نظرية الاستغلال
في القانون الوضعي في ضوء الشريعة
الإسلامية
بقلم
الشيخ المحامي الدكتور
مسلم اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في
الفلبين سابقاً
و مدير مكتب جامعة سانت كلمنتس
العالمية في حلب سورية
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات
أعمالنا .
من يهده الله فلا
مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
و أ شهد أ ن
محمداً عبدُه و رسولُه .
] يَاأَيها الذين آ مَنُوا
اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون [
] يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا
الله الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيباً [ .
]يَا أ يها الذين
آ منوا اتقوا الله و قولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ
يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ
فَوزاً عَظيماً [ .
أ ما بعد :
عرف الغبن منذ
زمن بعيد في كتابات و فقه أهل العلم ، بيد أن الاستغلال كمصطلح مستقل له شروطه و
احكامه فقد ظهر في العصور الحديثة الذي اعتمد في بعض أحكامه على الغبن بصورته
التقليدته و ابتكر أحكاماً أخرى نتيجة تصديه لمشاكل العصر و أفكاره الجديدة .
وقد جعلت
القوانين الوضعية الاستغلال نظرية فعلية لها شروطها و عناصرها و آثارها في تلك القوانين .
و لقيام الغبن
وفق نظرية الاستغلال شروط ثلاث هي :
1- أن يختل التعادل
بين الأداءات المتقابلة في العقد أو أن ينعدم هذا التعادل عند عدم وجود مقابل .
2- أن يكون هناك
استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون .
3- أن يكون هذا
الاستغلال هو الدافع إلى التعاقد .
الشرط
الأول – اختلال في التعادل بين الأداءات المتقابلة :
يأتي هذا العنصر وفق هذه النظرية في المقام الأول ، فهو أول ما يتجه إليه
البحث عند النظر في الغبن وفق نظرية الاستغلال ، لأنه ظاهر واضح و هو سهل الإثبات
، و يتحقق هذا الشرط كما تقول المادة 129/1 مدني مصري و 130 مدني سوري : ( إذا
كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من
فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الاخر ) .
كما أوردت المادة
214 موجبات و عقود لبناني إذا كان الغبن ( فاحشاً و شاذا عن العادة المألوفة ) .
و على هذا نرى أن
القانون السوري و المصري لم يشترطا في هذا الشرط إلا الغبن الفاحش .
أما القانون
اللبناني فقد وضع عليه شرطا آخر و هو أن يكون شاذا عن العادة ، و أعتقد أن القانون اللبناني قد أحسن عندما
وضع هذا الشرط ، فقد تكون القيمة المادية للشء أكبر من قيمته المحددة في العقد و
ربما يكون التفاوت بين القيمتين فادحاً و مع ذلك يظل مستساغاً بحكم العادات التي
تحكم العلاقات بين المتعاقدين ، فليس نادراً أن يبيع الوالد عقاراً لابنه بثمن لا
يتناسب مع قيمته ذلك أن العلاقة بين الأب و الابن لا تجعل الوالد يتوخى الاستغلال
في تعاقده مع ابنه منفعة مادية صرفة إذ الواقع أثبت أن الوالد يتساهل كثيرا مع فلذة
كبده في في المعاملات و غيرها ، وليس هذا مما يشذ عن المألوف – و فق القانون الوضعي طبعا – طالما أن التفاوت
بين الموجبات لم يكن شاذا عن العلاقات التي تتحكم بالمعاملات بين الطرفين في اوسط
الاجتماعي الذي يعيشان فيه .
و التعادل بين
الأداءت أو الموجبات وفق نظرية الاستغلال لا ينظر فيه إلى قيمة المادية للشئ فقط ،
و غنما يعتد أيضا بقيمته الشخصية أي بما يساويه في اعتبار النتعاقد ، فربما كان
هناك عقار يساوي مليون بيد أنه في نظر المشتري أو البائع يساوي أكثر من ذلك لما
يحوي هذا العقار على أشياء ذات طابع شخصي لدى المتعاقد فتصبح هذه القيمة الشخصية
هي أس الحقيقي لقيمة العقار و لتفاوت قيمته في العقد .
بيد أني أتساءل متى
كان تقديرنا للأشياء هو المقوم أو المحدد لسعر السلع أوليس قانون العرض و الطلب هو
المسعر للسلع و دخل لعواطفنا و ميولنا في تحديد أسعار الأشياء كقاعدة عامة ، إذا
ما أدخلنا القيمة الشخصية للشئ لتسعير الأشياء فإننا سنفتح باب الاستغلال على
مصراعيه و عوضا عن جعل نظرية الاستغلال مقاومة للاستغلال تصبح مشجعة وحامية له .
فربما وجد شخص لديه رغبة شديدة في شراء منزل ما بسبب قربه من عمله و أهله ، و
بالتالي فإنه سوف يوفر عليه كثيرا من الوقت و المال ، فسعره الشخصي عند هذا الشخص
يساوي أكثر من قيمته في السوق ، فهل يدخل في تقويم العقار هذه الأشياء الشخصية و
بالتالي يصبح مجموع هذه الأشياء سعر العقار ، أم أن الذي يحدد سعره موقعه في البلد
و مساحته و جودته و إلى غير ذلك من الأمور الهامة لسعر العقار .
أعتقد أن القانون
اللبناني قد أحسن عندما لم يأخذ بنظرية الاستغلال ( النظرية الشخصية للالتزامات
لأن واضع المادة 214 جمع بين المذهب المادي و الشخصي ، فاشترط الغبن بصفته الفاحشة
و الاستغلال ، و في إطار الغبن وفق نظرية الاستغلال ينظر إلى قيمة الشئ نظرة مادية
لا شخصية ، و عند استعراض خاصة الاستغلال يكون تقديرها أساس التحقق ما إذا كان
المغبون قد استغل فعلاً ، و كان استغلاله قد حصل بالشكل الذي حمله على القبول
بالقيمة المعينة في العقد .
و يدخل في نطاق
تقدير التصرف كل شرط يفرض على المتعاقد التزاماً ، حتى و لو لم يكن يقوم بمال ، و
على هذا الأساس تقوم المقارنة بين التزامات الطرفين في مجموعهما ، إذ تؤخذ بعين
الاعتبار الالتزامات المتعاقدين و الفائدة التي يحصل عليها المتعاقد بموجب العقد .
فلو أن شخصاً اشترى قطعة من الرض و التزم في العقد بعدم البناء عليها ، فالتزامه
هذا يدخل في التقدير عند تحديد المنفعة التي عادت عليه ، و مقارنتها بالثمن الذي
دفعه .
و يصح أن يقع
الاختلال بالمعنى الذي ذكرناه في جميع التصرفات و هو اكثر ما يكون في عقود
المعاوضات إذ أن هذا المجال هو الذي يظهر فيه بوضوح الاختلال في التعادل بين
الاداءات ، لأن العاقد في هذه العقود يعرف وقت العقد على وجه محدد مقدار ما يعطي و
مقدار ما سيأخذ ، كما أنه من الممكن أن يتحقق الاختلال في العقود الاحتمالية على
الرغم من انها تقوم أساساً على عنصر الاحتمال ،
احتمال الخسارة و الكسب ، إلا أن هذا لا يحول دون أن تكون مجالاً للغبن .
أما عقود التبرع
التي ينال فيها أحد المتعاقدين مقابلاً لما يعطيه و لا يقدم العاقد الاخر مقابلاً
لما يناله .
إن بعض التشريعات
و الفقه يريان أن عقد التبرع من نطاق الغبن وفق النظرية الشخصية ، لانعدام العنصر
المادي في التبرعات و هذا ما فعله القانون المصري ، وتبعه القانون السوري إذ وضع
المتشرع المصري نصاً خاصاً لعقود التبرع ، بيد أن لجنة مجلس الشيوخ حذفت هذا النص
بحجة أنه من قبيل التزيد ، ذلك أن نص المادة 129 شمل التبرعات أيضاً .
أما القانون
اللبناني : فقد ذهب فريق من شراحه إلى أن المتشرع اللبناني يقصر الاستغلال على
عقود المعاوضات بحجة أن المادة 213 موجبات و عقود اقتصرت على ذكر هذه العقود في
تعريفها للغبن بيد أنني أعتقد أن هذا التعريف تناول الغبن وفق النظرية المادية .
أما الاستغلال
فقد عالجه في المادة 214 وفقاً لما يقضي به منطق الفكرة ، إذ هو أشد وطأة في عقد
التبرع منه في عقد المعاوضة .
و هنا أطرح
السؤال التالي : هل يجب أن يكون هناك اختلال في الموجبات حتى يكون هناك عيب ، و في
عقد التبرع العاقد لا يأخذ مقابل ما يعطي أصلاً ؟ .
الحقيقة
أنه ينظر في هذه الحالة لتقدير العنصر المادي إلى مقدار التبرع بالنسبة إلى ثروة
المتصرف و العبرة في تقدير العنصر المادي على
النحو الذي ذكرناه بوقت إبرام التصرف ، و إذا سبق التصرف وعد بإبرامه كانت العبرة
في تقدير العنصر المادي وقت صدور الوعد ، وليس وقت انعقاد التصرف الموعود به حينما
يبدي الموعود له رغبته في إبرامه .
و مهما قيل فإن
هذا الرأي يبقى نظرياً لا يجد له سنداً في القانون اللبناني ، و لا حتى في
القانونين السوري و المصري ، بل كان من واجب المتشرع أن يقنن لعقود التبرع نصاً
صريحاً يجيز إبطال التبرعات تبعاً لظروف المتبرع و التبرع 0
و كثيراً ما
يتبرع الزوج لأولاده من زوجته الأولى بمعظم ماله بالبيع الصوري ، ثم يتزوج بثانية
و ربما ينجم عن هذا الزواج طفل أو أطفال و عندما يموت الأب لا يجد الطفل من تركة
أبيه شيئاً لأن الب قد تبرع بمعظم أو بكل أمواله لأولاده من الزوجة الأولى مما
ألحق بهذا الغلام الغبن الفاحش لذلك كان حل هذه المشكلة وفق انظرية الاستغلال أدعى
و أوجب و ذلك لخطورة عقود التبرع و كثرة وقوعها في مجتمعاتنا .
و مما تقدم نلاحظ
أن الغبن يقع في عقود المعاوضات ، و كذلك يقع في عقود التبرع ، فهل يقع أيضاً في
العقود الاحتمالية ؟
العقد الاحتمالي
أو عقد الغرر : هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد عند إبرامه
مقدار ما يأخذ أو مقدار ما يعطي لتوقف تحديد هذا المقدار على أمر مستقبلي غير محقق
الوقوع .
و هكذا فإن معرفة
ما يكسبه و ما يخسره أحد طرفي العقد غير معروف عند التعاقد ، بل هو أمر متوقف على
حادث مستقبلي قد يقع و قد لا يقع .
و لا شك في أن
عقد التأمين عقد احتمالي بالنسبة إلى طرفيه من الوجهة القانونية و إن لم يكن كذلك من
الوجهة الاقتصادية .
فكيف يكون الغبن
في العقود الاحتمالية ؟
يتبين ذلك من
خلال هذا المثال البسيط ، فلو قام شخص بالتامين على منزله من خطر الحريق و كان هذا
المنزل بعيداً كل البعد عن هذا الخطر ، بيد ان صاحبه لم يقم بعملية التأمين إلا
بناء على طلب دائن ارتهن المنزل ، و اشترطت شركة التأمين بالرغم من أن خطر الحريق
بعيد الوقوع بدفع أقساط مرتفعة . فاحتمال عدم تحقق الخطر هنا أرجح بكثير من احتمال
تحققه و بالتالي سوف تحقق شركة التامين ربحاً فاحشاً من وراء هذا التأمين غير
المتكافئ . فلا شك بأن الركن المادي و المعنوي في هذا المثال متحقق .
الركن المادي :
هو اختلال الموجبات بين طرفي العقد لصالح شركة التأمين .
أما الركن
المعنوي : فهو استغلال حالة المستأمن لاضطراره إلى عقد التأمين مهما كانت الظروف .
فما هو موقف
القوانين العربية ( اللبناني ، السوري ، المصري ) من العقود الاحتمالية ؟
عالج القانون
اللبناني هذا الموضوع بنص صريح عندما نص في المادة 221 في فقرته الأخيرة على أن
العقود الاحتمالية تكون قابلة للابطال بسبب الغبن ( و جاء في مجموعة الأعمال
التحضيرية القانون المصري أن العقود الاحتمالية ذاتها ، يجوز أن يطعن فيها على
أساس الغبن ، إذا أجمع فيه معنى الافراط ، و معنى استغلال حاجة المتعاقد أو طيشه ،
أو عدم خبرته أو ضعف إداكه ) .([1])
و هكذا يتضح أن
العقود الاحتمالية تخضع لدعوى الإبطال بسبب الغبن شريطة أن يقدر عدم التعادل بين
مقدار الربح و مقدار الخسارة ، لا وقت إبرام العقد بل عند انتهاء العقد ، و ذلك
لصعوبة معرفة ما يحصل عليه كل من الطرفين وقت إبرام العقد ، لأن هذا يتماشى مع
المنطق القائل برفع الظلم عن المغبون سواء أكان هذا الغبن عند إبرام العقد او
أثناء تنفيذه أو عند انتهائه .
(
الشرط الثاني ) : أن يكون هناك استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون :
يختلف نطاق الغبن وفق نظرية اللاستغلال من حيث حالات الضعف التي يستغل بها
المتعاقد المغبون من القانونين المصري و السوري إلى القانون اللبناني . لذلك سوف
نتعرض لهذا الشرط في القانون المصري و السوري أولا ، ثم نتعرض لهذا الشرط في
القانون اللبناني .
( أولاً) في القانون المصري و
السوري :
كما هو معلوم أن معظم نصوص القانون المدني
السوري مطابق لنصوص القانون المصري ، لأنه في الأصل مقتبس منه ، لذلك كان لابد من
البحث في القانونين لأنهما أصل واحد .
تنص المادة 129/1 مدني
مصري و المادة 130/1مدني سوري على ما يلي :
"…قد استغل فيه
طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً" وكان نص المادة 129 مدني مصري في المشروع
التمهيدي للتقنين المصري يشترط على أن يكون الطرف المغبون قد استغل حاجته ، أو
طيشه أو عدم إدراكه أو يكون قد تبين بوجه عام أن رضائه لم يصدر عن اختيار كاف .
ومما تقدم يتبين أن
واضعي هذا المشروع قد أرادوا التوسع في تقرير نواحي الضعف التي يصح أن تكون محل استغلال
في المتعاقد المغبون ، بيد أن لجنة من مجلس الشيوخ رأت ألا تصل إلى هذا الحد من
التوسع و أن تجعل النص قاصراً على استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح ، إمعاناً
في تضييق الدائرة التي يطبق فيها الاستغلال خشية من التحكم ورغبته في انضباط
التعامل و استقراره .
وهكذا فإن العنصر
النفسي في الاستغلال محصور في الطيش البين أو الهوى الجامح ، لأن الغبن لا يعتبر
سبباً قانونياً لإبطال العقد أو تعديله ما لم يكن مصحوباً بعوامل استغل بها أحد
المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً .
فإن ثبت أن العقد
المتفق عليه جرى بدافع الطيش الذي استغله الطرف الآخر فإنه يقتضي إيجاد التعادل
بين التزامات الطرفين،أما إذا كان المدعي كامل الأهلية حين إبرام العقد ، كان الفرق
بين الثمن الحقيقي و المسمى في العقد لا يشكل غبناً يؤدي إلى اختلال التوازن
الفاحش الذي أوجبه المتشرع في الاستغلال فإن ذلك يوجب رد الدعوى .
و يلاحظ أن نص المادة
129مدني مصري والمادة 130مدني سوري بوضعهما الحالي عجزاً عن مواجهة الحالات التي
يبرم فيها الشخص وهو مسلوب الإرادة، دون أن يكون ذلك راجعاً إلى طيش بيّن أو هوى
جامح، وقد عرض على القضاء حالات من هذا القبيل فلجأ إلى نظرية الاستهواء و التسلط
على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي ، بأن قضى بإبطال عقد البيع لفساد رضا
البائع كونه متقدماً في السن و مصاباً بأمراض مستعصية من شأنها أن تضعف إرادته
فيصير سهل الانقياد خصوصاً لأولاده المقيمين معه في المنزل .
وكان من واجب
المتشرعين المصري و السوري أن يواجها هذه المسألة بنص صريح يهتدي به القضاء لكثرة
وقوع مثل هذه المسائل في مجتمعنا بدلاً من الالتجاء إلى نظرية الاستهواء و التسلط
على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي .
هل تكفي الحالات التي
وردت في القانونين المصري والسوري لحماية الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية .
إن
المتشرعين السوري و المصري كما رأينا قد قصرا الغبن وفق النظرية الشخصية على الهوى
الجامج أو الطيش البين ، و استبعدا بصورة صريحة استغلال الحاجة و عدم الخبرة .
على الرغم ما لهاتين
الحالتين من أهمية كبيرة في مقاومة الاستغلال بحجة الحفاظ على استقرار المعاملات
لأنه في حال إقرارهما سيؤدي ذلك إلى إرباك المعاملات و عدم استقرارهما ، لذلك كان
من واجب المتشرعين أن يقرا الحاجة و عدم الخبرة بجانب الهوى الجامح و الطيش البيّن
لمقاومة الاستغلال و ذلك لعدم كفاية الطيش البيّن و الهوى الجامح لحماية الطرف
الضعيف في العلاقات التعاقدية .
و
هكذا و مما تقدم كان من واجب المتشرعين المصري و السوري أن يكونا أكثر شجاعة وأن
يقرا بجانب الهوى الجامح والطيش البيّن،عدم الخبرة أو الضيق أو الحاجة كما كان من
واجبهما أن يواجها حالة انعدام الإرادة على نحو بيّن .
ثانيا : في القانون اللبناني :
تصدى القانون اللبناني
لهذا العنصر في المادة/214/ موجبات وعقود فقال ما يلي :
{إذا كان المستفيد قد أراد استثمار ضيق
أو طيش أو عدم خبرة في المغبون} ، نلاحظ أن القانون اللبناني كان أوسع و أشجع من
القانون المصري والسوري بأن تصدى لعدم الخبرة في المغبون بيد أنه لم يورد الضيق أو
الحاجة مثله في ذلك مثل القانون السوري والمصري،وكان من الأجدر بحسب اعتقادي أن يتصدى
للضيق المغبون لكثرة تكرار هذه الحالة في المعاملات وقسوتها على الأشخاص المغبونين
.
و
سوف نتصدى الآن بالشرح إلى معنى الضيق ، ثم الطيش ثم عدم الخبرة .
1-
الضيق :
اختلف الفقه و القضاء
اللبنانيان في تفسير المقصود بالضيق بالمادة /214/موجبات وعقود ، فرأى البعض أنه
يقصد به العسر المالي الذي يؤثر في نفسية الشخص فيحمله على قبول التعاقد بشروط
مجحفة و بهذا المعنى قضت محكمة التمييز ، فقالت أن : { الضيق المقصود إنما هو
العسر الذي يحمل المرء على التعاقد مع شخص آخر بشروط مجحفة ، فإذا اضطر البائع لإجراء
العقد مع شخص آخر بشروط مجحفة اجتناباً لمطالبات أو ملحقات قد تنال من كرامته الشخصية أو من سمعته المالية ، فإنه يمكن
للمحكمة بما لها من حق التقدير وبالنظر لمركزه الاجتماعي وظروفه وحالته الصحية ، أنه
في وقت العقد بحالة الضيق التي عناها المشترع } .
ورأى فريق ثان بأن الضيق المقصود بالمادة
/214/هو الحاجة الماسة للمال والتي من شأنها أن تعرض للخطر حال الشخص الاقتصادية
بصورة فعلية،وفريق ثالث يرى أن الضيق هو انعدام الثروة أو فقدا الثقة المالية الذي
ينجم عنهما العوز الشديد لدى المتعاقد ، بحيث يتعذر عليه تأمين حاجاته الأساسية و العائلية
.
أعتقد أن رأي الفريق الأول والذي يدعمه
قرار محكمة التمييز سالف الذكر هو الأصوب و الأحوط حفاظاً على مصالح المتعاقدين
الواقعين تحت الضيق بإضافة إلى أن المتشرع اللبناني قد أورد لفظ الضيق ولم يصفه
بالشديد ومن الواجب علينا أن نطبق النص وفق مظاهره إلى أن يثبت تطيقه بدليل قوي
وذلك حفاظاً على مصلحة أفراد المجتمع.
2-الطيش:
بينت محكمة البداية
المدنية أن{الطيش الذي عنته المادة/214/موجبات يعتبر متوفراً إذا كان الشخص
المغبون لم ينتبه عن إهمال منه و عدم مبالاة ، إلى النتائج التي قد تتولد ضد
مصلحته عن العقود التي يجريها… وليس من الضرورة أن يكون الطيش حالته المعتادة،بل
يكفي ظهوره عند المتعاقد المقرون بالغبن}.
كذلك
قضت محكمة التمييز بأنه: إذا عللت محكمة الاستئناف قرارها القاضي بإبطال البيع
بسبب الغبن لوجود تفاوت شائع بين قيمة البيع وثمنه يتحقق معه العنصر المادي
للغبن،وأنه تبين لها أن البائع كان طائشاً و مبذراً و مقامرا ًو مرهقاً بالديون ، و
أن حالته هذه كانت معروفة من المشتري الذي
هو ابن بلدته وقريبه الذي استغل طيشه ، فإن هذا التعليل يكون كافياً للحكم بإبطال
البيع بسبب الغبن .
وبطبيعة
الحال لا تعتبر حالة الطيش متوفرة إذا كان الشخص قد أبرم العقد بعد عدة استشارات ،
فإذا قام بتلك الاستشارات،فليس له أن يسند إلى طيشه لإبطال تصرف ألحق به الغبن و لو
لم يتبع تلك الاستشارات،لأن الظروف تكشف عن أنه لم يقدم على التصرف بخفة و اندفاع .
3-عدم
الخبرة :
ويراد بعدم الخبرة عدم
توفر المعلومات اللازمة بالنسبة إلى العقد الذي تم إبرامه ، و إن عدم الخبرة يمكن أن يكون عاماً ، أو أن
يحصر في نواحي معينة ، معنى أن الشخص الذي تنقصه الخبرة في إحدى النواحي يمكن أن
تتوفر فيه الخبرة في غيرها .
و قد قضت محكمة الاستئناف بأن : {كبر سن البائع
المصاب بتصلب الأنسجة الدماغية مما يجعله ضعيف الشخصية و الإرادة ، إذا اقترن
بتغيبه عن بلدة مدة طويلة ، و بعدم إطلاعه مباشرةً على حالة عقاراته و تقدير
أوضاعها ، دليل على عدم خبرته بالنسبة للعقد الذي أقدم على توقيعه} .
و
قضت بأن زيادة التخمين عن الثمن المصرح به عشرة أضعاف تشكل الغبن الفاحش،كما أن
وجود البائع في المهجر يشكل قرينة على عدم معرفته قيمة العقارات وعدم خبرته بأثمان
الأراضي في لبنـان.
وهكذا
نلاحظ بأن القانون اللبناني كان أوسع من القانون المصري والسوري ،بيد أن هذا
التوسع أيضاً لا يشبع ولا يغني من جوع،فهناك حالات كثيرة بقيت بعيدة عن الحل،مثل
ضعف الإدراك حيث خلط القضاء اللبناني ما بين عدم الخبرة و ضغف الإدراك { كما في
حكم محكمة الاستئناف المدنية الشمال قرار رقم/17/في/20/شباط/1957/ المشار إليه
بمجموعة اجتهادات حاتم } و بهذا كان من واجب المتشرع اللبناني أن يضم ضعف الإدراك
إلى الحالات السابقة حتى يعالج حالات الغبن وفق
النظرية الشخصية معالجة حسنة نوعاً ما.
([1]) مجموعة
الأعمال التحضيرية ، ج2/191 .
في القانون الوضعي في ضوء الشريعة
الإسلامية
بقلم
الشيخ المحامي الدكتور
مسلم اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في
الفلبين سابقاً
و مدير مكتب جامعة سانت كلمنتس
العالمية في حلب سورية
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات
أعمالنا .
من يهده الله فلا
مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
و أ شهد أ ن
محمداً عبدُه و رسولُه .
] يَاأَيها الذين آ مَنُوا
اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون [
] يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا
الله الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيباً [ .
]يَا أ يها الذين
آ منوا اتقوا الله و قولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ
يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ
فَوزاً عَظيماً [ .
أ ما بعد :
عرف الغبن منذ
زمن بعيد في كتابات و فقه أهل العلم ، بيد أن الاستغلال كمصطلح مستقل له شروطه و
احكامه فقد ظهر في العصور الحديثة الذي اعتمد في بعض أحكامه على الغبن بصورته
التقليدته و ابتكر أحكاماً أخرى نتيجة تصديه لمشاكل العصر و أفكاره الجديدة .
وقد جعلت
القوانين الوضعية الاستغلال نظرية فعلية لها شروطها و عناصرها و آثارها في تلك القوانين .
و لقيام الغبن
وفق نظرية الاستغلال شروط ثلاث هي :
1- أن يختل التعادل
بين الأداءات المتقابلة في العقد أو أن ينعدم هذا التعادل عند عدم وجود مقابل .
2- أن يكون هناك
استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون .
3- أن يكون هذا
الاستغلال هو الدافع إلى التعاقد .
الشرط
الأول – اختلال في التعادل بين الأداءات المتقابلة :
يأتي هذا العنصر وفق هذه النظرية في المقام الأول ، فهو أول ما يتجه إليه
البحث عند النظر في الغبن وفق نظرية الاستغلال ، لأنه ظاهر واضح و هو سهل الإثبات
، و يتحقق هذا الشرط كما تقول المادة 129/1 مدني مصري و 130 مدني سوري : ( إذا
كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من
فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الاخر ) .
كما أوردت المادة
214 موجبات و عقود لبناني إذا كان الغبن ( فاحشاً و شاذا عن العادة المألوفة ) .
و على هذا نرى أن
القانون السوري و المصري لم يشترطا في هذا الشرط إلا الغبن الفاحش .
أما القانون
اللبناني فقد وضع عليه شرطا آخر و هو أن يكون شاذا عن العادة ، و أعتقد أن القانون اللبناني قد أحسن عندما
وضع هذا الشرط ، فقد تكون القيمة المادية للشء أكبر من قيمته المحددة في العقد و
ربما يكون التفاوت بين القيمتين فادحاً و مع ذلك يظل مستساغاً بحكم العادات التي
تحكم العلاقات بين المتعاقدين ، فليس نادراً أن يبيع الوالد عقاراً لابنه بثمن لا
يتناسب مع قيمته ذلك أن العلاقة بين الأب و الابن لا تجعل الوالد يتوخى الاستغلال
في تعاقده مع ابنه منفعة مادية صرفة إذ الواقع أثبت أن الوالد يتساهل كثيرا مع فلذة
كبده في في المعاملات و غيرها ، وليس هذا مما يشذ عن المألوف – و فق القانون الوضعي طبعا – طالما أن التفاوت
بين الموجبات لم يكن شاذا عن العلاقات التي تتحكم بالمعاملات بين الطرفين في اوسط
الاجتماعي الذي يعيشان فيه .
و التعادل بين
الأداءت أو الموجبات وفق نظرية الاستغلال لا ينظر فيه إلى قيمة المادية للشئ فقط ،
و غنما يعتد أيضا بقيمته الشخصية أي بما يساويه في اعتبار النتعاقد ، فربما كان
هناك عقار يساوي مليون بيد أنه في نظر المشتري أو البائع يساوي أكثر من ذلك لما
يحوي هذا العقار على أشياء ذات طابع شخصي لدى المتعاقد فتصبح هذه القيمة الشخصية
هي أس الحقيقي لقيمة العقار و لتفاوت قيمته في العقد .
بيد أني أتساءل متى
كان تقديرنا للأشياء هو المقوم أو المحدد لسعر السلع أوليس قانون العرض و الطلب هو
المسعر للسلع و دخل لعواطفنا و ميولنا في تحديد أسعار الأشياء كقاعدة عامة ، إذا
ما أدخلنا القيمة الشخصية للشئ لتسعير الأشياء فإننا سنفتح باب الاستغلال على
مصراعيه و عوضا عن جعل نظرية الاستغلال مقاومة للاستغلال تصبح مشجعة وحامية له .
فربما وجد شخص لديه رغبة شديدة في شراء منزل ما بسبب قربه من عمله و أهله ، و
بالتالي فإنه سوف يوفر عليه كثيرا من الوقت و المال ، فسعره الشخصي عند هذا الشخص
يساوي أكثر من قيمته في السوق ، فهل يدخل في تقويم العقار هذه الأشياء الشخصية و
بالتالي يصبح مجموع هذه الأشياء سعر العقار ، أم أن الذي يحدد سعره موقعه في البلد
و مساحته و جودته و إلى غير ذلك من الأمور الهامة لسعر العقار .
أعتقد أن القانون
اللبناني قد أحسن عندما لم يأخذ بنظرية الاستغلال ( النظرية الشخصية للالتزامات
لأن واضع المادة 214 جمع بين المذهب المادي و الشخصي ، فاشترط الغبن بصفته الفاحشة
و الاستغلال ، و في إطار الغبن وفق نظرية الاستغلال ينظر إلى قيمة الشئ نظرة مادية
لا شخصية ، و عند استعراض خاصة الاستغلال يكون تقديرها أساس التحقق ما إذا كان
المغبون قد استغل فعلاً ، و كان استغلاله قد حصل بالشكل الذي حمله على القبول
بالقيمة المعينة في العقد .
و يدخل في نطاق
تقدير التصرف كل شرط يفرض على المتعاقد التزاماً ، حتى و لو لم يكن يقوم بمال ، و
على هذا الأساس تقوم المقارنة بين التزامات الطرفين في مجموعهما ، إذ تؤخذ بعين
الاعتبار الالتزامات المتعاقدين و الفائدة التي يحصل عليها المتعاقد بموجب العقد .
فلو أن شخصاً اشترى قطعة من الرض و التزم في العقد بعدم البناء عليها ، فالتزامه
هذا يدخل في التقدير عند تحديد المنفعة التي عادت عليه ، و مقارنتها بالثمن الذي
دفعه .
و يصح أن يقع
الاختلال بالمعنى الذي ذكرناه في جميع التصرفات و هو اكثر ما يكون في عقود
المعاوضات إذ أن هذا المجال هو الذي يظهر فيه بوضوح الاختلال في التعادل بين
الاداءات ، لأن العاقد في هذه العقود يعرف وقت العقد على وجه محدد مقدار ما يعطي و
مقدار ما سيأخذ ، كما أنه من الممكن أن يتحقق الاختلال في العقود الاحتمالية على
الرغم من انها تقوم أساساً على عنصر الاحتمال ،
احتمال الخسارة و الكسب ، إلا أن هذا لا يحول دون أن تكون مجالاً للغبن .
أما عقود التبرع
التي ينال فيها أحد المتعاقدين مقابلاً لما يعطيه و لا يقدم العاقد الاخر مقابلاً
لما يناله .
إن بعض التشريعات
و الفقه يريان أن عقد التبرع من نطاق الغبن وفق النظرية الشخصية ، لانعدام العنصر
المادي في التبرعات و هذا ما فعله القانون المصري ، وتبعه القانون السوري إذ وضع
المتشرع المصري نصاً خاصاً لعقود التبرع ، بيد أن لجنة مجلس الشيوخ حذفت هذا النص
بحجة أنه من قبيل التزيد ، ذلك أن نص المادة 129 شمل التبرعات أيضاً .
أما القانون
اللبناني : فقد ذهب فريق من شراحه إلى أن المتشرع اللبناني يقصر الاستغلال على
عقود المعاوضات بحجة أن المادة 213 موجبات و عقود اقتصرت على ذكر هذه العقود في
تعريفها للغبن بيد أنني أعتقد أن هذا التعريف تناول الغبن وفق النظرية المادية .
أما الاستغلال
فقد عالجه في المادة 214 وفقاً لما يقضي به منطق الفكرة ، إذ هو أشد وطأة في عقد
التبرع منه في عقد المعاوضة .
و هنا أطرح
السؤال التالي : هل يجب أن يكون هناك اختلال في الموجبات حتى يكون هناك عيب ، و في
عقد التبرع العاقد لا يأخذ مقابل ما يعطي أصلاً ؟ .
الحقيقة
أنه ينظر في هذه الحالة لتقدير العنصر المادي إلى مقدار التبرع بالنسبة إلى ثروة
المتصرف و العبرة في تقدير العنصر المادي على
النحو الذي ذكرناه بوقت إبرام التصرف ، و إذا سبق التصرف وعد بإبرامه كانت العبرة
في تقدير العنصر المادي وقت صدور الوعد ، وليس وقت انعقاد التصرف الموعود به حينما
يبدي الموعود له رغبته في إبرامه .
و مهما قيل فإن
هذا الرأي يبقى نظرياً لا يجد له سنداً في القانون اللبناني ، و لا حتى في
القانونين السوري و المصري ، بل كان من واجب المتشرع أن يقنن لعقود التبرع نصاً
صريحاً يجيز إبطال التبرعات تبعاً لظروف المتبرع و التبرع 0
و كثيراً ما
يتبرع الزوج لأولاده من زوجته الأولى بمعظم ماله بالبيع الصوري ، ثم يتزوج بثانية
و ربما ينجم عن هذا الزواج طفل أو أطفال و عندما يموت الأب لا يجد الطفل من تركة
أبيه شيئاً لأن الب قد تبرع بمعظم أو بكل أمواله لأولاده من الزوجة الأولى مما
ألحق بهذا الغلام الغبن الفاحش لذلك كان حل هذه المشكلة وفق انظرية الاستغلال أدعى
و أوجب و ذلك لخطورة عقود التبرع و كثرة وقوعها في مجتمعاتنا .
و مما تقدم نلاحظ
أن الغبن يقع في عقود المعاوضات ، و كذلك يقع في عقود التبرع ، فهل يقع أيضاً في
العقود الاحتمالية ؟
العقد الاحتمالي
أو عقد الغرر : هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد عند إبرامه
مقدار ما يأخذ أو مقدار ما يعطي لتوقف تحديد هذا المقدار على أمر مستقبلي غير محقق
الوقوع .
و هكذا فإن معرفة
ما يكسبه و ما يخسره أحد طرفي العقد غير معروف عند التعاقد ، بل هو أمر متوقف على
حادث مستقبلي قد يقع و قد لا يقع .
و لا شك في أن
عقد التأمين عقد احتمالي بالنسبة إلى طرفيه من الوجهة القانونية و إن لم يكن كذلك من
الوجهة الاقتصادية .
فكيف يكون الغبن
في العقود الاحتمالية ؟
يتبين ذلك من
خلال هذا المثال البسيط ، فلو قام شخص بالتامين على منزله من خطر الحريق و كان هذا
المنزل بعيداً كل البعد عن هذا الخطر ، بيد ان صاحبه لم يقم بعملية التأمين إلا
بناء على طلب دائن ارتهن المنزل ، و اشترطت شركة التأمين بالرغم من أن خطر الحريق
بعيد الوقوع بدفع أقساط مرتفعة . فاحتمال عدم تحقق الخطر هنا أرجح بكثير من احتمال
تحققه و بالتالي سوف تحقق شركة التامين ربحاً فاحشاً من وراء هذا التأمين غير
المتكافئ . فلا شك بأن الركن المادي و المعنوي في هذا المثال متحقق .
الركن المادي :
هو اختلال الموجبات بين طرفي العقد لصالح شركة التأمين .
أما الركن
المعنوي : فهو استغلال حالة المستأمن لاضطراره إلى عقد التأمين مهما كانت الظروف .
فما هو موقف
القوانين العربية ( اللبناني ، السوري ، المصري ) من العقود الاحتمالية ؟
عالج القانون
اللبناني هذا الموضوع بنص صريح عندما نص في المادة 221 في فقرته الأخيرة على أن
العقود الاحتمالية تكون قابلة للابطال بسبب الغبن ( و جاء في مجموعة الأعمال
التحضيرية القانون المصري أن العقود الاحتمالية ذاتها ، يجوز أن يطعن فيها على
أساس الغبن ، إذا أجمع فيه معنى الافراط ، و معنى استغلال حاجة المتعاقد أو طيشه ،
أو عدم خبرته أو ضعف إداكه ) .([1])
و هكذا يتضح أن
العقود الاحتمالية تخضع لدعوى الإبطال بسبب الغبن شريطة أن يقدر عدم التعادل بين
مقدار الربح و مقدار الخسارة ، لا وقت إبرام العقد بل عند انتهاء العقد ، و ذلك
لصعوبة معرفة ما يحصل عليه كل من الطرفين وقت إبرام العقد ، لأن هذا يتماشى مع
المنطق القائل برفع الظلم عن المغبون سواء أكان هذا الغبن عند إبرام العقد او
أثناء تنفيذه أو عند انتهائه .
(
الشرط الثاني ) : أن يكون هناك استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون :
يختلف نطاق الغبن وفق نظرية اللاستغلال من حيث حالات الضعف التي يستغل بها
المتعاقد المغبون من القانونين المصري و السوري إلى القانون اللبناني . لذلك سوف
نتعرض لهذا الشرط في القانون المصري و السوري أولا ، ثم نتعرض لهذا الشرط في
القانون اللبناني .
( أولاً) في القانون المصري و
السوري :
كما هو معلوم أن معظم نصوص القانون المدني
السوري مطابق لنصوص القانون المصري ، لأنه في الأصل مقتبس منه ، لذلك كان لابد من
البحث في القانونين لأنهما أصل واحد .
تنص المادة 129/1 مدني
مصري و المادة 130/1مدني سوري على ما يلي :
"…قد استغل فيه
طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً" وكان نص المادة 129 مدني مصري في المشروع
التمهيدي للتقنين المصري يشترط على أن يكون الطرف المغبون قد استغل حاجته ، أو
طيشه أو عدم إدراكه أو يكون قد تبين بوجه عام أن رضائه لم يصدر عن اختيار كاف .
ومما تقدم يتبين أن
واضعي هذا المشروع قد أرادوا التوسع في تقرير نواحي الضعف التي يصح أن تكون محل استغلال
في المتعاقد المغبون ، بيد أن لجنة من مجلس الشيوخ رأت ألا تصل إلى هذا الحد من
التوسع و أن تجعل النص قاصراً على استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح ، إمعاناً
في تضييق الدائرة التي يطبق فيها الاستغلال خشية من التحكم ورغبته في انضباط
التعامل و استقراره .
وهكذا فإن العنصر
النفسي في الاستغلال محصور في الطيش البين أو الهوى الجامح ، لأن الغبن لا يعتبر
سبباً قانونياً لإبطال العقد أو تعديله ما لم يكن مصحوباً بعوامل استغل بها أحد
المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً .
فإن ثبت أن العقد
المتفق عليه جرى بدافع الطيش الذي استغله الطرف الآخر فإنه يقتضي إيجاد التعادل
بين التزامات الطرفين،أما إذا كان المدعي كامل الأهلية حين إبرام العقد ، كان الفرق
بين الثمن الحقيقي و المسمى في العقد لا يشكل غبناً يؤدي إلى اختلال التوازن
الفاحش الذي أوجبه المتشرع في الاستغلال فإن ذلك يوجب رد الدعوى .
و يلاحظ أن نص المادة
129مدني مصري والمادة 130مدني سوري بوضعهما الحالي عجزاً عن مواجهة الحالات التي
يبرم فيها الشخص وهو مسلوب الإرادة، دون أن يكون ذلك راجعاً إلى طيش بيّن أو هوى
جامح، وقد عرض على القضاء حالات من هذا القبيل فلجأ إلى نظرية الاستهواء و التسلط
على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي ، بأن قضى بإبطال عقد البيع لفساد رضا
البائع كونه متقدماً في السن و مصاباً بأمراض مستعصية من شأنها أن تضعف إرادته
فيصير سهل الانقياد خصوصاً لأولاده المقيمين معه في المنزل .
وكان من واجب
المتشرعين المصري و السوري أن يواجها هذه المسألة بنص صريح يهتدي به القضاء لكثرة
وقوع مثل هذه المسائل في مجتمعنا بدلاً من الالتجاء إلى نظرية الاستهواء و التسلط
على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي .
هل تكفي الحالات التي
وردت في القانونين المصري والسوري لحماية الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية .
إن
المتشرعين السوري و المصري كما رأينا قد قصرا الغبن وفق النظرية الشخصية على الهوى
الجامج أو الطيش البين ، و استبعدا بصورة صريحة استغلال الحاجة و عدم الخبرة .
على الرغم ما لهاتين
الحالتين من أهمية كبيرة في مقاومة الاستغلال بحجة الحفاظ على استقرار المعاملات
لأنه في حال إقرارهما سيؤدي ذلك إلى إرباك المعاملات و عدم استقرارهما ، لذلك كان
من واجب المتشرعين أن يقرا الحاجة و عدم الخبرة بجانب الهوى الجامح و الطيش البيّن
لمقاومة الاستغلال و ذلك لعدم كفاية الطيش البيّن و الهوى الجامح لحماية الطرف
الضعيف في العلاقات التعاقدية .
و
هكذا و مما تقدم كان من واجب المتشرعين المصري و السوري أن يكونا أكثر شجاعة وأن
يقرا بجانب الهوى الجامح والطيش البيّن،عدم الخبرة أو الضيق أو الحاجة كما كان من
واجبهما أن يواجها حالة انعدام الإرادة على نحو بيّن .
ثانيا : في القانون اللبناني :
تصدى القانون اللبناني
لهذا العنصر في المادة/214/ موجبات وعقود فقال ما يلي :
{إذا كان المستفيد قد أراد استثمار ضيق
أو طيش أو عدم خبرة في المغبون} ، نلاحظ أن القانون اللبناني كان أوسع و أشجع من
القانون المصري والسوري بأن تصدى لعدم الخبرة في المغبون بيد أنه لم يورد الضيق أو
الحاجة مثله في ذلك مثل القانون السوري والمصري،وكان من الأجدر بحسب اعتقادي أن يتصدى
للضيق المغبون لكثرة تكرار هذه الحالة في المعاملات وقسوتها على الأشخاص المغبونين
.
و
سوف نتصدى الآن بالشرح إلى معنى الضيق ، ثم الطيش ثم عدم الخبرة .
1-
الضيق :
اختلف الفقه و القضاء
اللبنانيان في تفسير المقصود بالضيق بالمادة /214/موجبات وعقود ، فرأى البعض أنه
يقصد به العسر المالي الذي يؤثر في نفسية الشخص فيحمله على قبول التعاقد بشروط
مجحفة و بهذا المعنى قضت محكمة التمييز ، فقالت أن : { الضيق المقصود إنما هو
العسر الذي يحمل المرء على التعاقد مع شخص آخر بشروط مجحفة ، فإذا اضطر البائع لإجراء
العقد مع شخص آخر بشروط مجحفة اجتناباً لمطالبات أو ملحقات قد تنال من كرامته الشخصية أو من سمعته المالية ، فإنه يمكن
للمحكمة بما لها من حق التقدير وبالنظر لمركزه الاجتماعي وظروفه وحالته الصحية ، أنه
في وقت العقد بحالة الضيق التي عناها المشترع } .
ورأى فريق ثان بأن الضيق المقصود بالمادة
/214/هو الحاجة الماسة للمال والتي من شأنها أن تعرض للخطر حال الشخص الاقتصادية
بصورة فعلية،وفريق ثالث يرى أن الضيق هو انعدام الثروة أو فقدا الثقة المالية الذي
ينجم عنهما العوز الشديد لدى المتعاقد ، بحيث يتعذر عليه تأمين حاجاته الأساسية و العائلية
.
أعتقد أن رأي الفريق الأول والذي يدعمه
قرار محكمة التمييز سالف الذكر هو الأصوب و الأحوط حفاظاً على مصالح المتعاقدين
الواقعين تحت الضيق بإضافة إلى أن المتشرع اللبناني قد أورد لفظ الضيق ولم يصفه
بالشديد ومن الواجب علينا أن نطبق النص وفق مظاهره إلى أن يثبت تطيقه بدليل قوي
وذلك حفاظاً على مصلحة أفراد المجتمع.
2-الطيش:
بينت محكمة البداية
المدنية أن{الطيش الذي عنته المادة/214/موجبات يعتبر متوفراً إذا كان الشخص
المغبون لم ينتبه عن إهمال منه و عدم مبالاة ، إلى النتائج التي قد تتولد ضد
مصلحته عن العقود التي يجريها… وليس من الضرورة أن يكون الطيش حالته المعتادة،بل
يكفي ظهوره عند المتعاقد المقرون بالغبن}.
كذلك
قضت محكمة التمييز بأنه: إذا عللت محكمة الاستئناف قرارها القاضي بإبطال البيع
بسبب الغبن لوجود تفاوت شائع بين قيمة البيع وثمنه يتحقق معه العنصر المادي
للغبن،وأنه تبين لها أن البائع كان طائشاً و مبذراً و مقامرا ًو مرهقاً بالديون ، و
أن حالته هذه كانت معروفة من المشتري الذي
هو ابن بلدته وقريبه الذي استغل طيشه ، فإن هذا التعليل يكون كافياً للحكم بإبطال
البيع بسبب الغبن .
وبطبيعة
الحال لا تعتبر حالة الطيش متوفرة إذا كان الشخص قد أبرم العقد بعد عدة استشارات ،
فإذا قام بتلك الاستشارات،فليس له أن يسند إلى طيشه لإبطال تصرف ألحق به الغبن و لو
لم يتبع تلك الاستشارات،لأن الظروف تكشف عن أنه لم يقدم على التصرف بخفة و اندفاع .
3-عدم
الخبرة :
ويراد بعدم الخبرة عدم
توفر المعلومات اللازمة بالنسبة إلى العقد الذي تم إبرامه ، و إن عدم الخبرة يمكن أن يكون عاماً ، أو أن
يحصر في نواحي معينة ، معنى أن الشخص الذي تنقصه الخبرة في إحدى النواحي يمكن أن
تتوفر فيه الخبرة في غيرها .
و قد قضت محكمة الاستئناف بأن : {كبر سن البائع
المصاب بتصلب الأنسجة الدماغية مما يجعله ضعيف الشخصية و الإرادة ، إذا اقترن
بتغيبه عن بلدة مدة طويلة ، و بعدم إطلاعه مباشرةً على حالة عقاراته و تقدير
أوضاعها ، دليل على عدم خبرته بالنسبة للعقد الذي أقدم على توقيعه} .
و
قضت بأن زيادة التخمين عن الثمن المصرح به عشرة أضعاف تشكل الغبن الفاحش،كما أن
وجود البائع في المهجر يشكل قرينة على عدم معرفته قيمة العقارات وعدم خبرته بأثمان
الأراضي في لبنـان.
وهكذا
نلاحظ بأن القانون اللبناني كان أوسع من القانون المصري والسوري ،بيد أن هذا
التوسع أيضاً لا يشبع ولا يغني من جوع،فهناك حالات كثيرة بقيت بعيدة عن الحل،مثل
ضعف الإدراك حيث خلط القضاء اللبناني ما بين عدم الخبرة و ضغف الإدراك { كما في
حكم محكمة الاستئناف المدنية الشمال قرار رقم/17/في/20/شباط/1957/ المشار إليه
بمجموعة اجتهادات حاتم } و بهذا كان من واجب المتشرع اللبناني أن يضم ضعف الإدراك
إلى الحالات السابقة حتى يعالج حالات الغبن وفق
النظرية الشخصية معالجة حسنة نوعاً ما.
([1]) مجموعة
الأعمال التحضيرية ، ج2/191 .
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب