طالما التصقت بالجانب الديني بما ينبغي معه تطبيقها واحترامها، استجابة
لإرادة الله وامتثالا لشرعه.
ومن منطلق أن الشريعة الإسلامية لم تأت على حد قول الأستاذ عبد القادر
عوده:" ...لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنما جاءت
للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين على اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم
وتقاليدهم وتاريخهم. فهي شريعة كل أسرة وشريعة كل قبيلة وشريعة كل جماعة، وشريعة
كل دولة، هي الشريعة العالمية"[22]
. فإنه ينجم عن ذلك القول، أن حقوق الإنسان بالتبعية في الشريعة الإسلامية صار لها
الطابع العالمي، بحكم عالمية الدين الإسلامي، كونه الدين الذي ارتضاه المولى عز
وجل للبشرية جمعاء، وهو صالح لأن يحكم سلوك الأفراد والهيئات في زمن السلم والحرب،
وأن أحكامه صيغت بحيث لا يؤثر فيها مرور الزمن أو تعاقب الأجيال. ومن خصائص
الشريعة أنها كل متحد مترابط متناسق[23].
وأن أحكامها مرنة تساير مصالح الناس وتطورهم.[24]
وجدير بالإشارة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر المواثيق المتفرعة
عنه تواجه اليوم عقبات كثيرة أيديولوجية وحضارية وتقنية. فكثيرة هي الدول التي
تحفظت على الإعلان العالمي ولم تبد بشأنه موقفا رسميا. ودول كثيرة أيضا لم يصدر
عنها الموقف الرسمي بشأن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية إلى درجة أن بعض
الباحثين بدأ يثير إشكالية خصوصية الإعلان العالمي وليس عالميته[25].
كما أن منظمة اليونسكو ومن خلال مائدة مستديرة نظمت في أكسفورد من 11 إلى 19
نوفمبر 1965 أكدت تأثر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالتقاليد الغربية خاصة
المتبعة في أوروبا والولايات المتحدة[26]
.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر المواثيق الدولية الأخرى
المتفرعة عنه قد كرست للفرد جملة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية وغيرها، فقد كان لنظامنا الإسلامي السبق كل السبق في إقرار هذه الحقوق
والحريات.
فحين نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الحضارات القديمة
وكذلك الحضارات الملازمة لظهور التشريع الإسلامي غارقة في التمييز بين بني البشر. فميزت بين العبيد والأسياد، والوطنيين والأجانب،وذوي
النفوذ والأشخاص العاديين والرجال والنساء .وكانت هذه الحضارات كلها تبدي كراهية
للفرد الذي لا ينتمي إلى الجماعة وتعتبره معزولا عنها .ولم تمكنه حتى من حقه في
المطالبة القضائية.[27]..
إلى أن جاء الإسلام فقضى على كل مظاهر التمييز وساوى بين البشر جميعا.
من أجل ذلك ذهب مؤتمر القانون المقارن الذي عقد بمدينة لاهاي سنة 1937 إلى
اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع العام. وأنها قابلة للتطور وشرع
قائم بذاته وليس مأخوذا عن غيره[28].وأيا
كانت جهود البشر في وضع قواعد ومواثيق دولية تجسد ضمانات المحاكمة العادلة، فإنها
تظل من حيث مصدرها قواعد بشرية يمكن أن يلحقها النقص في جانب أو آخر. أو يمكن أن
يقع الاختلاف بشأنها بين أعضاء المجتمع الدولي وهذا ما حدث فعلا.
ففي فرنسا استقر المجلس الدستوري على تحديد معيار واسع للمحاكمة العادلة لا
يقتصر فقط على القواعد الدستورية، بل يمتد حتى لديباجة الدستور. فإذا تضمنت ديباجة
الدستور مسائل تتعلق بالحرية الشخصية وجب أخذها بعين الاعتبار، وفي المقام الأول
.ولا يجوز لتشريع قائم أن يخالفها.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد ثار الجدل أمام المحكمة الاتحادية
العليا بصدد مفهوم شرط الوسائل القانونية في المحاكمة العادلة. وانحصر الجدل
بالتحديد حول ما إذا كان الدستور يتضمن جميع ضمانات حقوق الإنسان، أم يقتصر على
جانب منها فقط. وحسمت المحكمة العليا الأمريكية الأمر معتنقة معيار إدماج معظم
الحقوق الواردة في الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان في نطاق الحماية الدستورية[29]..
و في مصر استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا أن مدلول المحاكمة العادلة
ينصرف إلى مجموعة الضمانات الأساسية التي تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة، يتفق بوجه
عام مع المقاييس المعاصرة، وما يصون كرامة الإنسان ويراعي حريته الشخصية، بما يوجب
ذلك من إحالته أمام محكمة مشكلة طبقا للقانون ويتبع أمامها إجراءات محددة.[30]
وبتقديرنا الخاص فإن معيار المحاكمة العادلة يقتضي تعددية القواعد
القانونية، من قواعد واردة في الدستور، وقواعد أخرى كثيرة ومتنوعة. فالقاعدة
الدستورية عادة تكشف عن الأصول والأحكام العامة، فتضمن حق الدفاع مثلا، وتؤسس
لقرينة البراءة، وتعترف للقضاء باستقلاله، وتلزمه بتسبيب أحكامه وبعلانية
الجلسات وتكرس مبدأ المساواة أمام القانون
وتكفل حق الطعن في الأحكام وغيرها من االضمانات. وتأتي قواعد القانون مؤكدة ومجسدة
لها كقانون الإجراءات الجزائية، أو قانون السلطة القضائية، أو قانون المحاماة
وهكذا.
إن مفهوم الحق في المحاكمة العادلة وما يتسم به من
حساسية وتعقيد يفرض إحاطة المتهم بكل الضمانات اللازمة لتمكينه من ممارسة هذا
الحق. وهذا المفهوم بدوره يفرض تعددية في القواعد. فلا يمكن لمنظومة دستورية
لوحدها، أو منظومة قانونية لوحدها ،أن تكرس كل ضمانات المحاكمة العادلة. بل إن
قواعد المحاكمة العادلة لها سند ومصدر خارجي تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وفصله العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتكرس في اتفاقيات إقليمية كثيرة
أمريكية وأوروبية وافريقية وعربية.
وبناءا على ذلك إذا وقع التصديق على هذا العهد الدولي أو الاتفاقية من قبل
الجهات المخولة داخل الدولة ألزمت السلطات المعنية وعلى رأسها القضاء بتطبيق جملة
الضمانات المكرسة في هذه المواثيق الدولية. وبالنتيجة فإن فكرة المحاكمة العادلة
لها مدلول واسع ، ولها مصادر داخلية وأخرى خارجية. وعلى ذلك كان معيارها هو كل ما
يضمن احترام الحرية الشخصية للمتهم وما يراعي كرامته وكيانه بما يوجب ذلك من
تمكينه من سائر الحقوق الفرعية الناتجة عن الحق العام في المحاكمة العادلة.
[1] الدكتور مأمون
سلامة، قانون الإجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض،الطبعة الثانية،
دار الفكر العربي،القاهرة،2005،ص7
[2] الدكتور أحمد فتحي سرور، الشرعية الدستورية وحقوق الإنسان في الإجراءات
الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993،ص 3
[3] الدكتور أحمد فتحي سرور، المرجع نفسه،ص 185.
[4] سورة البقرة الآية 30
[5] ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، الجزء الأول، دار الفكر ، بيروت ،
2005،ص 71.
[6] المرجع نفسه،ص 72
[7] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن، المجلد الأول ، دار الكتب العلمية، بيروت
، 1996،ص 189
[8] ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الأول، دار الفكر
للطباعة والنشر، بيروت، 1995،ص 288.
[9] سورة الإسراء الآية 70
[10] ابن كثير، الجزء الثالث، ص 1102.
[11] سورة الملك الآية 15.
[12] ابن كثير، الجزء الرابع،ص 1923.
[13] محمد الشوكاني، فتح القدير، الجزء الخامس، الطبعة الأولى، دار الكتب
العلمية، بيروت ، لبنان، 1994،ص 325.
[14] سورة الجمعة الآية 10.
[15] أقر الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان بأغلبية 48 دولة، وامتناع 8 دول ولم يكن هناك أي دولة معترضة عليه.
الدكتور أحمد أبو الوفا، الحماية الدولية لحقوق الإنسان ،الطبعة الأولى،
دار النهضة العربية، القاهرة، 2000،ص 25.
[16] سورة النور الآية 27.
[17] سورة النور الآية 28.
[18] سورة البقرة الآية 189.
[19] سورة الحجرات الآية 12.
[20] علي محمد صالح الدباس، علي عليان محمد
أبو زيد، حقوق الإنسان وحرياته، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن،
2005،ص.33.
[21] الدكتور السيد عبد الحميد فوده، حقوق الإنسان بين النظم القانونية والشريعة
الإسلامية، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة،2003،ص 15.
[22] عبد القادر عوده، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، الجزء
الأول، الطبعة السادسة، مؤسسة الرسالة، بيروت ، 1985،ص 16.
[23] الدكتور محمد عبد الغفار الشريف، التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، مجلة
الحقوق، مجلس النشر الجامعي، جامعة الكويت، السنة التاسعة عشر العدد الثاني،
يونيو، 1995،ص 281.
[24] ) الدكتور عبد الخالق النواوي، التشريع الجنائي في الشريعة الإسلامية
والقانون الوضعي ، منشورات المكتبة العصرية، بيروت 1973،ص 20.
[25] الدكتور قادري عبد
العزيز، حقوق الإنسان في القانون الدولي والعلاقات الدولية، دار هومة،
الجزائر،2002،ص 43.
وأيضا: Pierre Marie Dupuy, Droit International
Dalloz, Paris, 1998,P204
[26] الدكتور قادري عبد العزيز،المرجع نفسه، ص 44.
[27] الدكتور عبد المجيد محمد الحفناوي، الدكتور عكاشة محمد عبد العال، تاريخ
النظم القانونية والقانون الروماني، الدار الجامعية، القاهرة،1991،ص 162.وأيضا على
محمد صالح الدباس وعلى عليان محمد أبو زيد، المرجع السابق،ص 34
[28] ) المستشار محمد عارف مصطفى فهمي، الحدود والقصاص بين الشريعة والقانون،
الطبعة الثانية، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة،1979،ص2
[29] الدكتور محمد محمد مصباح القاضي، الحق في المحاكمة العادلة ، دار النهضة
العربية، القاهرة،2008،ص 55-56
[30] الدكتور محمد محمد مصباح القاضي، المرجع السابق ص 57 .
الدولية
الأستاذ الدكتور عمار بوضياف
مقدمة:
إذا كانت السياسة الجنائية في كل مكان وزمان تفرض تجريم بعض الأفعال الضارة
بمصلحة المجتمع ومصلحة الأفراد، ووضع عقوبات لها. ولا يتصور أن يعرف المجتمع
استقرارا وتنمية وعمارا ومدنية خارج إطار هذا التجريم وهذا العقاب. فإن العدالة
الجنائية من جهة أخرى تفرض النظر إلى المتهم باعتباره إنسانا، له كرامته
وشعوره،كيانه وشخصيته، ومن حقه أن يتمتع بمحاكمة عادلة، أيا كان الفعل المنسوب
إليه، وأيا كانت حالته السياسية أو المدنية أو المالية، تمس جميع المراحل ،سواء
مرحلة التحري والتحقيق أو مرحلة المحاكمة أو مرحلة تنفيذ العقوبة.
ولقد استقطب الحق في المحاكمة العادلة، وهو من أرقى حقوق الإنسان اليوم ،
اهتمام المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وكذلك المنظمات والاتحادات
الإقليمية، وامتد الاهتمام للمنظمات غير الحكومة، وجمعيات حقوق الإنسان ومنظمات
المحامين في كل الدول. وعرف هذا الحق بالتحديد العديد من التظاهرات العلمية، من
مؤتمرات وملتقيات وندوات في كثير من الدول، كان لها الأثر العميق والفاعل في الكشف
عن مختلف الجوانب الإجرائية للمحاكمة العادلة. وفي دفع المشرعين للاهتمام أكثر
بهذا الحق وإعادة النظر في منظومات قانونية إجرائية.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد كرس جملة من الضمانات وصولا
لمحاكمة عادلة. وهو ما تأكد في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتم
تثبيت هذه الضمانات في اتفاقيات كثيرة أمريكية وأوروبية وعربية وغيرها. وجسدت هذه
الضمانات في دساتير هذه الدول، وفي قوانين الإجراءات الجنائية، فإن السؤال
المطروح: ما هي مصادر قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي
والمواثيق الدولية؟. وهل كفل النظام الجنائي الإسلامي ضمانات للمتهم بما يحقق
المحاكمة العادلة؟. وما هي أوجه الشبة والالتقاء بين ضمانات المحاكمة العادلة في
النظام الجنائي الإسلامي وبين الضمانات المقررة للمتهم في المواثيق الدولية وعلى
رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية؟ وبم
تميز النظام الجنائي الإسلامي عن غيره من الأنظمة الوضعية؟.
وإن الغرض الأساس من طرح هذه الأسئلة هو الكشف أولا عن مدى تميز قواعد
المحاكمة العادلة المقررة في النظام الجنائي الإسلامي عن تلك المقررة والثابتة في
المواثيق الدولية . وثانيا تأكيد حقيقة علمية أن النظام الجنائي الإسلامي كان
سباقا في إقرار كل ضمانات المحاكمة العادلة مع الاستدلال بالقواعد التي تؤكد ذلك .
ولما كان موضوع المحاكمة العادلة من السعة بمكان، فإننا سنقتصر في مؤلفنا
هذا على مرحلة المحاكمة دون مرحلة التحقيق أو ما يطلق عليها بمرحلة ما قبل المحاكمة
.وهذا بالنظر لأهميتها كونها المرحلة الحاسمة التي سيتقرر مصير المتهم من خلالها
إما بإدانته أو إقرار براءته.
ولقد قدرنا معالجة هذا الموضوع من خلال مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: مفهوم المحاكمة
العادلة.
المبحث الثاني: مصادر قواعد
المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية.
المبحث الثالث: ضمانات المحاكمة
العادلة في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية.
ونتوج هذه
الدراسة باستعراض أهم النتائج التي توصلنا إليها.
المبحث الأول
مفهوم المحاكمة العادلة
إذا كانت الوظيفة الأساسية لقانون العقوبات في سائر الأنظمة تكمن في تكفله
بحماية وتأمين مصالح الأفراد والجماعة لضمان حد معقول من الاستقرار الاجتماعي، فإن
هذه الوظيفة لن تكتمل إلا بتنظيم الإجراءات الجنائية التي يتم بمقتضاها توقيع
العقاب على الأشخاص الذين يرتكبون أفعالا تندرج تحت نصوصه.[1]
وإذا كان من المسلم به في سائر الأنظمة القانونية أن لكل دولة الحق في
توقيع العقوبة اللازمة على مرتكبي الجرائم، من وطنيين وأجانب مقيمين فوق ترابها،
تأمينا لمصلحة الجماعة والأفراد، إلا أن ممارسة هذا الحق يظل مقيدا بمراعاة الدولة
لضوابط المحاكمة العادلة وإتباعها سائر الإجراءات التي تكفل احترام الشخصية
القانونية للمتهم، أيا كانت حالته السياسية، وأيا كان وضعه الاجتماعي ، وسواء سبق
له المثول أمام المحكمة وتوقيع العقوبة عليه، أو لم يسبق له ذلك. وهو ما يفرض على
المشرع تحقيق التوازن بين مصلحتين متعارضتين، هما المصلحة العامة في تحقيق العدالة
الجنائية بتطبيق قانون العقوبات، والمصلحة الخاصة في حماية الحرية الشخصية وما
التصق بها من حقوق الإنسان[2]
. ولا يمكن أن يتجسد التوازن في أرض الواقع ما لم تخصص الدولة قواعد إجرائية، من
شأنها ضمان محاكمة عادلة، عادة ما يتم إقرار
أصولها العامة في النصوص الدستورية وقواعدها التفصيلية في قانون الإجراءات
الجنائية والقوانين الأخرى ذات الصلة. وهذا ما دأبت عليه مختلف الأنظمة القانونية
.
ولقد وصف الأستاذ الدكتور فتحي سرور المحاكمة العادلة على أنها أحد الحقوق
الأساسية للإنسان. وهي تقوم على توافر مجموعة من الإجراءات التي تتم بها الخصومة
الجنائية في إطار حماية الحريات الشخصية وغيرها من حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته
المتكاملة.[3]
فالمحاكمة العادلة تقوم أساسا على توافر مجموعة إجراءات تلازم كل مراحل المساءلة
الجنائية، من شأنها أن تحفظ للمتهم كرامته وشخصيته القانونية.
ولا ينبغي تطبيقا لهذه الإجراءات ،إخضاعه لمعاملة قاسية، أو تعريضه للضرب
والعذاب، أو دفعه على الاعتراف ضد نفسه، أو عدم تمكينه من تقديم أدلته
وتوضيحاته،أو حرمانه من ممارسته حق الدفاع، أو إحالته على محكمة خاصة. ولا ينبغي
أيضا فرض ازدواجية في مجال الإجراءات الجنائية ليطبق كل إجراء على فئة دون أخرى،
بل يتعين أن تكون الإجراءات واحدة إذا كانت الجريمة المنسوبة للمتهم واحدة.
وتقتضي أصول المحاكمة العادلة أن
يعامل المتهم معاملة البريء حتى صدور حكم الإدانة ضده من قبل جهة القضاء المختصة،
وبعد توافر جملة الأدلة تجاهه ، وبعد أن يمكن من كل الضمانات المقررة له قانونا.
كما تقتضي عرض قضيته على محكمة مستقلة محايدة ،وأن تنظر فيها نظرا موضوعيا عادلا
وسريعا، وأن يسبب الحكم، ويمكن المتهم من حق الطعن.
و ترسخ الاعتقاد لدى الكثير اليوم، أن الحرية لم تعد مجرد فكرة مثالية أو
نظرية،بل صار لها وجودا على المستوى العملي، و قيمة محددة يتمتع بها الأفراد في
مواجهة السلطة ،وذلك عن طريق تقييد نشاطها وتحديد نطاقها. وهذا القيد يسمى بمبدأ
الشرعية الإجرائية ،والذي تدور حوله فكرة المحاكمة العادلة.
وإذا عدنا للنظام الجنائي الإسلامي نجده قد حرص على حماية المتهم باعتباره
إنسانا في كل مراحل المتابعة والمحاكمة ، بل وحتى مرحلة تنفيذ العقوبة ،حرصا لم
ترق إليه القوانين الوضعية. ومكنه من وسائل الدفاع عن نفسه. وافترض فيه البراءة
حتى يثبت العكس. كما لم يعتمد النظام القضائي الإسلامي فكرة المحاكم الخاصة أو
الإجراءات الخاصة، بل كانت هيئات القضاء واحدة تنظر في جميع الجرائم، وبذات
القواعد الإجرائية والتي اتسمت بالبساطة بحكم بساطة المجتمع الإسلامي في ذلك
الوقت.
وكانت الدعاوى المعروضة أمام القضاة
يفصل فيها في آجال قصيرة، لأن إطالة عمر النزاع أمر تعارضه شريعتنا الغراء،
وهي شريعة العدل والعدالة. وسنفصل في كل هذه الأحكام الإجرائية باعتبارها ضمانات
للمتهم في المبحث الثالث، مع تقديم القواعد الدالة على وجودها.
وعليه، فإن فكرة المحاكمة العادلة كمفهوم قانوني، لها وثيق الصلة اليوم
بمجالات حقوق الإنسان، عرفها النظام الجنائي الإسلامي نصا وواقعا وتطبيقا قبل أن
يكتشفها المجتمع الإنساني وتقرها القوانين الوضعية، وقبل أن يتفق عليها المجتمع
الدولي المعاصر ويعتمدها في وثائق ونصوص رسمية.وليس غريبا أن تعير شريعة الإسلام
العناية اللازمة لكرامة المتهم وشخصيتة باعتباره إنسانا كرمه الله عز وجل وأنزل من
أجله الأحكام الدالة على هذا التكريم .
المبحث الثاني
مصادر قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي
الإسلامي والمواثيق الدولية
لعل السؤال يطرح ما هي مصادر قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي
الإسلامي؟ وهل ما تم إقراره اليوم من ضمانات للمتهم في المواثيق الدولية جاء
بطريقة عفوية وتلقائية أم كان نتيجة تضحيات ومطالبات؟. وما هو نطاق الحماية
الإجرائية للمتهم في كل من النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية؟
لقد بات واضحا اليوم أن المجتمع الدولي المعاصر إذا كان قد وصل من مدة
قصيرة إلى الاتفاق حول مواثيق دولية تقر جملة من الحقوق، كالإعلان العالمي لحقوق
الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من شهر ديسمبر 1948.
والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن نفس الجهة في السادس
عشرة من شهر ديسمبر 1966.وأضحت هذه المواثيق تشكل من جهة مصدرا دوليا اعتمدت عليه
الدول عند وضع دساتيرها، وفي صياغة قوانينها خاصة الجزائية منها. كما أنها تمثل من
جهة أخرى رمزا للتطور، وعلامة من علامات التقدم والارتقاء، وعنوانا للوحدة
القانونية بين مختلف أعضاء المجتمع الدولي المعاصر رغم الاختلاف في طبيعة النظام
السياسي.غير أنه من الثابت والمؤكد أن الأنظمة الوضعية لم تصل إلى هذه المرحلة من
الإجماع حول هذه الحقوق والحريات، إلا بعد انتهاكات وعدوان على حقوق الإنسان،حدث على
مر أجيال متعاقبة، وبعد اصطدامات وإسالة دماء ومطالبات، من جمعيات واتحادات
ومنظمات كثيرة. ولم يتم إقرار هذه الحقوق، إلا بعد أن تعرض الأفراد، وفي مناطق
كثيرة من العالم إلى اعتداءات وتجاوزات، كانت محل كتابات مختلفة من قبل المهتمين
بمجالات حقوق الإنسان، من فلاسفة ومفكرين وعلماء اجتماع ومهتمين بالدراسات
السياسية والقانونية.
وحسبنا الإشارة أن بعض الدول الفاعلة اليوم في المجتمع الدولي المعاصر،
ساهمت وحتى وقت قريب، وبشكل معلن وفاضح، في اغتصاب حقوق الغير ،وفي ارتكاب مجازر
ضد المدنيين ، وفي فرض قيود شتى على الحريات العامة، بل ثبت تورطها في أكثر من
إبادة جماعية وتفننت في تقديم أبشع صور العذاب والتقتيل .وصار مؤكدا اليوم، أن ما
تم إقراره في المواثيق الدولية من حقوق وحريات، كان نتيجة تضحيات ومطالبات. ولم
يتم بصفة عفوبة، بل عبر نضال طويل ومرير، شهدته البشرية في كثير من أنحاء العالم.
أما في الشريعية الإسلامية فلم تأت هذه الحقوق والحريات نتيجة ضغوط أو
مطالبات أو مظاهرات أو إسالة دماء، وإنما شرعها المولى تبارك وتعالى. وفصلها النبي
صلى الله عليه وسلم. وكتب بشأنها علماء هذه الأمة. وامتثل إليها الخلفاء والأمراء
والولاة وقادة الجيوش والشرطة. وخضع إليها العامة. وطبقها القضاة على الدعاوى
المعروضة عليهم اعتبارا من أنها قواعد الهية يلزم أيا كان باحترامها والامتثال
إليها. وهكذا نبعت قواعد المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي من مكانة
الإنسان ككائن بشري في ميزان القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وفي أقوال
علماء الأمة الإسلامية. ومن منطلق هذه المكانة السامية والدرجة الرفيعة تعين
التعامل معه بما يليق وهذه المرتبة.
ومن أرقى آيات تكريم المولى عز وجل للإنسان عامة قوله تعالى:" وإذا
قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون" [4].
قال بن كثير يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى
قبل إيجادهم.[5]
ثم أتبع قوله مفسرا لذات الآية وقول الملائكة "أتجعل فيها من يفسد
فيها" ليس على وجه الاعتراض على الله وعلى وجه الحسد لبني آدم كما قد
يتوهمه بعض المفسرين، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف على الحكمة في ذلك.[6]
وقال القرطبي إنهم لما سمعوا –أي الملائكة- خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد إذ
الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد لكن عمموا الحكم على المجتمع بالمعصية
فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء.[7]
وقال الطبري خليفة في الأرض أي ساكنا وعامرا ويعمرها خلقا ليس منكم أي الملائكة. [8]وعليه فإن أول مظهر من مظاهر تكريم المولى تبارك وتعالى للإنسان، هو
جعله خليفة في الأرض، وفي تعليمه الأسماء.وأنه سخر له عز وجل ما في الأرض لخدمة
مصالحه.
ومن أسمى عبارات التكريم للإنسان الواردة في القرآن الكريم قوله تعالى:"
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على
كثير ممن خلقنا تفضيلا"[9] ". " قال بن كثير :" يخبر
تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها
كقوله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". أن يمشي قائما
منتصبا على رجليه، ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.
جعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله، وينتفع به، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف
منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية".[10]
وأقرت الشريعة الإسلامية حرية التنقل تأكيدا لتفضيل الإنسان واعترافا منها
بتكريمه، وهذا بغرض تمكينه من قضاء مصالحه وتحصيل رزقه. قال جل شأنه:" هو
الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور".[11] قال بن كثير: " أي فسافروا حيث شئتم من
أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات".[12] وقال الشوكاني:" جعل لكم الأرض ذلولا أي
سهلة لينة تستقرون عليها ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي
عليها.[13]
وكهذا أقر القرآن الكريم للإنسان حرية التنقل في مناكب الأرض ونواحيها
وأطرافها وفجاجها، بصرف النظر عن معتقده
أو وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي أو حالته الدينية. بل وأمره بعد أداء
الصلاة بأن يسير في الأرض لتحصيل رزقه قال تعالى:" فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله". [14]
وها هو المجتمع الدولي المعاصر وبعد قرون خلت من ظهور الإسلام يقر ذات
الحرية بموجب المادة الثالثة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[15]
والتي جاء فيها: "لكل فرد حرية التنقل...".وتم تأكيد هذه الحرية بموجب
المادة الثانية عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي ورد
فيها :" يكون لكل إنسان موجود داخل إقليم أية دولة بصورة قانونية حق التمتع
فيه بحرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته".
كما فرضت الشريعة الإسلامية احترام الحياة الخاصة وحرمة المساكن قال تعالى:"
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها
ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون."[16]
فمن حق الإنسان أن ينعم بحرمة مسكنه، وألا
يتعرض لأي مضايقة ،وأن يكشف أسرار بيته للغير. قال تعالى:" فإن لم تجدوا
فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله
بما تعملون عليم."[17]
فأي مقام هذا لحرمة المسكن في شريعتنا الغراء. فقد نهى الله عن دخول منازل
الغير حتى يستأذن من أصحابها أولا ويشعر الداخل بالترحاب . وأمرنا بالرجوع إذا لم
تسمح ظروف صاحب المسكن بالاستقبال. وحث تبارك وتعالى على عدم اقتحام البيوت
وتسورها. واوجب دخولها من أبوابها وبإذن أصحابها قال عز وجل:" وليس البر
بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا
الله لعلكم تفلحون"[18]
.
وإهتدت البشرية إلى إقرار هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموجب
المادة الثانية عشرة بقولها: " لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو
أسرته أو مسكنه...." وورد التأكيد على هذا الحق في المادة السابعة عشرة من
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إذ جاء فيها" لا يجوز إجراء أي
تعرض تحكمي لا قانوني لأي إنسان في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله...".
وكفلت قواعد الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة قال تعالى:" يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير."[19]
ونجم عن تطبيق هذا النص زوال كل أشكال التمييز التي عرفها المجتمع الإنساني قبل
ظهور شريعة الإسلام، كالتمييز بين المرأة والرجل، والسيد والعبد، والوطني و
الأجنبي. وها هي الشريعة الإسلامية تجسد أرقى صور المساواة بين أفراد ينتمون
لمجتمعات مختلفة ولأصول عرقية متباينة. فساوت بين أبي بكر القرشي وبلال الحبشي
وصهيب الرومي وسلمان الفارسي. في حين عرفت الحضارة اليونانية أشكالا مختلفة
للتمييز بين الأفراد وكذلك الحضارة الرومانية وحضارات أخرى كثيرة.[20].
وتأكد مبدأ المساواة في المواثيق الدولية نظرا لأهميته فتم تثبيته في
المادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فجاء فيها:" كل الناس
سواسية أمام القانون". كما تكرس في المادة الثالثة من العهد الدولي للحقوق
المدنية والسياسية بقولها:" تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بتأمين حق
الرجل والمرأة المتساوي في التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية".
وطالما كان مصدر قواعد حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد بات من واجب كل مؤمن بكتاب الله الخضوع لهذه
القواعد والامتثال لهذه الأحكام باعتبارها واجبا دينيا ينجم عن مخالفته جزاء أخروي
فضلا عن الجزاء في الدنيا. لذلك ذهب البعض إلى القول أن أساس حقوق الإنسان في
الإسلام هي العقيدة.[21]
فحين يحترم الخليفة حقوق الرعية كحق الملكية، وحرية التنقل ،وحرمة المسكن،
وسائر الحقوق الأخرى المدنية والسياسية، فإنما يكون بعمله هذا قد امتثل إلى واجب
ديني وطبق قاعدة شرعية. وحين يتصدى القاضي لكل معتد على الحقوق المقررة والثابتة
بموجب نصوص شرعية، ويوقع الجزاء اللازم والعادل على كل متجاوز أو منتهك لها، فإنما
يكون بذلك قد امتثل هو الآخر لالتزام ديني. فكأنما كل مسؤول في الدولة الإسلامية
أيا كانت وظيفته مطالب بتطبيق النصوص الشرعية التي تكفل الحماية اللازمة لحقوق
الإنسان.
ومن المؤكد أن الحكم متى كان له الطابع الديني، وصدر عن إرادة المولى عز
وجل، كان أشد وقعا وأثرا على نفسية وضمير المعني بالامتثال إليه، أو المعني
بتطبيقه، سواء كان خليفة، أو واليا، أو قائد جيش، أو قائد شرطة وغيرهم. ومتى كان للقاعدة الدينية هذا
النفوذ المعنوي، فإنه لا خوف من حيث الأصل على دائرة حقوق الإنسان في النظام
الإسلامي، طالما التصقت بالجانب الديني بما ينبغي معه تطبيقها واحترامها، استجابة
لإرادة الله وامتثالا لشرعه.
ومن منطلق أن الشريعة الإسلامية لم تأت على حد قول الأستاذ عبد القادر
عوده:" ...لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنما جاءت
للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين على اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم
وتقاليدهم وتاريخهم. فهي شريعة كل أسرة وشريعة كل قبيلة وشريعة كل جماعة، وشريعة
كل دولة، هي الشريعة العالمية"[22]
. فإنه ينجم عن ذلك القول، أن حقوق الإنسان بالتبعية في الشريعة الإسلامية صار لها
الطابع العالمي، بحكم عالمية الدين الإسلامي، كونه الدين الذي ارتضاه المولى عز
وجل للبشرية جمعاء، وهو صالح لأن يحكم سلوك الأفراد والهيئات في زمن السلم والحرب،
وأن أحكامه صيغت بحيث لا يؤثر فيها مرور الزمن أو تعاقب الأجيال. ومن خصائص
الشريعة أنها كل متحد مترابط متناسق[23].
وأن أحكامها مرنة تساير مصالح الناس وتطورهم.[24]
وجدير بالإشارة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر المواثيق المتفرعة
عنه تواجه اليوم عقبات كثيرة أيديولوجية وحضارية وتقنية. فكثيرة هي الدول التي
تحفظت على الإعلان العالمي ولم تبد بشأنه موقفا رسميا. ودول كثيرة أيضا لم يصدر
عنها الموقف الرسمي بشأن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية إلى درجة أن بعض
الباحثين بدأ يثير إشكالية خصوصية الإعلان العالمي وليس عالميته[25].
كما أن منظمة اليونسكو ومن خلال مائدة مستديرة نظمت في أكسفورد من 11 إلى 19
نوفمبر 1965 أكدت تأثر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالتقاليد الغربية خاصة
المتبعة في أوروبا والولايات المتحدة[26]
.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر المواثيق الدولية الأخرى
المتفرعة عنه قد كرست للفرد جملة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية وغيرها، فقد كان لنظامنا الإسلامي السبق كل السبق في إقرار هذه الحقوق
والحريات.
فحين نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الحضارات القديمة
وكذلك الحضارات الملازمة لظهور التشريع الإسلامي غارقة في التمييز بين بني البشر. فميزت بين العبيد والأسياد، والوطنيين والأجانب،وذوي
النفوذ والأشخاص العاديين والرجال والنساء .وكانت هذه الحضارات كلها تبدي كراهية
للفرد الذي لا ينتمي إلى الجماعة وتعتبره معزولا عنها .ولم تمكنه حتى من حقه في
المطالبة القضائية.[27]..
إلى أن جاء الإسلام فقضى على كل مظاهر التمييز وساوى بين البشر جميعا.
من أجل ذلك ذهب مؤتمر القانون المقارن الذي عقد بمدينة لاهاي سنة 1937 إلى
اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع العام. وأنها قابلة للتطور وشرع
قائم بذاته وليس مأخوذا عن غيره[28].وأيا
كانت جهود البشر في وضع قواعد ومواثيق دولية تجسد ضمانات المحاكمة العادلة، فإنها
تظل من حيث مصدرها قواعد بشرية يمكن أن يلحقها النقص في جانب أو آخر. أو يمكن أن
يقع الاختلاف بشأنها بين أعضاء المجتمع الدولي وهذا ما حدث فعلا.
ففي فرنسا استقر المجلس الدستوري على تحديد معيار واسع للمحاكمة العادلة لا
يقتصر فقط على القواعد الدستورية، بل يمتد حتى لديباجة الدستور. فإذا تضمنت ديباجة
الدستور مسائل تتعلق بالحرية الشخصية وجب أخذها بعين الاعتبار، وفي المقام الأول
.ولا يجوز لتشريع قائم أن يخالفها.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد ثار الجدل أمام المحكمة الاتحادية
العليا بصدد مفهوم شرط الوسائل القانونية في المحاكمة العادلة. وانحصر الجدل
بالتحديد حول ما إذا كان الدستور يتضمن جميع ضمانات حقوق الإنسان، أم يقتصر على
جانب منها فقط. وحسمت المحكمة العليا الأمريكية الأمر معتنقة معيار إدماج معظم
الحقوق الواردة في الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان في نطاق الحماية الدستورية[29]..
و في مصر استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا أن مدلول المحاكمة العادلة
ينصرف إلى مجموعة الضمانات الأساسية التي تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة، يتفق بوجه
عام مع المقاييس المعاصرة، وما يصون كرامة الإنسان ويراعي حريته الشخصية، بما يوجب
ذلك من إحالته أمام محكمة مشكلة طبقا للقانون ويتبع أمامها إجراءات محددة.[30]
وبتقديرنا الخاص فإن معيار المحاكمة العادلة يقتضي تعددية القواعد
القانونية، من قواعد واردة في الدستور، وقواعد أخرى كثيرة ومتنوعة. فالقاعدة
الدستورية عادة تكشف عن الأصول والأحكام العامة، فتضمن حق الدفاع مثلا، وتؤسس
لقرينة البراءة، وتعترف للقضاء باستقلاله، وتلزمه بتسبيب أحكامه وبعلانية
الجلسات وتكرس مبدأ المساواة أمام القانون
وتكفل حق الطعن في الأحكام وغيرها من االضمانات. وتأتي قواعد القانون مؤكدة ومجسدة
لها كقانون الإجراءات الجزائية، أو قانون السلطة القضائية، أو قانون المحاماة
وهكذا.
إن مفهوم الحق في المحاكمة العادلة وما يتسم به من
حساسية وتعقيد يفرض إحاطة المتهم بكل الضمانات اللازمة لتمكينه من ممارسة هذا
الحق. وهذا المفهوم بدوره يفرض تعددية في القواعد. فلا يمكن لمنظومة دستورية
لوحدها، أو منظومة قانونية لوحدها ،أن تكرس كل ضمانات المحاكمة العادلة. بل إن
قواعد المحاكمة العادلة لها سند ومصدر خارجي تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وفصله العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتكرس في اتفاقيات إقليمية كثيرة
أمريكية وأوروبية وافريقية وعربية.
وبناءا على ذلك إذا وقع التصديق على هذا العهد الدولي أو الاتفاقية من قبل
الجهات المخولة داخل الدولة ألزمت السلطات المعنية وعلى رأسها القضاء بتطبيق جملة
الضمانات المكرسة في هذه المواثيق الدولية. وبالنتيجة فإن فكرة المحاكمة العادلة
لها مدلول واسع ، ولها مصادر داخلية وأخرى خارجية. وعلى ذلك كان معيارها هو كل ما
يضمن احترام الحرية الشخصية للمتهم وما يراعي كرامته وكيانه بما يوجب ذلك من
تمكينه من سائر الحقوق الفرعية الناتجة عن الحق العام في المحاكمة العادلة.
[1] الدكتور مأمون
سلامة، قانون الإجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض،الطبعة الثانية،
دار الفكر العربي،القاهرة،2005،ص7
[2] الدكتور أحمد فتحي سرور، الشرعية الدستورية وحقوق الإنسان في الإجراءات
الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993،ص 3
[3] الدكتور أحمد فتحي سرور، المرجع نفسه،ص 185.
[4] سورة البقرة الآية 30
[5] ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، الجزء الأول، دار الفكر ، بيروت ،
2005،ص 71.
[6] المرجع نفسه،ص 72
[7] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن، المجلد الأول ، دار الكتب العلمية، بيروت
، 1996،ص 189
[8] ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الأول، دار الفكر
للطباعة والنشر، بيروت، 1995،ص 288.
[9] سورة الإسراء الآية 70
[10] ابن كثير، الجزء الثالث، ص 1102.
[11] سورة الملك الآية 15.
[12] ابن كثير، الجزء الرابع،ص 1923.
[13] محمد الشوكاني، فتح القدير، الجزء الخامس، الطبعة الأولى، دار الكتب
العلمية، بيروت ، لبنان، 1994،ص 325.
[14] سورة الجمعة الآية 10.
[15] أقر الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان بأغلبية 48 دولة، وامتناع 8 دول ولم يكن هناك أي دولة معترضة عليه.
الدكتور أحمد أبو الوفا، الحماية الدولية لحقوق الإنسان ،الطبعة الأولى،
دار النهضة العربية، القاهرة، 2000،ص 25.
[16] سورة النور الآية 27.
[17] سورة النور الآية 28.
[18] سورة البقرة الآية 189.
[19] سورة الحجرات الآية 12.
[20] علي محمد صالح الدباس، علي عليان محمد
أبو زيد، حقوق الإنسان وحرياته، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن،
2005،ص.33.
[21] الدكتور السيد عبد الحميد فوده، حقوق الإنسان بين النظم القانونية والشريعة
الإسلامية، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة،2003،ص 15.
[22] عبد القادر عوده، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، الجزء
الأول، الطبعة السادسة، مؤسسة الرسالة، بيروت ، 1985،ص 16.
[23] الدكتور محمد عبد الغفار الشريف، التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، مجلة
الحقوق، مجلس النشر الجامعي، جامعة الكويت، السنة التاسعة عشر العدد الثاني،
يونيو، 1995،ص 281.
[24] ) الدكتور عبد الخالق النواوي، التشريع الجنائي في الشريعة الإسلامية
والقانون الوضعي ، منشورات المكتبة العصرية، بيروت 1973،ص 20.
[25] الدكتور قادري عبد
العزيز، حقوق الإنسان في القانون الدولي والعلاقات الدولية، دار هومة،
الجزائر،2002،ص 43.
وأيضا: Pierre Marie Dupuy, Droit International
Dalloz, Paris, 1998,P204
[26] الدكتور قادري عبد العزيز،المرجع نفسه، ص 44.
[27] الدكتور عبد المجيد محمد الحفناوي، الدكتور عكاشة محمد عبد العال، تاريخ
النظم القانونية والقانون الروماني، الدار الجامعية، القاهرة،1991،ص 162.وأيضا على
محمد صالح الدباس وعلى عليان محمد أبو زيد، المرجع السابق،ص 34
[28] ) المستشار محمد عارف مصطفى فهمي، الحدود والقصاص بين الشريعة والقانون،
الطبعة الثانية، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة،1979،ص2
[29] الدكتور محمد محمد مصباح القاضي، الحق في المحاكمة العادلة ، دار النهضة
العربية، القاهرة،2008،ص 55-56
[30] الدكتور محمد محمد مصباح القاضي، المرجع السابق ص 57 .
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب