نسبية
الحقيقة
في
الفكر الليبرالي
تأليف
ياسر
بن عبدالله بن عبدالعزيز السليّم
مؤسسة
نور الإسلام
www.islamlight.net
P
الحمد
لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن
كلَّ دينٍ صحيح ؛ جاء مرشداً للإنسان ، وهادياً له إلى طريقِ الحق ، ومكمِّلاً لما
فيه من النقائص التي تعتريه ، فهو مخلوقٌ إن تجرد عن الإيمان بالله والانقياد
لأوامره واجتناب نواهيه ؛ كان في أسفل سافلين ، فهو - بلا إيمانٍ وطاعة - يعيش
طبيعةً بائسة : } لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ
أَسْفَلَ
سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... { (1) .
وإن
من أكبر الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان : استجابته لعدوه الشيطان ، ليبدأ معه
رحلةَ التحريف والضَّياع ، وينساقَ خلف رَكْبِ الأهواءِ والرَّغبات ، فيُقدِّمها
على نصُوصِ الشرع المُطهَّر ، ودلالاته الواضحة ، وحقائقه النيِّرة ، ليفقد
الإنسانُ تلك المعايير التي بها يَعرف الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والهدى
من الضلال .
ومن
هنا يَكثر التخبُّط والزيغ ، وينقاد الفكر تبعاً للأهواء ، وتَخضع العقيدة تحت
لواءِ العقل الإنساني ، الذي إن ابتعد عن نور الوحي وآثار النبوة ؛ وقف حائراً
أمام الحقائقِ والأسرار والمعارف ، وعاش فوضىً حياتية بعيدة كل البعد عن العبوديةِ
الخالصةِ المتجرِّدة لله تعالى .
ومن
نتائج استجابة الإنسان للشيطان ؛ خرجت لنا تلك المذاهبُ المنحرفة ، والأفكارُ
المخدوعة ، التي تعتمد - اعتماداً كلياً - على النظرةِ النقديةِ الفلسفيةِ لكلِّ
ثابت ، وتتقنَّع بمبدأ الحريَّةِ والانفتِاح ، وتركضُ خلف العدو الكافر بدعوى
التطور والتقدم . ومن تلك المذاهب : ( الليبرالية ) (2) .
والليبرالية
تفيضُ بالمبادئ والأفكار المتناقضة التي لجأ إليها أربابُ هذا الفكر ؛ لأجل
الهروبِ من قيود الاستعباد المزعوم ، حتى أظهروا أقوالاً عجيبة ، وقواعدَ مضطربة ،
تجعل الإنسانَ يعيش في حَيرةٍ وشك ، يصير معها الحقُّ باطلاً ، والباطلُ حقاً ،
وتتلاشى معها المبادئُ والقيم ، وينقطع بها عن مصادر التلقي في الدين الحق ، فيعيش
في جهلٍ وانحراف .
ومن
تلك المبادئ قولهم بـ( نسبية الحقيقة ) ، وهو ما سيأتي تفصيله وبيانه ،
وتحليله وتشخيصه ، ونقده وتقويمه ، سائلاً الله أن يمدني بالعون والسداد ، وأن
يشكر سعي من كان خلف هذا البحث ، إشرافاً وتوجيهاً ، ودلالةً وعوناً ، اللهم آمين
.
تعريف
الليبرالية
لم يتفق صنَّاع الليبرالية والمنظِّرين لها على تعريفٍ يُحدد معناها
بوضُوح ، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ " الحرية المطلقة " ، يقول دونالد
سترومبرج : « إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض،
وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام » (3) .
و
« الليبرالية فكرةٌ ليست من صنع عَقلٍ بشري واحد
، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة ، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن
استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية ، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ
أو ثابت ، إلا ثابت عدم الثَّبات » (4) .
والليبرالية هي - في الأصل - مصطلحٌ أجنبيٌّ مُعرَّب ، مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية ، و (Liberalisme) في الفرنسية ، وهي تعني : (التحررية) ، ويعود
اشتقاقها إلى (Liberty) في الإنجليزية ، و (Liberte) في الفرنسية ، ومعناها الحرية (5) .
تقول الموسوعة البريطانية : « وحيث إن كلمة Liberty (الحرية) هي كلمةٌ يكتنفها الغموض فكذلك هو
الحال مع كلمة (ليبرالي) » .
وقد جاء في موسوعة ( لالاند ) الفلسفية تعريف الليبرالية بأنها : « الانفلات
المطلق بالترفع فوق كل طبيعة » .
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: « الاستقلال عن العلل
الخارجية ، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية
النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية) » .
وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها : « الحرية الحقة في
أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا » .
وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها : « غياب العوائق الخارجية التي تحد من
قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء » (6) .
وعرفها المفكر (برنيس) بأنها : « الاستقلال الناتج عن غياب الإكراه ،
سواء كان ببواعث مادية خارجية ، أو بواعث داخلية أخلاقية ، والناتج أيضاً عن قوة
إعمال العقل » .
وجاءَ في موسوعة (ويكيبيديا) الإلكترونية وصفُ الليبراليةِ بأنها : «
حركة وعي اجتماعي وسياسي داخل المجتمع ، تهدف لتحرير الإنسان فرداً وجماعة من
القيود الأربعة (السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية) ... وتعترض الليبرالية
على تدخل الدين في الأمور الشخصية بشكل عام ، وهي بهذا مقاربة للعلمانية بشكل كبير
» (7) .
وفي (موسوعة المورد العربية) عُرِّفتْ الليبراليةُ بأنها : « معارضة
المؤسسات السياسية والدينية التي تحدد من الحرية الفردية ، وهي تطالب بحق الفرد في
حرية التعبير وتكافؤ الفرص » ( .
وجاء في (الموسوعة الميسرة) بأنَّ الليبرالية هي : « مذهب رأسمالي
ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي » (9) .
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تتفق على أنها انكفاءٌ على النفس مع
انفتاحٌ على الهوى ؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه ، ولا أسيراً إلا
لهواه ، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: « الليبرالية هي الانفلات
المطلق » .
وكذا
فإن لليبرالية جوهرٌ أساسي يتفق عليه جميعُ الليبراليين في كافةِ العصُور مع
اختلافِ توجُّهَاتهم وكيفيةِ تطبيقها كوَسيلةٍ من وسَائلِ الإصلاح والإنتاج ، هذا
الجوهرُ هو : « أن الليبرالية تعتبر الحرية
المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة
الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق
عليه » (10) .
فالليبراليةُ
تدعو إلى الحريةِ المطلقة التي لا تعترفُ بدينٍ ولا شرعٍ ولا نصٍ مُقدَّس ولا
عادَاتٍ ولا تقاليد ، وتجرُّ الإنسانَ كي ينصاعَ إلى الهوى والشهوة ، وتجعله
قائماً على الحظوظِ الشخصيَّة ونبذ الأصول المتينة ، والقواعدِ الرَّصينة ، التي
منها انطلق سلفُ هذه الأمة في فهمِ الدين وعبادةِ رب العالمين .
نسبية الحقيقة
أولاً / تعريف " نسبية الحقيقة " :
النسبيةُ - بشكلٍ عام - هي مبدأ فلسفي يرى أنَّ كلَّ وجهاتِ النظر
صحيحةٌ شرعيةٌ متساوية ، وأن كل الحقائق نسبيةً إلى الفرد . وهذا يعني أن كلَّ
الأوضاعِ الأخلاقية ، والأنظمةِ الدينية ، والأشكال الأدبية ، والحركاتِ السياسية ؛
حقائقٌ نسبية للفرد .
« وفي النسبية مقياس السلوك هو ذواتنا، فما هو الحق والعدل في عين
شخص ربما لا يكون حقاً وعدلاً في عين شخص آخر. ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه هو على
الحق والصواب أو الحقيقة المطلقة » (11).
يقول أحد الكتَّاب : « كيف لنا أن نقرر حقيقة الحقيقة، أهي
مطلقة أم نسبية؟ سؤال حيرني كثيراً وأضحى يشغل تفكيري نهاراً وليلاً، هل يمكن أن
نقود الحقيقة في مسارها؟ أو ليست الحقيقة أيدولويجية يتم تيسيرها برغبة ما نحو صفة
وحراك وخطاب معين؟! . لو كانت الحقيقة متمثلة في كائن لبحثت عن مكنوناتها وأوصافها
وشموليتها.
لو
كانت الحقيقة كيانا ملموسا لصعب أيدلجته وتحويره وتسييسه، لكنها مدلولات تخيلية
تتسم بالمراوغة وكل ما هو غير حقيقي. أهي وعي حر متمرد على قيوده؟! أسئلة كثيرة
هبت هي وغيرها فجأة لتعلن انتماءها إلى مستودع مكنون من الأسرار والمعطيات، منجم
يستوعب المقدس، ويحتضن الملكية، وينادي بمحاكمة الخطيئة »
(12) .
فيُقال: إنَّ الحق الذي يدعيه (زيد) من الناس شيءٌ غيرَ الحق الذي
يدّعيه (عمرو) ، فأيهما أحقّ بالحق؟! وأيهما أولى بالاتباع ؟! وأيّهما الذي يملك
الحقيقةَ المطلقة ، فيملك معها تخطئةَ غيره ، والقطعَ بضَلال مذهبه ؟! .
وهذه التساؤلات ونحوها أثارها الفلاسفةُ قديماً ، ونوقشت كثيراً في
كتبهم وملتقياتهم ، فطرقتْ أسماع الناس مقولة: (الحقيقة المطلقة لا يطالها أحد) ،
أو (لا أحد يحتكر الحق والصواب) ، أو (ليس ثمةَ إلا الحقيقةُ النسبية) ، أو (الحق
المطلق لا يملكه أحد) ، وغيرِها من العبارات المشابهة .. « وفحواها : أنه لا أحد يمكنه
القطع بأن معتقده هو الحق ، وأن معتقدَ غيره خطأٌ قطعاً ، وأقصى ما يمكنه الجزم به
أن رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ ، وأن رأي غيره خطأ يحتمل الصواب ، وهو ما يُسمى بنسبية الحقيقة
» (13) .
فنسبيةُ الحقيقة تقتضي أنْ « ليس هناك أحد يقول أن منهجي وطريقي هو
المنهج الصحيح الوحيد ، لذا يجب أن لا نقهر أحداً على قبول منهج ما أو طريقة معينة
» (14) .
يقول الأستاذ بسطامي سعيد حول " نسبية الحقيقة " وبيانِ
ملامحها : « هل حقائق الدين نسبية؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض
النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها ، قالت العصرانية : "ولكن إدراك حقائق الدين
مسألة نسبية ، فليس هناك صواب مطلق ، وإن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها
باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري". والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم
دليلاً أو حجة ، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية ،
وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته ، وبحسب
اهتماماته والزاوية التي ينظر منها .
وقضية النسبية (Relativism) في الحق (truith) أو في الأخلاق (ethich) قضية فلسفية ، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن
عرف الإنسان الفلسفة ، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء ،
والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث ، وهل استطاعت الفلسفة
يوماً ما أن تحل لغزاً ؟! .
وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية ؟ إذا كان المقصود أن
معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل ، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً
شاملاً ، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر
من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض .
وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة ، وكل ما عنده من
حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها ، فأول ما يواجه هذا
القول من نقد أن يُسأل : ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على
صدقه وأثبتت أنه حقيقة ، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها ، وهو
اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته ، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي
أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به ، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة
نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم
وظروفهم وعصورهم ؟!
الأهم من ذلك أن يُسأل : هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين ،
أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له ، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه ، بل
هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق" ، لا تقوم على منهج علمي محدد ،
أو معايير منضبطة ؟! .
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء : النصوص الموحاة ، ومعاني هذه
النصوص ، والاستنباط منها ، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط ،
فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص ، ومنهج لطريقة فهمها ، ومنهج للاستنباط منها ، وما
يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك .
قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص ، أو قد يحدث خطأً في الفهم ، أو يحدث
خطأ في الاستنباط ، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف
بالدليل والبرهان ، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية
يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة ، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية !
فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله » (15) .
ويقول الأستاذ غازي التوبة : « نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم
عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة ، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك
الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع ،
ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة » (16) .
ثانياً / منشأ القول بـ" نسبية الحقيقة " :
هذا
القولُ أنشأه الفلاسفة السوفسطائيين (17) - وعلى رأسهم
الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل
الميلاد ؛ حيث كانت اليونان تغرق في بعضَ الأفكارِ المتباينة ، والمذاهبَ المتنوعة
؛ فلجؤا إلى هذا القَولِ في تأييدِ الآراءِ المتناقِضَة ؛ إما شكاً في الجميع ، أو
تخلصاً من جُهد طلب الحقيقة .
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « حُكي عن بعض السوفسطائية
أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات ، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في
نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى ، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده
المعتقد ، وجعل الحقائق تابعة للعقائد » (18) .
يقول الدكتور علي سامي النشار : « نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس
السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة : "إن الإنسان هو مقياس وجود ما
يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكَّاك بعد ، فطبقوها على
الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله ، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو
مستقرة ، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر » (19) .
وقد أظهر أفلاطون هذا المبدأ ، فقال : " تظهر الأشياء لي ، كما
توجد بالنسبة لي ، وتظهر الأشياء للآخرين ، كما توجد بالنسبة لهم " فالنسبية
تقرر أنه لا يوجد هناك حقيقةٌ مطلقة ، فما أعتقده فهو حقيقة بالنسبةِ لي ، وما تعتقده
هو الحقيقةِ بالنسبةِ لك ، فليس هناك خطأ .
يقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين : « وكانت هذه الجماعة تنكر
وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية » (20) .
« لقد عبَّر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه :
"عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله :
"إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة
تكمن الثَّورةُ الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر.
إنها تعني بالنسبة لنظريةِ المعرفة أنَّ الإنسانَ الفرد هو مقياسُ أو
معيار الوجود ، فإن قال عن شيءٍ إنه موجود فهو موجود بالنسبة له ، وإن قال عن شيء
إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً ، فالمعرفة هنا نسبية ، أي تختلفُ
من شخصٍ إلى آخرٍ بحسب ما يقع في خبرةِ الإنسان الفرد الحسيَّة ، فما أراه بحواسي
فقط يكون هو الموجودُ بالنسبة لي ، وما تراه أنتَ بحواسِّكَ يكون هو الموجود
بالنسبة لك، وهكذا .. » (21) .
الحقيقة
في
الفكر الليبرالي
تأليف
ياسر
بن عبدالله بن عبدالعزيز السليّم
مؤسسة
نور الإسلام
www.islamlight.net
P
الحمد
لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن
كلَّ دينٍ صحيح ؛ جاء مرشداً للإنسان ، وهادياً له إلى طريقِ الحق ، ومكمِّلاً لما
فيه من النقائص التي تعتريه ، فهو مخلوقٌ إن تجرد عن الإيمان بالله والانقياد
لأوامره واجتناب نواهيه ؛ كان في أسفل سافلين ، فهو - بلا إيمانٍ وطاعة - يعيش
طبيعةً بائسة : } لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ
أَسْفَلَ
سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... { (1) .
وإن
من أكبر الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان : استجابته لعدوه الشيطان ، ليبدأ معه
رحلةَ التحريف والضَّياع ، وينساقَ خلف رَكْبِ الأهواءِ والرَّغبات ، فيُقدِّمها
على نصُوصِ الشرع المُطهَّر ، ودلالاته الواضحة ، وحقائقه النيِّرة ، ليفقد
الإنسانُ تلك المعايير التي بها يَعرف الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والهدى
من الضلال .
ومن
هنا يَكثر التخبُّط والزيغ ، وينقاد الفكر تبعاً للأهواء ، وتَخضع العقيدة تحت
لواءِ العقل الإنساني ، الذي إن ابتعد عن نور الوحي وآثار النبوة ؛ وقف حائراً
أمام الحقائقِ والأسرار والمعارف ، وعاش فوضىً حياتية بعيدة كل البعد عن العبوديةِ
الخالصةِ المتجرِّدة لله تعالى .
ومن
نتائج استجابة الإنسان للشيطان ؛ خرجت لنا تلك المذاهبُ المنحرفة ، والأفكارُ
المخدوعة ، التي تعتمد - اعتماداً كلياً - على النظرةِ النقديةِ الفلسفيةِ لكلِّ
ثابت ، وتتقنَّع بمبدأ الحريَّةِ والانفتِاح ، وتركضُ خلف العدو الكافر بدعوى
التطور والتقدم . ومن تلك المذاهب : ( الليبرالية ) (2) .
والليبرالية
تفيضُ بالمبادئ والأفكار المتناقضة التي لجأ إليها أربابُ هذا الفكر ؛ لأجل
الهروبِ من قيود الاستعباد المزعوم ، حتى أظهروا أقوالاً عجيبة ، وقواعدَ مضطربة ،
تجعل الإنسانَ يعيش في حَيرةٍ وشك ، يصير معها الحقُّ باطلاً ، والباطلُ حقاً ،
وتتلاشى معها المبادئُ والقيم ، وينقطع بها عن مصادر التلقي في الدين الحق ، فيعيش
في جهلٍ وانحراف .
ومن
تلك المبادئ قولهم بـ( نسبية الحقيقة ) ، وهو ما سيأتي تفصيله وبيانه ،
وتحليله وتشخيصه ، ونقده وتقويمه ، سائلاً الله أن يمدني بالعون والسداد ، وأن
يشكر سعي من كان خلف هذا البحث ، إشرافاً وتوجيهاً ، ودلالةً وعوناً ، اللهم آمين
.
تعريف
الليبرالية
لم يتفق صنَّاع الليبرالية والمنظِّرين لها على تعريفٍ يُحدد معناها
بوضُوح ، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ " الحرية المطلقة " ، يقول دونالد
سترومبرج : « إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض،
وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام » (3) .
و
« الليبرالية فكرةٌ ليست من صنع عَقلٍ بشري واحد
، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة ، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن
استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية ، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ
أو ثابت ، إلا ثابت عدم الثَّبات » (4) .
والليبرالية هي - في الأصل - مصطلحٌ أجنبيٌّ مُعرَّب ، مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية ، و (Liberalisme) في الفرنسية ، وهي تعني : (التحررية) ، ويعود
اشتقاقها إلى (Liberty) في الإنجليزية ، و (Liberte) في الفرنسية ، ومعناها الحرية (5) .
تقول الموسوعة البريطانية : « وحيث إن كلمة Liberty (الحرية) هي كلمةٌ يكتنفها الغموض فكذلك هو
الحال مع كلمة (ليبرالي) » .
وقد جاء في موسوعة ( لالاند ) الفلسفية تعريف الليبرالية بأنها : « الانفلات
المطلق بالترفع فوق كل طبيعة » .
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: « الاستقلال عن العلل
الخارجية ، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية
النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية) » .
وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها : « الحرية الحقة في
أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا » .
وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها : « غياب العوائق الخارجية التي تحد من
قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء » (6) .
وعرفها المفكر (برنيس) بأنها : « الاستقلال الناتج عن غياب الإكراه ،
سواء كان ببواعث مادية خارجية ، أو بواعث داخلية أخلاقية ، والناتج أيضاً عن قوة
إعمال العقل » .
وجاءَ في موسوعة (ويكيبيديا) الإلكترونية وصفُ الليبراليةِ بأنها : «
حركة وعي اجتماعي وسياسي داخل المجتمع ، تهدف لتحرير الإنسان فرداً وجماعة من
القيود الأربعة (السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية) ... وتعترض الليبرالية
على تدخل الدين في الأمور الشخصية بشكل عام ، وهي بهذا مقاربة للعلمانية بشكل كبير
» (7) .
وفي (موسوعة المورد العربية) عُرِّفتْ الليبراليةُ بأنها : « معارضة
المؤسسات السياسية والدينية التي تحدد من الحرية الفردية ، وهي تطالب بحق الفرد في
حرية التعبير وتكافؤ الفرص » ( .
وجاء في (الموسوعة الميسرة) بأنَّ الليبرالية هي : « مذهب رأسمالي
ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي » (9) .
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تتفق على أنها انكفاءٌ على النفس مع
انفتاحٌ على الهوى ؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه ، ولا أسيراً إلا
لهواه ، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: « الليبرالية هي الانفلات
المطلق » .
وكذا
فإن لليبرالية جوهرٌ أساسي يتفق عليه جميعُ الليبراليين في كافةِ العصُور مع
اختلافِ توجُّهَاتهم وكيفيةِ تطبيقها كوَسيلةٍ من وسَائلِ الإصلاح والإنتاج ، هذا
الجوهرُ هو : « أن الليبرالية تعتبر الحرية
المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة
الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق
عليه » (10) .
فالليبراليةُ
تدعو إلى الحريةِ المطلقة التي لا تعترفُ بدينٍ ولا شرعٍ ولا نصٍ مُقدَّس ولا
عادَاتٍ ولا تقاليد ، وتجرُّ الإنسانَ كي ينصاعَ إلى الهوى والشهوة ، وتجعله
قائماً على الحظوظِ الشخصيَّة ونبذ الأصول المتينة ، والقواعدِ الرَّصينة ، التي
منها انطلق سلفُ هذه الأمة في فهمِ الدين وعبادةِ رب العالمين .
نسبية الحقيقة
أولاً / تعريف " نسبية الحقيقة " :
النسبيةُ - بشكلٍ عام - هي مبدأ فلسفي يرى أنَّ كلَّ وجهاتِ النظر
صحيحةٌ شرعيةٌ متساوية ، وأن كل الحقائق نسبيةً إلى الفرد . وهذا يعني أن كلَّ
الأوضاعِ الأخلاقية ، والأنظمةِ الدينية ، والأشكال الأدبية ، والحركاتِ السياسية ؛
حقائقٌ نسبية للفرد .
« وفي النسبية مقياس السلوك هو ذواتنا، فما هو الحق والعدل في عين
شخص ربما لا يكون حقاً وعدلاً في عين شخص آخر. ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه هو على
الحق والصواب أو الحقيقة المطلقة » (11).
يقول أحد الكتَّاب : « كيف لنا أن نقرر حقيقة الحقيقة، أهي
مطلقة أم نسبية؟ سؤال حيرني كثيراً وأضحى يشغل تفكيري نهاراً وليلاً، هل يمكن أن
نقود الحقيقة في مسارها؟ أو ليست الحقيقة أيدولويجية يتم تيسيرها برغبة ما نحو صفة
وحراك وخطاب معين؟! . لو كانت الحقيقة متمثلة في كائن لبحثت عن مكنوناتها وأوصافها
وشموليتها.
لو
كانت الحقيقة كيانا ملموسا لصعب أيدلجته وتحويره وتسييسه، لكنها مدلولات تخيلية
تتسم بالمراوغة وكل ما هو غير حقيقي. أهي وعي حر متمرد على قيوده؟! أسئلة كثيرة
هبت هي وغيرها فجأة لتعلن انتماءها إلى مستودع مكنون من الأسرار والمعطيات، منجم
يستوعب المقدس، ويحتضن الملكية، وينادي بمحاكمة الخطيئة »
(12) .
فيُقال: إنَّ الحق الذي يدعيه (زيد) من الناس شيءٌ غيرَ الحق الذي
يدّعيه (عمرو) ، فأيهما أحقّ بالحق؟! وأيهما أولى بالاتباع ؟! وأيّهما الذي يملك
الحقيقةَ المطلقة ، فيملك معها تخطئةَ غيره ، والقطعَ بضَلال مذهبه ؟! .
وهذه التساؤلات ونحوها أثارها الفلاسفةُ قديماً ، ونوقشت كثيراً في
كتبهم وملتقياتهم ، فطرقتْ أسماع الناس مقولة: (الحقيقة المطلقة لا يطالها أحد) ،
أو (لا أحد يحتكر الحق والصواب) ، أو (ليس ثمةَ إلا الحقيقةُ النسبية) ، أو (الحق
المطلق لا يملكه أحد) ، وغيرِها من العبارات المشابهة .. « وفحواها : أنه لا أحد يمكنه
القطع بأن معتقده هو الحق ، وأن معتقدَ غيره خطأٌ قطعاً ، وأقصى ما يمكنه الجزم به
أن رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ ، وأن رأي غيره خطأ يحتمل الصواب ، وهو ما يُسمى بنسبية الحقيقة
» (13) .
فنسبيةُ الحقيقة تقتضي أنْ « ليس هناك أحد يقول أن منهجي وطريقي هو
المنهج الصحيح الوحيد ، لذا يجب أن لا نقهر أحداً على قبول منهج ما أو طريقة معينة
» (14) .
يقول الأستاذ بسطامي سعيد حول " نسبية الحقيقة " وبيانِ
ملامحها : « هل حقائق الدين نسبية؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض
النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها ، قالت العصرانية : "ولكن إدراك حقائق الدين
مسألة نسبية ، فليس هناك صواب مطلق ، وإن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها
باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري". والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم
دليلاً أو حجة ، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية ،
وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته ، وبحسب
اهتماماته والزاوية التي ينظر منها .
وقضية النسبية (Relativism) في الحق (truith) أو في الأخلاق (ethich) قضية فلسفية ، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن
عرف الإنسان الفلسفة ، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء ،
والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث ، وهل استطاعت الفلسفة
يوماً ما أن تحل لغزاً ؟! .
وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية ؟ إذا كان المقصود أن
معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل ، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً
شاملاً ، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر
من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض .
وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة ، وكل ما عنده من
حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها ، فأول ما يواجه هذا
القول من نقد أن يُسأل : ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على
صدقه وأثبتت أنه حقيقة ، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها ، وهو
اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته ، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي
أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به ، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة
نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم
وظروفهم وعصورهم ؟!
الأهم من ذلك أن يُسأل : هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين ،
أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له ، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه ، بل
هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق" ، لا تقوم على منهج علمي محدد ،
أو معايير منضبطة ؟! .
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء : النصوص الموحاة ، ومعاني هذه
النصوص ، والاستنباط منها ، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط ،
فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص ، ومنهج لطريقة فهمها ، ومنهج للاستنباط منها ، وما
يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك .
قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص ، أو قد يحدث خطأً في الفهم ، أو يحدث
خطأ في الاستنباط ، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف
بالدليل والبرهان ، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية
يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة ، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية !
فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله » (15) .
ويقول الأستاذ غازي التوبة : « نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم
عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة ، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك
الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع ،
ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة » (16) .
ثانياً / منشأ القول بـ" نسبية الحقيقة " :
هذا
القولُ أنشأه الفلاسفة السوفسطائيين (17) - وعلى رأسهم
الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل
الميلاد ؛ حيث كانت اليونان تغرق في بعضَ الأفكارِ المتباينة ، والمذاهبَ المتنوعة
؛ فلجؤا إلى هذا القَولِ في تأييدِ الآراءِ المتناقِضَة ؛ إما شكاً في الجميع ، أو
تخلصاً من جُهد طلب الحقيقة .
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « حُكي عن بعض السوفسطائية
أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات ، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في
نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى ، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده
المعتقد ، وجعل الحقائق تابعة للعقائد » (18) .
يقول الدكتور علي سامي النشار : « نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس
السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة : "إن الإنسان هو مقياس وجود ما
يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكَّاك بعد ، فطبقوها على
الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله ، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو
مستقرة ، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر » (19) .
وقد أظهر أفلاطون هذا المبدأ ، فقال : " تظهر الأشياء لي ، كما
توجد بالنسبة لي ، وتظهر الأشياء للآخرين ، كما توجد بالنسبة لهم " فالنسبية
تقرر أنه لا يوجد هناك حقيقةٌ مطلقة ، فما أعتقده فهو حقيقة بالنسبةِ لي ، وما تعتقده
هو الحقيقةِ بالنسبةِ لك ، فليس هناك خطأ .
يقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين : « وكانت هذه الجماعة تنكر
وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية » (20) .
« لقد عبَّر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه :
"عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله :
"إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة
تكمن الثَّورةُ الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر.
إنها تعني بالنسبة لنظريةِ المعرفة أنَّ الإنسانَ الفرد هو مقياسُ أو
معيار الوجود ، فإن قال عن شيءٍ إنه موجود فهو موجود بالنسبة له ، وإن قال عن شيء
إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً ، فالمعرفة هنا نسبية ، أي تختلفُ
من شخصٍ إلى آخرٍ بحسب ما يقع في خبرةِ الإنسان الفرد الحسيَّة ، فما أراه بحواسي
فقط يكون هو الموجودُ بالنسبة لي ، وما تراه أنتَ بحواسِّكَ يكون هو الموجود
بالنسبة لك، وهكذا .. » (21) .
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب