حقـــــوق الإنســــــان .. الرؤيـــــا الجديـــــدة
د. منصــف المرزوقــــي
تقديـــــم : بهــى الديــن حســـن
تقديــــم
الرؤيــا الجديـــــدة … والجيـــل الجديـــــد
ينتمي منصف المرزوقي إلى ذلك الجيل
الوسيط من نشطاء حقوق الإنسان في العالم العربي الذين وقع عليهم عبء بناء حركة
حقوق الإنسان في الدول العربية وبلورة تقاليد مهنية لهذه الحركة وتحديد بوصلتها
وسط دوامات السياسة العربية العاتية المنبعثة من الحكومات وأحيانا بنفس الدرجة من
القوى والتيارات السياسية المعارضة. وذلك في ظروف استقطاب سياسي حاد وممتد. لأسباب
خارجية: الصراع العربي الإسرائيلـي. أو أسباب داخلية: المواجهة العنيفة مع التيار
الإسلامي الصاعد.
لقد حمل جيل الآباء عبء التبشير بالدعوة
لحقوق الإنسان. وجاءت الإرهاصة الأولى ردا عفويا على صدمة هزيمة يونيو1967ولكن
المبادرة سرعان ما دفنت تحت ضغوط" لا صوت يعلو على صوت المعركة".
ثم كانت الإرهاصة الثانية التي كتب لها
النجاح في عام 1968 في العام التالي لاجتياح إسرائيل للبنان، واحتلالها أول عاصمة
عربية.
كانت تلك المبادرة من جيل الآباء في
حركة حقوق الإنسان هي في جوهرها تعبير رمزي عن الإدراك المتزايد في الشارع العربي،
بأن قبول التضحية بالديمقراطية مقابل التحرر الوطني والعدل الإجماعي قد أدى في
نهاية المطاف إلى إهدار كل القيم الذي زعم الدفاع عنها، وصولا الى توسيع نطاق
الاحتلال الصهيوني لفلسطين ليشمل أقسام هامة من ثلاثة دول عربية وإذلال الجميع،
وصدمة هائلة هزت الوجدان العربي الذي كانت تبشره دقات طبول الأغاني بأنه على أعتاب
تل أبيب.
غير أن التبشير بحقوق الإنسان لم يكن
يكفي بذاته لبناء حركة لحقوق الانسان، إن ذلك كان يحتاج مفردات خطاب حركي ومفاهيمي
جديد، يكون قادرا على وضع التخوم الهيكلية بين الحركة الوليدة والحركات السياسية
الأخرى، وبين خطابها والخطاب السياسي للحكومات وأيضا لقوى المعارضة العربية التي
بدأت في توظيف مفردات خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في معركتها من أجل الحصول
على موقع قدم على الخريطة السياسية والحكم .
كان ذلك يتطلب جيلا أكثر تحررا من
الخطاب السياسي العربي التقليدى السائد لعدة عقود، وأكثر إدراكا للحاجة الجذرية
للتغيير، وأكثر استعدادا للتحلي بنظرة نقدية تستمد مرجعيتها من مبادئ حقوق الإنسان
المعترف بها عالميا بصرف النظر عن أية خلفية سياسية خاصة .
وكانت هذه هي مهمة الجيل الوسيط الذي يعتبر
منصف المرزوقي من أبرز رموزه في العلم العربي، ولد في هذا الجيل في أعقاب نهاية
الحرب العالمية الثانية، ووضع في طفولته الحلم القومي العربي الكبير مع تأميم قناة
السويس والعدوان الثلاثي 1956وشب عليه مترقبا اللحظة التي ينتقل فيها الى الحياة
العملية ليشارك في تشييد الحلم على أرض
الواقع، غير أنه قبل أن يخرج الى الحياة العملية، كانت قد داهمته كارثة يونيـو
1956 لتطرح كل المسلمات على بساط البحث، ولتوارب الباب أمام قسم من هذا الجيل
للالتحاق بحركة التمرد الماركسي التي قدمت نفسها بديلا عن الفكرة القومية، أو طرحت
مركبا جديدا قوميا/ماركسيا – بنسب متفاوتة، معادلات مختلفة- بأفكار جديدة، وجسد
ذلك كله في انتفاضة الخبز وفي الحكة الطلابية التي اجتاحت العالم العربي في العام
التالي لهزيمة يونيـو 57. وخلال انخراط ذلك الجيل في الحركات الجماهيرية المختلفة
أو التنظيمات العلنية والسرية والمسلحة (الفلسطينية) متنوعة الرايات، كانت تجرى
عملية تاريخية لاختبار مختلف ألوان طيف المذاهب السياسية.
لقد بدأ الجيل الوسيط حياته العملية في
لحظة تاريخية تتسم بالسيولة الشديدة الفكرية والسياسية وعدم اليقين، كانت الفأس
معلقة على رقاب كل الأصنام المعبودة دون استثناء، كما اتسمت هذه اللحظة بانفتاح لم
يسبق له مثيل على العالم الخارجي، الذي كان يمر أيضا بعملية تاريخية أكثر عمقا
لتحطيم أصنام كثيرة، بداية من ربيع براج 1968 إلي الحركة الطلابية الفوارة التي
اجتاحت أمريكا وكندا وأوروبا والصين، وعدد من بلدان العالم الثالث في في العام
وحركة الحقوق المدنية في أمريكا مرورا بالشيوعية الأوروبية ومحاولة دمقرطة
الشيوعية في منتصف السبعينات وصولا إلى انتفاضة الحركة العمالية" تضامن"
على الشيوعية في بولندا في أوائل الثمانينات.
لقد لعبت تلك العوامل المحلية الدولية
درا حيويا في إعادة تشكيل رؤية الجيل الوسيط للعالم من حوله، وللهدف الذي تطلع
إليه – أي الحرية والعدل الاجتماعي – منذ أن تفتحت عيونه على الدنيا، دون أن يكون
مضطرا إلى أن يحمل على ظهره بقايا الأصنام المحطمة .
و انعكس ذلك في الإدراك المتزايد
للترابط العميق بين تحقيق هذه الأهداف و ضرورة أن يتاح للإنسان مناخ يساعده على
ازدهار طاقته الإبداعية المتعددة، و لضرورة التمييز بين الوسائل و الأهداف، و بين
شعارات التيارات السياسية المختلفة – حاكمة و معارضة – و سلوكها العملي على الارض،
و في الابتعاد المتزايد عن إضفاء قداسة زائفة على أي زعيم أو إيديولوجية سياسية أو
جماعة بعينها لمجرد إنها تزعم إنها تستهدف تحقيق هدف نبيل ما للوطن، حتى و لو كان
ذلك عبر سحق إنسانية مواطنيه و إذلالهم و إهدار كرامتهم.
يستطيع القارئ بسهولة التعرف على رموز
هذا الجيل في الصحافة و المنتديات الثقافية و المحافل الأكاديمية و المنظمات غير
الحكومية – و بينها منظمات حقوق الإنسان – و لكنه سيجد صعوبة بالغة في التعرف عليه
في مواقع الحكم أو على رأس الأحزاب السياسية العربية.
و من الملاحظ أن عناصر هذا الجيل التي
اندمجت في حركة حقوق الإنسان كانت أكثر التزاما بمرجعية حقوق الإنسان عن أية
خلفيات أو ارتباطات سياسية أخرى و رفضت أن تساوم على عمق التزامها بذلك في أي لحظة
تحت أي دعاوى جديدة لبيع الوهم القديم، أي أن نستبدل التزامها بمبادئ حقوق الإنسان
بدعاوى مقاومة التطرف الديني و الإرهاب أو بدعاوى التوحد أمام العدو الخارجي:
الغرب و إسرائيل.. الخ. و بالتالي كانت عناصر ذلك الجيل من حركة حقوق الإنسان اكثر
صلابة ضد اية صفقة سياسية على حساب هذه المبادئ.
في سوريا رفضت ابتلاع القول بان احتجاز
عدة آلاف من خيرة المناضلين من مختلف التيارات السياسية – بما في ذلك أجنحة حزب
البعث و نشطاء حقوق الإنسان – و تعرضهم للتعذيب و الإهمال حتى فقدان البصر و
الوفاة، هو ضمانة حيوية لما يسمى بالصمود الوطني أمام اسرائيل، و أن انتقاد و فضح
ذلك هو الذي يؤدي الى إضعاف روح " الصمود " .
في مصر رفضت ان تبتلع صورة اخرى من ذات
" الطعم " و ان يستغل ادراكها للتعارض الحاد بين مبادئ حقوق الانسان و
الخطاب السياسي الديني السائد في تيار الاسلام السياسي في مصر و قيام بعض جماعات
ذلك التيار باغتيال احد رموز حركة حقوق الانسان و تهديد المثقفين، للتواطئ على
الانتهاكات الفظة التي لحقت بالمشتبه في ارتباطه بذلك التيار، و ظلت حتى كتابة هذا
التقييم – تحارب في جبهتين ضد انتهاكات حقوق الانسان من كل من الحكومة و جماعات و
مؤسسات التعصب الديني المسلح منها و غير المسلح.
و في تونس كان الوضع اكثر صعوبة، و
المنزلق اكثر جاذبية منه في مصر، فقد حسم النظام التونسي الجديد بقيادة زين
العابدين موقفه من التطرف الديني و رفض امساك العصا من المنتصف، و عمل بجد على
استاصال جذوره و تجفيف منابعه من خلال القيام بعملية اصلاح شاملة لمناهج التعليم و
خاصة التعليم الديني، مواربا الباب بذلك امام تخلق ارضية تعاون مشترك مع حركة حقوق
الانسان، و خاصة و انه قام في نفس الوقت بالحتضان فكرة انشاء المعهد العربي لحقوق
الانسان، و عين رئيس سابق للرابطة التونسية لحقوق الانسان وزيرا للتعليم و جعل من
تونس عاصمة للمؤتمرات الدولية و الاقليمية الأفريقية و العربية لحقوق الإنسان
ليفتح بذلك الباب على مصرعيه امام عواصف صراع داخلي مرير في الحركة التونسية لحقوق
الإنسان.
كانت ملامح الصفقة تتبلور في الأفق؛
إغماض العين عما يلحق بالعناصر المشتبه في انتمائها لجماعات التطرف الديني و
القبول باستمرار القيود الصارمة على حرية الرأي و التعبير و المشاركة السياسية
كثمن حتى القضاء على العدو المشترك.
و لكن منصف المرزوقي و بعض من رفاقه
رفضوا قبول الصفقة و وجدوا فيها نسخة منقحة من المقايضات القديمة اياها، و ادركوا
مبكرا ان الثمن لن يقتصر على فقدان حركة حقوق الانسان لشرفها فحسب، بل إثارة شهية
النظام لينقض بعد ذلك على فصائل المعارضة غير الدينية و تقويض حتى الهامش الديمقراطي
المتاح … و هذا ما جرى بالفعل.
لقد دفع المنصف المرزوقي الثمن بعد ذلك،
و قضى ثلاثة شهور خلف القضبان دون محاكمة – بعد اضطراره في فبراير 1994 للتخلي عن
ترشيحه نفسه لرئاسة الرابطة التونسية لحقوق الانسان – تاديبا له على تهوره بترشيح
نفسه في انتخابات رئاسة الجمهورية التي تجرى بنظام الاستفتاء و خرج من السجن ليجد
استاذ الطب نفسه محروما من التدريس لتلاميذه، و ممنوعا من السفر.
لم تكن هذه المعركة الوحيدة للمنصف
المرزوقي، و لكنها كانت المعركة التي لم يتناولها كتابه هذا، والذي صدرت طبعته
الأولى في تونس، وكانه لم يصدر، لانه لم يصل إلى قارئه، امتدادا للعقوبة الممتدة
بحق كاتبه، و ليحظى مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان بشرف تقديم الكتاب و كاتبه
للقارئ العربي.
في هذا الكتاب يرسم منصف المرزوقي بريشة
فنان ملامح " الرؤية الجديدة " لحقوق الانسان، بامتداد العلم العربي و في
المنافى في تحديد ملامح رؤية ذلك الجيل لحقوق الانسان.
لا يعني ذلك بالضرورة انني و غيري نتفق
مع الكاتب في كل ما ذهب اليه، ولكن لا يخالجني شك في ان نسيج " الرؤية
الجديدة " التي غزلها الكاتب عبر بصدق عن الهموم الكبرى لحركة حقوق الإنسان
في العالم العربي و وضع عناوين معاركها اليومية.
مقدمـة للطبعــة الثانيـــة
إن الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان هو أول وفاق عالمي و الوفاق الوحيد حاليا للحضارات المختلفة و النظم
السياسية المتنافسة، حول مفهوم "الإنسان". هو اول مشروع جماعي للانسانية
( تحقيق هذه الحقوق في كل مكتن ). هو نقطة الانطلاق لمئات الاعلانات و المواثيق و
المعاهدات المنظمة "نظريا" على للعلاقات الانسانية داخل ما يسمى بالقرية
الارضية. هو بالتالي نقطة تحول في تاريخ الانسانية. و هذا ما يجعلني اجزم بانه أهم
حدث فكري – قيمي – سياسي لهذا القرن.
نحن نجهل هل سيذهب هذا التحول بعيدا، ام
انه على العكس محاولة اخرى فاشلة سيجهضها انتشار الحرب الاقتصادية العالمية و غرق
اغلب بلدان الجنوب و تقوقع الغرب على مصالحه الآنية و إلتهاب أيدولوجيات الاحتجاج
الدينية و العرقية الرافضة للفوضى العالمية الجديدة، و اخيرا و ليس آخرا انتصار
جديد للدكتاتوريات التي تدّعي النها الدواء الانجع لفوضى هي احدى مظاهرها و ليست
احدى حلولها.
لا يستطيع بالطبع الرد على مثل هذه
التساؤلات الا كتاب نهاية القرن المقبل الذين قد يراجعون مثل هذا الكتاب فيحكمون
علينا جميعا باننا كنا مبالغين في السذاجة او في التشاؤم، و يقررون ما اذا كانت
حركة حقوق الانسان طفرة عابرة، ام بداية بطيئة و واعدة لتغيرات عميقة في الثقافة و
السياسة على صعيد العالم العربي باسره.
لقد ابرأتنا كوارث هذا القرن من وهم
التقدم " الحتمي" ووصفات الخلاص البسيط و اصبحنا واعين بان القرن المقبل
مهدد بتراجعات ضخمة في كل الميادين باستثناء التكنولوجيا، و من ثم ترانا لا نعرف
في أي ظروف سيحي مناضلو التحرر ذكرى الإعلان العالمي في ديسمبر او مائويته الثانية
سنة .
هل سيحتفل به انذاك كل العالم كما تحتفل
فرنسا اليوم بثورة و امريكا بوثيقة الاستقلال، ام ستحتفل به فلول مشردة و مطاردة
في اقبية مظلمة هربا من نظم استمدت من الثورة التكنلوجية قوة رهيبة لاحكام قبضتها
على شعوب خائفة متناحرة ارجعتها الحرب الاقتصادية الضروس و الكارثة البيئية و
القنبلة الديموغرافية الى الحلول الجاهزة البسيطة العرقية و الشوفينية و الدينية ؟
الثابت انه بعد اقل من سنتين في يوم 10
ديسمبر 199 ستحتفل الانسانية في ظروف يتقاسمها الامل و الاحباط بمرور نصف قرن على
ولادة الاعلان، هذه الوثيقة العظمى التي تستلهم منها اليوم كل حركات حقوق الانسان
في العالم، مباذئها و مواقفها.
و بهذه المناسبة ستكثر الخطب و الكتابات
و سيستسلم المتفائلون لتفائلهم حول انتشار مفاهيم الاعلان و تكاثر مؤسسات المجتمع
المدني الوطني و الدولة التي تناضل من اجلها إلخ، و سيستسلم المتشائمون لتشائمهم و
مللين على الهوة السحيقة التي تفصل بين النظرية و الواقع و على الاخطار الجسيمة
التي تترصد مكتسبات هشة الخ … الخ.
انني لا اريد مرحليا ان ادخل في مثل هذا
النقاش لا لانه سابق لاوانه فحسب، و انما لاعتقادي ان التقييم الموضوعي لتغلغل
مفاهيم حقوق الانسان في الفعل الثقافي و الفعل السياسي، في مجتمعات متباينة
المشاكل و المرجعيات و درجة النمو الاقتصادي اشكالية صعبة للغاية و ان نصف قرن
يعتبر فترة ضئيلة جدا لمثل هذا التقييم.
الا انه من المؤكد اليوم ان انتشار حركة
حقوق الانسان فكرا و تنظيما عالميا و محليا هي من اهم الظواهر الاجتماعية و
الحضارية و السياسية التي عرفتها نهاية هذا القرن.
لقد برزت مثلا على الصعيد العالمي في
الستينات مؤسسة كمنظمة " العفو الدولية " و هي تظم اليوم قرابة مليون
عضو في سبعين بلدا ثم تبعتها منظمات عديدة اخرى اما مختصة بموضوع كالحق في البيئة
او الحرمة الجسدية او التبادل الثقافي او بجزء من الانسانية ( المرأة – الطفل –
الاقليات ) او بالدفاع عن حقوق محددة من قبل اهل الذكر انفسهم ( صحافيون بدون
حدود، الحقوقيون الدوليون، اطباء من اجل حقوق الانسان الخ…) .
اما على الصعيد الوطني فلا يكاد يخلو
اليوم بلد الا و فيه منظمة او عدة منظمات تدافع عن حقوق الإنسان، ناهيك عن الفروع
المحلية لكبرى المنظمات الإنسانية العالمية المتواجدة فيه.
و لم يكن من الممكن بالطبع ان تبقى
الامة العربية خارج نطاق هذه الحركة العالمية، و قد كانت تونس اول من عرفت تنظيما
نابعا من المجتمع المدني مستقلا عن السلطة و عن الاحزاب السياسية يعنى بنشر مفاهيم
حقوق الانسان و الدفاع عنها و ذلك عندما سمحت السلطة بعد خمس سنوات من المماطلة و
التسويف للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان بالعمل الشرعي ابتداء من
لقد شكلت هذه المؤسسة التي تشرفت
برئاستها من الى 199 في ظروف بالغة الصعوبة، طيلة سنوات نموذجا للعديد من المؤسسات
المماثلة التي ظهرت في بداية الثمانينات في كل من المغرب و الجزائر و مصر و
موريطانيا و لبنان ثم جاء ظهور المنظمة العربية لحقوق الانسان سنة حدثا هاما لانه
مكّن كل حركات حقوق الانسان العربية من ان تتلاقى و ان تتبادل خبراتها داخل مؤسسة
مشتركة.
لقد كان تكاثر هذه المنظمات ابتداء من
الثمانينيات دلالة على نضج قطاعات هامة من المجتمعات العربية و تعبيرا عن ظهور
حاجات ماسة جديدة و عن بحث جزء من النخب عن مفاهيم جديدة و اليات جديدة للنضال
الفكري و الاجتماعي و السياسي من اجل المشاركة في تحرر الوطن و الانسان العربي و
ذلك بعد تعدد الخفاقات الاديولوجية و الحزبية.
و من الملفت للنظر ان هذه المنظمات
الانسانية المتكاثرة و المتداخلة في شبكات متزايدة التعقيد و طنيا و قوميا و
عالميا ليست الا الجزء البارز من ظاهرة عامة تتجاوزنا جميعا.
فلسفة " حقوق الانسان " ليست
فقط قيم نخب المجتمعات المدنية لمقاومة نظم الحكم عندما تستبد، و انما هي اليوم
قاعدة القانون الدولي نفسه.
ان مئات المواثيق و الاعلانات و
المعاهدات التي سنتها الامم المتحدة لتحدد للدول علاقاتها بمواطنيها و ببعضها
البعض ( و التي تفاخر اغلب دولنا بانها و فعتها و ابرمتها ) هي وليدة الخيار
الفكري – السياسي الذي انطلق منذ قرابة خمسين سنة بوثسقة اعلان الامم المتحدة و
الذي تحددت مبادئه العامة بالاعلان العالمي لحقوق النسان، ثم جاءت ابتداء من
الستينات العهود و المواثيق و الاعلانات لتحدد و تتعمق و تركز على هذا المبدأ أو
ذاك ( ضد التعذيب – حقوق الطفل – حقوق المراة – حقوق الافليات الخ … ) و كلها الى
اخر المطاف الاغصان التي تولدت من جذع واحد و هو الاعلان.
ليس المهم ان نسارع هنا الى القول بانها
بقيت اغلب الوقت حبرا على ورق، و انما المهم الانتباه الى ان اغلبية الدول و منها
دولنا العربية اعترفت بقيمة الاعلان عندما وقعت هذه المعاهدات. لذلك هو في ان واحد
المرجع الاول لحركات حقوق الانسان وطنيا و عالميا، أي انه مرجعية كل اشكال
المعارضات السلمية و الديمقراطية و في نفس الوقت الاطار المحدد لواجبات الدول و
منها الدول التي تنتهك مبادئه و تضطر الى التسليم بها.
و من ثم التناقضات الضخمة التي تعرفها
الانظمة العربية، و المواجهات الدائمة بينها و بين حركات حقوق الانسان عربيا و
دوليا. ان أغلب المجتمعات العربية ممزقة اليوم بين ضرورة التغيير و صعوبته نظرا
لهيمنة انظمة لا تريد او لا تستطيع التاقلم مع حاجيات شعوبها و متطلبات العصر، و
هي ان تفعل فعادة اما بصفة متاخرة، او محتشمة، هذا عندما لا تعمد الى التزييف
المفضوح.
ان اغلب انتهاكات حقوق الانسان التي
يعاني منها الانسان العربي تتعلق بمصادر هذه الانظمة لحقه في الراي و التنظيم، و
اختيار من يحكمه وفق التتيبات الديمقراطية، كما تتعلق بمصادر الفوضى العالمية الجديدة
لحقوقه الاقتصادية و الاجتماعية في ظل تفاقم الفساد محليا و عالميا و توسّع الهوة
بين الفقراء و الأغنياء و اعتبار التعليم و الصحة و السكن سعا للصرف و التصريف و
الحال إنها حقوق غير قابلة للتصرف.
ان ثبات أنظمتنا على اليات و مفاهيم
تجاوزتها التكنولوجيا و الأيديولوجيا، ناهيك عن الوضع العالمي المعقد هو اخطر مولد
للعنف الذي يقدم نفسه كبديل، و الحال انه لا يزيد الا الطين بلة معطيا للأنظمة
العربية شبابا جديدا و مشروعية جديدة ( مقاومة الإرهاب ).
هكذا تجد اليوم حركة حقوق الإنسان
العربية نفسها بين كماشتي القمع و العنف اذ هي تناضل من جهة ضد الاستبداد و ترفض
العنف مهما كان مصدره و تبريره.
إن المتأمل لحالة المنظمات العربية
لحقوق الإنسان في هذه الفترة بالضبط يواجه بظاهرة تكاد تكون عامة أي المحاصة و
التطويق و التهميش و الضرب و التفويض في الوقت الذي تتصاعد فيه خطورة الانتهاكات
للحقوق الأساسية للإنسان العربي .
نحن ألان أمام وضع مزدوج و معقد يتمثل
من جهة في بروز المنظمات و انتشار الأفكار و القيم و من جهة أخرى في حرب ضروس تشن
ضد هذه المنظمات و هذه الأفكار أو القيم من هذا الطرف او ذاك.
لا شئ إذا يمكن ان يظر بنا اليوم قدر
المغالاة في التفاؤل بالتركيز على ديناميكية فكر حقوق الإنسان و انتشار منظماته و
تغلغل قيمه الشيء الذي اجبر كل الأنظمة و الدول على الانخراط على الأقل تشريعا و
لفظيا في سياق هذه المنظمة الفكرية – السياسة الجديدة الخ …
لا زال أمامنا الكثير من العقبات و
العراقيل قبل أن نتمكن – إذا تمكنا – من ترويض الدولة و جعلها في خدمة المجتمع و
ليس العكس و قبل أن ننتقل من وضعية الرعايا الى وضعية المواطنين و قبل أن يصبح
بديهيا للكل أن لكل مواطن الحق في حرمته الجسدية و في الرأي المخالف و في عضوية
التنظيم السلمي، و في اختيار من يحكمه. نحن سنواجه طبعا في هذه المعركة الطويلة
النفس بالدولة و آلياتها القديمة و مصالح الفئات التي تركب ظهر اسد السلط مرحليا،
ناسية أن لا أحد يمتطي ظهر الأسد إلى الأبد و بدون تكلفة باهضة وهو فوقه.
الأخطر من كل هذا أننا سنكتشف بسرعة أن
هذه الدولة العربية الاستبدادية ليست في آخر المطاف إلا إفرازة من إفرازات مجتمع
هو نفسه استبدادي، و انه إذا كانت "الناس على دين ملوكها" فالملوك كذلك
على دين ناسها فأغلب جيوب انتهاكاتها حقوق الإنسان كانتهاك حقوق المرأة و التعصب
الفكري و الديني، و الاستفراد ب " الحقيقة " هي أمراض اجتماعية منتشرة و
متغلغلة.
أن أهم الصعوبات قد تأتي من المجتمع
نفسه و قد يتضح في يوم ما أن اسهل التغييرات هو تغيير الدولة.
في المقابل لا شيء يمكن أن يضربنا اليوم
قدر المغالاة في التشاؤم بالتركيز على كل الصعوبات التي تتعرض لها حركتنا فهذه
الصعوبات و ثمنها الباهض لا تعني أن علينا أن نستسلم للإحباط و اليأس.
إن كان هناك مصدر لتفاؤلنا فليكن وعينا
بعمق تاريخنا في هذه الميادين و بعظمة الاشتراك في حلم هو اليوم حلم كل الإنسانية
و ليس حلم هذه الحضارة أو تلك و بحيوية القوى الاجتماعية التي أصبحت إرادة
المشاركة في صنع القرار العام عندها مطلبا لا رجعة فيه.
لقد اصبح اليوم المطلب الديمقراطي وهو
الجزء السياسي المحض لحقوق الإنسان ( من الإعلان ) تيارا قويا داخل المجتمع و
الدولة نفسها و أصبحت تتجمع حوله قوى فاعلة و مؤثرة داخل المجتمع، سواء أكان ذلك
في شكل نقابات أو أحزاب، او تنظيمات مهنية و إنسانية.
نحن لسنا أيضا نخبا معزولة متغربة
تتعالى على الجماهير، فالمجتمع العربي هو الذي افرزنا، كنخب جديدة لنمده بالأفكار
و المشاريع الجديدة التي هو في أمس الحاجة اليها لمواكبة العصر و التأقلم مع
التغيرات الهائلة التي أحدثها في عمقه انتشار الإعلام و التعليم و الاحتكاك
بالشعوب و الثقافات الأخرى. هو عهد الى قوى أخرى بترجمة حنينه الى الماضي و خوفه
من التغيير المفروض عليه ( و هي أمور مشروعة و يجب تفهمها و احترامها ) و لكنه عهد
الينا بترجمة حنينه الى المستقبل و إعداده لتغيير لا مفر منه.
نحن لسنا نبتة غريبة زرعت في هذه الأرض
و إنما حلقة من سلسلة قديمة قدم الأمة نفسها. نحن نواصل نضال من حاربوا ضد واد
البنات في الجاهلية كالبدوي صعصعة بن ناجي بن عقل، و من ناضلوا طوال أربعة عشرة
قرنا من اجل العدل و الاعتدال و حرية الفكر و العقل و المساواة كابن عربي و المعري
و ابن المقفع الخ…
نحن بهذا لا نفعل إلا وضع أنفسنا في
سياق حركة التحرر الآتية من أعماق الزمان لأن " حقوق الإنسان " ليست إلا
الصيغة العصرية لمطالب بعضها قديم قدم الإنسانية نفسها.
الفارق الوحيد أننا ننطق بلغة العصر حسب
ضروريات العصر فلا يمكن اليوم أن نستفرد بمشروع لأننا لسنا جزيرة في محيط و لا أن
نفرض مشروعنا على كل الأمم لأننا لا نستطيع ذلك كما لا نستطيعه أحد و من ثم فالحل
الأوحد هو مواصلة نضال آبائنا و أجدادنا عبر المشاركة في رؤية جماعية و حلم جماعي
يوحد اليوم لغة و تصرفات بشر من القارات الخمس و من مختلف الأديان و الأجناس.
الثابت اليوم انه ليست هناك قوة ما تضمن
لنا انتصار قيمنا وانما الأمر موكول في جزء هام منه إلى نضالنا على كل الأصعدة و
منها الفكري.
يكتسب النضال الثقافي هنا أهميته القصوى
لأن ( Althusser ) على حق عندما
يقول أن المعارك النظرية هي معارك سياسية في النظرية و أن ربح المعركة الفكرية هو
الشرط الأول لربح المعركة السياسية.
و في هذه المرحلة من تطور المشروع
الفكري – السياسي لا بد من الوعي بالأمراض الفتاكة التي تهدد المشروع و هي كثيرة و
من مصادر مختلفة.
هناك طبعا استحواذ النظم الاستبدادية
العربية على الخطاب بكلماته و شعاراته و أفكاره لافراغه من كل محتوى حقيقي.
هناك ازدواجية الخطاب التي تمارسها
النظم الغربية و سياسية الكيل بمكيالين و كلها أمور تضرب في الصميم مصداقية
المشروع خاصة عند الشباب.
يضاف إلى هذا انه مازال يروج بإصرار
غريب على أن مفاهيم حقوق الإنسان تتنافى مع الإسلام، و إنها مرفوضة لأنها غربية
المصدر مشبوهة النوايا و الجذور.
لابد إذن من التصدي للهجمات العنيفة أو
الإستراتيجيات الخبيثة التي تريد أن تضرب مصداقية و قيم فكر حقوق الإنسان، برفع
الإلتباسات، و دحض التشويه و إدانة كل ضروب الازدواجية و الاستعمال الرخيص لقيم و
مبادئ لا تتحمل التفويض و التمويه. لا بد خاصة من التعريف الإيجابي و البناء لفكر
نير و عقلاني و تقديمه للأجيال الصاعدة و إقناعها بمصداقيته و فاعليته لتهيأتها
على الصعيد الفكري لاندماج في ملحمة العالم و الإنسانية ككل، دون عقدة نقص او عقدة
تفوق، لتنهى عن المنكر ( بلغة العصر ) و تأمر بالمعروف ( بلغة العصر ) لتهيئ لخلق
و تصريف نظم سياسية فعالة بالمشاركة الجماعية و التقييم الدائم، إنسانية بقدرتها
على تطويق العنف و تعهّد الأمان الجماعي عبر تمكين كل الناس من حقوقها المشروعة.
ان هذه هي وظيفة المثقف الملتزم بقضايا
عصره. و قد حاولت أن اضطلع يوما بنصيبي المتواضع من المهمة علما بأنه عمل جماعي
مسترسل و لا نهاية له، و لان النضال الثقافي لا يكون الا توفر عنصر ضغط الحاجة
الجماعية و استعداد الفرد لان يكون صوت هذه الحاجة فإنني و جدت نفسي منذ السبعينات
منخرطا في معركة فكرية لم اكن واعيا في البداية حتى إن لها اسما هو حقوق الإنسان.
لقد علمتني التجربة إن إشكالية حقوق
الإنسان ليست كما يتصورها البعض قضية سياسية بحتة، تتلخص في نوع من المعارضة
الأنيقة، فالموضوع مطروح على كل مستويات الاهتمامات البشرية و الطريف في كل الامر إنني
جئت مثلا الى هذه الإشكالية من باب الطب بعد أن درست موضوع التجارب الطبية على
الإنسان فاكتشفت الخروقات الهائلة التي يتعرض لها الإنسان مريضا أو سويا من قبل
مهنة هي نظريا المهنة الأقرب إلى تواجه فطري غريزي للحفاظ على الإنسان و حقوقه
وذلك عندما يعتبر الطب نفسه مسؤولا بالدرجة الأولى عن غول اسمه "تقدم
العلة" أو "مصلحة الدولة" أو "مصلحة" لمجتمع" لا عن
الإنسان المتألم الذي بين يديه.
انه من السهل جدا نقد الدولة و
استبدادها و انتهاكاتها ( متناسين أن أغلب سياسات التحديث في عالمنا العربي انطلقت
منها ) و قد فعلت ذلك في كتاب "دع وطني يستيقظ" فدخل الكتاب السجن سنوات
طويلة و وقفت اكثر من مرة أمام القضاء للدفاع عن حقي في الرأي و التعبير.
لكن ماذا عن صلف العقائديين العلمانيين
منهم و المتدينين على حد السواء و الهوس الذي يمتلكهم عندما يسجنون العقل في قوالب
جاهزة يدعون أنها صالحة في كل مكان و زمان، ممهدين بذلك لكل أشكال العنف ؟
إن معارضة الاستبداد في السلطة بقى
دورانا في حلقة مفرغة إذ كان المشروع استبدال استبداد بآخر، لذلك كتبت في كتابي
"سجن العقل" للتركيز على هذا الخطر المتجدد. إلا أن الطامة الكبرى كانت
في اكتشافي لمدى الفوضى الفكرية عند بعض مناضلي حقوق الإنسان أنفسهم و اتضح لي
آنذاك أن أهل مكة ليسوا أدرى بشعبها.
لقد وقف يوما أحدهم في أحد مؤتمرات
الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ليدين باسم القومية ترشيح مواطن يهودي للهيئة
المديرة لأنه يهودي و واجهته آنذاك بالقول إنني فخور بعروبتي لأن الأمة العربية هي
الأمة العربية الوحيدة التي جعلت على مر العصور من زنجي هو عنترة رمزها للشجاعة، و
من مسيحي هو حاتم الطائي رمزها للكرم، و من يهودي هو السمو أل رمزها للوفاء، و
عندما جائت حرب الخليج فقدت كل المفاهيم تماسكها، و اشتدت الفوضى الفكرية و رأيت
مناضلي حقوق الإنسان ينادون في المظاهرات بالحرب الكيماوية، و يفاضلون بين
الدكتاتوريات و يضعون حقوق الشعوب في تناقض مع حقوق الإنسان، و اتضح آنذاك أن اهون
خصم هو النظام الاستبدادي و أن معركة الأفكار لا بد أن تربح داخل حركة حقوق
الإنسان نفسها و من ثم جاء هذا الكتاب و ما تبعه ( الإنسان الحرام ) مواصلة
لمحاولة إرساء دعائم فكر عربي مسلم لحقوق الإنسان ينطق بلغة الضاد، يواصل تيارا
هاما في تاريخنا و يربطنا بحركة فكرية عالمية نتأثر بها و نؤثر عليها في تناغم
ضروري بين الخصوصية و العالمية.
لقد ولد هذا الكتاب في تونس سنة 94شبه
ميت و بعد مخاض مؤلم فقد سحبت أفلامه من المطبعة و سحب من المعارض و لم تجرأ صحيفة
تونسية واحدة علىالاشارة إلى ظهوره فما بالك بالتعليق عليه؟
وكانت محتنه جزءا من محنتي ومحنة حركة
حقوق الإنسان التونسية وأحد مظاهرها .
ومن ثم أقدم امتناني وعميق شكري لمركز
القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ، الذي أتمنى له |أن يكون نقطة إشعاع للقيم الجديدة
، فلولاه لما أعطى هذا الكتاب فرصة أخرى للحياة .
ان "بعثه" في القاهرة لهو
دلالة على أن حركة حقوق الإنسان العربية ترفض كل محاولات الإجهاض وأنها قادرة
بتآزرها وتضمنها على تطويق العراقيل، وما أكثر الصعوبات والتحديات التي ستضل
تنتظرنا على طريق التحرر والكرامة، لكن ما أروع الإنجازات التي تدعونا والتي نحن
قادرون على تحقيقها. ألسنا من أمة تعلم أبناءها أنه "لو تعلقت همة المرء
بالعرش لناله" .
د. منصــف المرزوقــــي
تقديـــــم : بهــى الديــن حســـن
تقديــــم
الرؤيــا الجديـــــدة … والجيـــل الجديـــــد
ينتمي منصف المرزوقي إلى ذلك الجيل
الوسيط من نشطاء حقوق الإنسان في العالم العربي الذين وقع عليهم عبء بناء حركة
حقوق الإنسان في الدول العربية وبلورة تقاليد مهنية لهذه الحركة وتحديد بوصلتها
وسط دوامات السياسة العربية العاتية المنبعثة من الحكومات وأحيانا بنفس الدرجة من
القوى والتيارات السياسية المعارضة. وذلك في ظروف استقطاب سياسي حاد وممتد. لأسباب
خارجية: الصراع العربي الإسرائيلـي. أو أسباب داخلية: المواجهة العنيفة مع التيار
الإسلامي الصاعد.
لقد حمل جيل الآباء عبء التبشير بالدعوة
لحقوق الإنسان. وجاءت الإرهاصة الأولى ردا عفويا على صدمة هزيمة يونيو1967ولكن
المبادرة سرعان ما دفنت تحت ضغوط" لا صوت يعلو على صوت المعركة".
ثم كانت الإرهاصة الثانية التي كتب لها
النجاح في عام 1968 في العام التالي لاجتياح إسرائيل للبنان، واحتلالها أول عاصمة
عربية.
كانت تلك المبادرة من جيل الآباء في
حركة حقوق الإنسان هي في جوهرها تعبير رمزي عن الإدراك المتزايد في الشارع العربي،
بأن قبول التضحية بالديمقراطية مقابل التحرر الوطني والعدل الإجماعي قد أدى في
نهاية المطاف إلى إهدار كل القيم الذي زعم الدفاع عنها، وصولا الى توسيع نطاق
الاحتلال الصهيوني لفلسطين ليشمل أقسام هامة من ثلاثة دول عربية وإذلال الجميع،
وصدمة هائلة هزت الوجدان العربي الذي كانت تبشره دقات طبول الأغاني بأنه على أعتاب
تل أبيب.
غير أن التبشير بحقوق الإنسان لم يكن
يكفي بذاته لبناء حركة لحقوق الانسان، إن ذلك كان يحتاج مفردات خطاب حركي ومفاهيمي
جديد، يكون قادرا على وضع التخوم الهيكلية بين الحركة الوليدة والحركات السياسية
الأخرى، وبين خطابها والخطاب السياسي للحكومات وأيضا لقوى المعارضة العربية التي
بدأت في توظيف مفردات خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في معركتها من أجل الحصول
على موقع قدم على الخريطة السياسية والحكم .
كان ذلك يتطلب جيلا أكثر تحررا من
الخطاب السياسي العربي التقليدى السائد لعدة عقود، وأكثر إدراكا للحاجة الجذرية
للتغيير، وأكثر استعدادا للتحلي بنظرة نقدية تستمد مرجعيتها من مبادئ حقوق الإنسان
المعترف بها عالميا بصرف النظر عن أية خلفية سياسية خاصة .
وكانت هذه هي مهمة الجيل الوسيط الذي يعتبر
منصف المرزوقي من أبرز رموزه في العلم العربي، ولد في هذا الجيل في أعقاب نهاية
الحرب العالمية الثانية، ووضع في طفولته الحلم القومي العربي الكبير مع تأميم قناة
السويس والعدوان الثلاثي 1956وشب عليه مترقبا اللحظة التي ينتقل فيها الى الحياة
العملية ليشارك في تشييد الحلم على أرض
الواقع، غير أنه قبل أن يخرج الى الحياة العملية، كانت قد داهمته كارثة يونيـو
1956 لتطرح كل المسلمات على بساط البحث، ولتوارب الباب أمام قسم من هذا الجيل
للالتحاق بحركة التمرد الماركسي التي قدمت نفسها بديلا عن الفكرة القومية، أو طرحت
مركبا جديدا قوميا/ماركسيا – بنسب متفاوتة، معادلات مختلفة- بأفكار جديدة، وجسد
ذلك كله في انتفاضة الخبز وفي الحكة الطلابية التي اجتاحت العالم العربي في العام
التالي لهزيمة يونيـو 57. وخلال انخراط ذلك الجيل في الحركات الجماهيرية المختلفة
أو التنظيمات العلنية والسرية والمسلحة (الفلسطينية) متنوعة الرايات، كانت تجرى
عملية تاريخية لاختبار مختلف ألوان طيف المذاهب السياسية.
لقد بدأ الجيل الوسيط حياته العملية في
لحظة تاريخية تتسم بالسيولة الشديدة الفكرية والسياسية وعدم اليقين، كانت الفأس
معلقة على رقاب كل الأصنام المعبودة دون استثناء، كما اتسمت هذه اللحظة بانفتاح لم
يسبق له مثيل على العالم الخارجي، الذي كان يمر أيضا بعملية تاريخية أكثر عمقا
لتحطيم أصنام كثيرة، بداية من ربيع براج 1968 إلي الحركة الطلابية الفوارة التي
اجتاحت أمريكا وكندا وأوروبا والصين، وعدد من بلدان العالم الثالث في في العام
وحركة الحقوق المدنية في أمريكا مرورا بالشيوعية الأوروبية ومحاولة دمقرطة
الشيوعية في منتصف السبعينات وصولا إلى انتفاضة الحركة العمالية" تضامن"
على الشيوعية في بولندا في أوائل الثمانينات.
لقد لعبت تلك العوامل المحلية الدولية
درا حيويا في إعادة تشكيل رؤية الجيل الوسيط للعالم من حوله، وللهدف الذي تطلع
إليه – أي الحرية والعدل الاجتماعي – منذ أن تفتحت عيونه على الدنيا، دون أن يكون
مضطرا إلى أن يحمل على ظهره بقايا الأصنام المحطمة .
و انعكس ذلك في الإدراك المتزايد
للترابط العميق بين تحقيق هذه الأهداف و ضرورة أن يتاح للإنسان مناخ يساعده على
ازدهار طاقته الإبداعية المتعددة، و لضرورة التمييز بين الوسائل و الأهداف، و بين
شعارات التيارات السياسية المختلفة – حاكمة و معارضة – و سلوكها العملي على الارض،
و في الابتعاد المتزايد عن إضفاء قداسة زائفة على أي زعيم أو إيديولوجية سياسية أو
جماعة بعينها لمجرد إنها تزعم إنها تستهدف تحقيق هدف نبيل ما للوطن، حتى و لو كان
ذلك عبر سحق إنسانية مواطنيه و إذلالهم و إهدار كرامتهم.
يستطيع القارئ بسهولة التعرف على رموز
هذا الجيل في الصحافة و المنتديات الثقافية و المحافل الأكاديمية و المنظمات غير
الحكومية – و بينها منظمات حقوق الإنسان – و لكنه سيجد صعوبة بالغة في التعرف عليه
في مواقع الحكم أو على رأس الأحزاب السياسية العربية.
و من الملاحظ أن عناصر هذا الجيل التي
اندمجت في حركة حقوق الإنسان كانت أكثر التزاما بمرجعية حقوق الإنسان عن أية
خلفيات أو ارتباطات سياسية أخرى و رفضت أن تساوم على عمق التزامها بذلك في أي لحظة
تحت أي دعاوى جديدة لبيع الوهم القديم، أي أن نستبدل التزامها بمبادئ حقوق الإنسان
بدعاوى مقاومة التطرف الديني و الإرهاب أو بدعاوى التوحد أمام العدو الخارجي:
الغرب و إسرائيل.. الخ. و بالتالي كانت عناصر ذلك الجيل من حركة حقوق الإنسان اكثر
صلابة ضد اية صفقة سياسية على حساب هذه المبادئ.
في سوريا رفضت ابتلاع القول بان احتجاز
عدة آلاف من خيرة المناضلين من مختلف التيارات السياسية – بما في ذلك أجنحة حزب
البعث و نشطاء حقوق الإنسان – و تعرضهم للتعذيب و الإهمال حتى فقدان البصر و
الوفاة، هو ضمانة حيوية لما يسمى بالصمود الوطني أمام اسرائيل، و أن انتقاد و فضح
ذلك هو الذي يؤدي الى إضعاف روح " الصمود " .
في مصر رفضت ان تبتلع صورة اخرى من ذات
" الطعم " و ان يستغل ادراكها للتعارض الحاد بين مبادئ حقوق الانسان و
الخطاب السياسي الديني السائد في تيار الاسلام السياسي في مصر و قيام بعض جماعات
ذلك التيار باغتيال احد رموز حركة حقوق الانسان و تهديد المثقفين، للتواطئ على
الانتهاكات الفظة التي لحقت بالمشتبه في ارتباطه بذلك التيار، و ظلت حتى كتابة هذا
التقييم – تحارب في جبهتين ضد انتهاكات حقوق الانسان من كل من الحكومة و جماعات و
مؤسسات التعصب الديني المسلح منها و غير المسلح.
و في تونس كان الوضع اكثر صعوبة، و
المنزلق اكثر جاذبية منه في مصر، فقد حسم النظام التونسي الجديد بقيادة زين
العابدين موقفه من التطرف الديني و رفض امساك العصا من المنتصف، و عمل بجد على
استاصال جذوره و تجفيف منابعه من خلال القيام بعملية اصلاح شاملة لمناهج التعليم و
خاصة التعليم الديني، مواربا الباب بذلك امام تخلق ارضية تعاون مشترك مع حركة حقوق
الانسان، و خاصة و انه قام في نفس الوقت بالحتضان فكرة انشاء المعهد العربي لحقوق
الانسان، و عين رئيس سابق للرابطة التونسية لحقوق الانسان وزيرا للتعليم و جعل من
تونس عاصمة للمؤتمرات الدولية و الاقليمية الأفريقية و العربية لحقوق الإنسان
ليفتح بذلك الباب على مصرعيه امام عواصف صراع داخلي مرير في الحركة التونسية لحقوق
الإنسان.
كانت ملامح الصفقة تتبلور في الأفق؛
إغماض العين عما يلحق بالعناصر المشتبه في انتمائها لجماعات التطرف الديني و
القبول باستمرار القيود الصارمة على حرية الرأي و التعبير و المشاركة السياسية
كثمن حتى القضاء على العدو المشترك.
و لكن منصف المرزوقي و بعض من رفاقه
رفضوا قبول الصفقة و وجدوا فيها نسخة منقحة من المقايضات القديمة اياها، و ادركوا
مبكرا ان الثمن لن يقتصر على فقدان حركة حقوق الانسان لشرفها فحسب، بل إثارة شهية
النظام لينقض بعد ذلك على فصائل المعارضة غير الدينية و تقويض حتى الهامش الديمقراطي
المتاح … و هذا ما جرى بالفعل.
لقد دفع المنصف المرزوقي الثمن بعد ذلك،
و قضى ثلاثة شهور خلف القضبان دون محاكمة – بعد اضطراره في فبراير 1994 للتخلي عن
ترشيحه نفسه لرئاسة الرابطة التونسية لحقوق الانسان – تاديبا له على تهوره بترشيح
نفسه في انتخابات رئاسة الجمهورية التي تجرى بنظام الاستفتاء و خرج من السجن ليجد
استاذ الطب نفسه محروما من التدريس لتلاميذه، و ممنوعا من السفر.
لم تكن هذه المعركة الوحيدة للمنصف
المرزوقي، و لكنها كانت المعركة التي لم يتناولها كتابه هذا، والذي صدرت طبعته
الأولى في تونس، وكانه لم يصدر، لانه لم يصل إلى قارئه، امتدادا للعقوبة الممتدة
بحق كاتبه، و ليحظى مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان بشرف تقديم الكتاب و كاتبه
للقارئ العربي.
في هذا الكتاب يرسم منصف المرزوقي بريشة
فنان ملامح " الرؤية الجديدة " لحقوق الانسان، بامتداد العلم العربي و في
المنافى في تحديد ملامح رؤية ذلك الجيل لحقوق الانسان.
لا يعني ذلك بالضرورة انني و غيري نتفق
مع الكاتب في كل ما ذهب اليه، ولكن لا يخالجني شك في ان نسيج " الرؤية
الجديدة " التي غزلها الكاتب عبر بصدق عن الهموم الكبرى لحركة حقوق الإنسان
في العالم العربي و وضع عناوين معاركها اليومية.
مقدمـة للطبعــة الثانيـــة
إن الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان هو أول وفاق عالمي و الوفاق الوحيد حاليا للحضارات المختلفة و النظم
السياسية المتنافسة، حول مفهوم "الإنسان". هو اول مشروع جماعي للانسانية
( تحقيق هذه الحقوق في كل مكتن ). هو نقطة الانطلاق لمئات الاعلانات و المواثيق و
المعاهدات المنظمة "نظريا" على للعلاقات الانسانية داخل ما يسمى بالقرية
الارضية. هو بالتالي نقطة تحول في تاريخ الانسانية. و هذا ما يجعلني اجزم بانه أهم
حدث فكري – قيمي – سياسي لهذا القرن.
نحن نجهل هل سيذهب هذا التحول بعيدا، ام
انه على العكس محاولة اخرى فاشلة سيجهضها انتشار الحرب الاقتصادية العالمية و غرق
اغلب بلدان الجنوب و تقوقع الغرب على مصالحه الآنية و إلتهاب أيدولوجيات الاحتجاج
الدينية و العرقية الرافضة للفوضى العالمية الجديدة، و اخيرا و ليس آخرا انتصار
جديد للدكتاتوريات التي تدّعي النها الدواء الانجع لفوضى هي احدى مظاهرها و ليست
احدى حلولها.
لا يستطيع بالطبع الرد على مثل هذه
التساؤلات الا كتاب نهاية القرن المقبل الذين قد يراجعون مثل هذا الكتاب فيحكمون
علينا جميعا باننا كنا مبالغين في السذاجة او في التشاؤم، و يقررون ما اذا كانت
حركة حقوق الانسان طفرة عابرة، ام بداية بطيئة و واعدة لتغيرات عميقة في الثقافة و
السياسة على صعيد العالم العربي باسره.
لقد ابرأتنا كوارث هذا القرن من وهم
التقدم " الحتمي" ووصفات الخلاص البسيط و اصبحنا واعين بان القرن المقبل
مهدد بتراجعات ضخمة في كل الميادين باستثناء التكنولوجيا، و من ثم ترانا لا نعرف
في أي ظروف سيحي مناضلو التحرر ذكرى الإعلان العالمي في ديسمبر او مائويته الثانية
سنة .
هل سيحتفل به انذاك كل العالم كما تحتفل
فرنسا اليوم بثورة و امريكا بوثيقة الاستقلال، ام ستحتفل به فلول مشردة و مطاردة
في اقبية مظلمة هربا من نظم استمدت من الثورة التكنلوجية قوة رهيبة لاحكام قبضتها
على شعوب خائفة متناحرة ارجعتها الحرب الاقتصادية الضروس و الكارثة البيئية و
القنبلة الديموغرافية الى الحلول الجاهزة البسيطة العرقية و الشوفينية و الدينية ؟
الثابت انه بعد اقل من سنتين في يوم 10
ديسمبر 199 ستحتفل الانسانية في ظروف يتقاسمها الامل و الاحباط بمرور نصف قرن على
ولادة الاعلان، هذه الوثيقة العظمى التي تستلهم منها اليوم كل حركات حقوق الانسان
في العالم، مباذئها و مواقفها.
و بهذه المناسبة ستكثر الخطب و الكتابات
و سيستسلم المتفائلون لتفائلهم حول انتشار مفاهيم الاعلان و تكاثر مؤسسات المجتمع
المدني الوطني و الدولة التي تناضل من اجلها إلخ، و سيستسلم المتشائمون لتشائمهم و
مللين على الهوة السحيقة التي تفصل بين النظرية و الواقع و على الاخطار الجسيمة
التي تترصد مكتسبات هشة الخ … الخ.
انني لا اريد مرحليا ان ادخل في مثل هذا
النقاش لا لانه سابق لاوانه فحسب، و انما لاعتقادي ان التقييم الموضوعي لتغلغل
مفاهيم حقوق الانسان في الفعل الثقافي و الفعل السياسي، في مجتمعات متباينة
المشاكل و المرجعيات و درجة النمو الاقتصادي اشكالية صعبة للغاية و ان نصف قرن
يعتبر فترة ضئيلة جدا لمثل هذا التقييم.
الا انه من المؤكد اليوم ان انتشار حركة
حقوق الانسان فكرا و تنظيما عالميا و محليا هي من اهم الظواهر الاجتماعية و
الحضارية و السياسية التي عرفتها نهاية هذا القرن.
لقد برزت مثلا على الصعيد العالمي في
الستينات مؤسسة كمنظمة " العفو الدولية " و هي تظم اليوم قرابة مليون
عضو في سبعين بلدا ثم تبعتها منظمات عديدة اخرى اما مختصة بموضوع كالحق في البيئة
او الحرمة الجسدية او التبادل الثقافي او بجزء من الانسانية ( المرأة – الطفل –
الاقليات ) او بالدفاع عن حقوق محددة من قبل اهل الذكر انفسهم ( صحافيون بدون
حدود، الحقوقيون الدوليون، اطباء من اجل حقوق الانسان الخ…) .
اما على الصعيد الوطني فلا يكاد يخلو
اليوم بلد الا و فيه منظمة او عدة منظمات تدافع عن حقوق الإنسان، ناهيك عن الفروع
المحلية لكبرى المنظمات الإنسانية العالمية المتواجدة فيه.
و لم يكن من الممكن بالطبع ان تبقى
الامة العربية خارج نطاق هذه الحركة العالمية، و قد كانت تونس اول من عرفت تنظيما
نابعا من المجتمع المدني مستقلا عن السلطة و عن الاحزاب السياسية يعنى بنشر مفاهيم
حقوق الانسان و الدفاع عنها و ذلك عندما سمحت السلطة بعد خمس سنوات من المماطلة و
التسويف للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان بالعمل الشرعي ابتداء من
لقد شكلت هذه المؤسسة التي تشرفت
برئاستها من الى 199 في ظروف بالغة الصعوبة، طيلة سنوات نموذجا للعديد من المؤسسات
المماثلة التي ظهرت في بداية الثمانينات في كل من المغرب و الجزائر و مصر و
موريطانيا و لبنان ثم جاء ظهور المنظمة العربية لحقوق الانسان سنة حدثا هاما لانه
مكّن كل حركات حقوق الانسان العربية من ان تتلاقى و ان تتبادل خبراتها داخل مؤسسة
مشتركة.
لقد كان تكاثر هذه المنظمات ابتداء من
الثمانينيات دلالة على نضج قطاعات هامة من المجتمعات العربية و تعبيرا عن ظهور
حاجات ماسة جديدة و عن بحث جزء من النخب عن مفاهيم جديدة و اليات جديدة للنضال
الفكري و الاجتماعي و السياسي من اجل المشاركة في تحرر الوطن و الانسان العربي و
ذلك بعد تعدد الخفاقات الاديولوجية و الحزبية.
و من الملفت للنظر ان هذه المنظمات
الانسانية المتكاثرة و المتداخلة في شبكات متزايدة التعقيد و طنيا و قوميا و
عالميا ليست الا الجزء البارز من ظاهرة عامة تتجاوزنا جميعا.
فلسفة " حقوق الانسان " ليست
فقط قيم نخب المجتمعات المدنية لمقاومة نظم الحكم عندما تستبد، و انما هي اليوم
قاعدة القانون الدولي نفسه.
ان مئات المواثيق و الاعلانات و
المعاهدات التي سنتها الامم المتحدة لتحدد للدول علاقاتها بمواطنيها و ببعضها
البعض ( و التي تفاخر اغلب دولنا بانها و فعتها و ابرمتها ) هي وليدة الخيار
الفكري – السياسي الذي انطلق منذ قرابة خمسين سنة بوثسقة اعلان الامم المتحدة و
الذي تحددت مبادئه العامة بالاعلان العالمي لحقوق النسان، ثم جاءت ابتداء من
الستينات العهود و المواثيق و الاعلانات لتحدد و تتعمق و تركز على هذا المبدأ أو
ذاك ( ضد التعذيب – حقوق الطفل – حقوق المراة – حقوق الافليات الخ … ) و كلها الى
اخر المطاف الاغصان التي تولدت من جذع واحد و هو الاعلان.
ليس المهم ان نسارع هنا الى القول بانها
بقيت اغلب الوقت حبرا على ورق، و انما المهم الانتباه الى ان اغلبية الدول و منها
دولنا العربية اعترفت بقيمة الاعلان عندما وقعت هذه المعاهدات. لذلك هو في ان واحد
المرجع الاول لحركات حقوق الانسان وطنيا و عالميا، أي انه مرجعية كل اشكال
المعارضات السلمية و الديمقراطية و في نفس الوقت الاطار المحدد لواجبات الدول و
منها الدول التي تنتهك مبادئه و تضطر الى التسليم بها.
و من ثم التناقضات الضخمة التي تعرفها
الانظمة العربية، و المواجهات الدائمة بينها و بين حركات حقوق الانسان عربيا و
دوليا. ان أغلب المجتمعات العربية ممزقة اليوم بين ضرورة التغيير و صعوبته نظرا
لهيمنة انظمة لا تريد او لا تستطيع التاقلم مع حاجيات شعوبها و متطلبات العصر، و
هي ان تفعل فعادة اما بصفة متاخرة، او محتشمة، هذا عندما لا تعمد الى التزييف
المفضوح.
ان اغلب انتهاكات حقوق الانسان التي
يعاني منها الانسان العربي تتعلق بمصادر هذه الانظمة لحقه في الراي و التنظيم، و
اختيار من يحكمه وفق التتيبات الديمقراطية، كما تتعلق بمصادر الفوضى العالمية الجديدة
لحقوقه الاقتصادية و الاجتماعية في ظل تفاقم الفساد محليا و عالميا و توسّع الهوة
بين الفقراء و الأغنياء و اعتبار التعليم و الصحة و السكن سعا للصرف و التصريف و
الحال إنها حقوق غير قابلة للتصرف.
ان ثبات أنظمتنا على اليات و مفاهيم
تجاوزتها التكنولوجيا و الأيديولوجيا، ناهيك عن الوضع العالمي المعقد هو اخطر مولد
للعنف الذي يقدم نفسه كبديل، و الحال انه لا يزيد الا الطين بلة معطيا للأنظمة
العربية شبابا جديدا و مشروعية جديدة ( مقاومة الإرهاب ).
هكذا تجد اليوم حركة حقوق الإنسان
العربية نفسها بين كماشتي القمع و العنف اذ هي تناضل من جهة ضد الاستبداد و ترفض
العنف مهما كان مصدره و تبريره.
إن المتأمل لحالة المنظمات العربية
لحقوق الإنسان في هذه الفترة بالضبط يواجه بظاهرة تكاد تكون عامة أي المحاصة و
التطويق و التهميش و الضرب و التفويض في الوقت الذي تتصاعد فيه خطورة الانتهاكات
للحقوق الأساسية للإنسان العربي .
نحن ألان أمام وضع مزدوج و معقد يتمثل
من جهة في بروز المنظمات و انتشار الأفكار و القيم و من جهة أخرى في حرب ضروس تشن
ضد هذه المنظمات و هذه الأفكار أو القيم من هذا الطرف او ذاك.
لا شئ إذا يمكن ان يظر بنا اليوم قدر
المغالاة في التفاؤل بالتركيز على ديناميكية فكر حقوق الإنسان و انتشار منظماته و
تغلغل قيمه الشيء الذي اجبر كل الأنظمة و الدول على الانخراط على الأقل تشريعا و
لفظيا في سياق هذه المنظمة الفكرية – السياسة الجديدة الخ …
لا زال أمامنا الكثير من العقبات و
العراقيل قبل أن نتمكن – إذا تمكنا – من ترويض الدولة و جعلها في خدمة المجتمع و
ليس العكس و قبل أن ننتقل من وضعية الرعايا الى وضعية المواطنين و قبل أن يصبح
بديهيا للكل أن لكل مواطن الحق في حرمته الجسدية و في الرأي المخالف و في عضوية
التنظيم السلمي، و في اختيار من يحكمه. نحن سنواجه طبعا في هذه المعركة الطويلة
النفس بالدولة و آلياتها القديمة و مصالح الفئات التي تركب ظهر اسد السلط مرحليا،
ناسية أن لا أحد يمتطي ظهر الأسد إلى الأبد و بدون تكلفة باهضة وهو فوقه.
الأخطر من كل هذا أننا سنكتشف بسرعة أن
هذه الدولة العربية الاستبدادية ليست في آخر المطاف إلا إفرازة من إفرازات مجتمع
هو نفسه استبدادي، و انه إذا كانت "الناس على دين ملوكها" فالملوك كذلك
على دين ناسها فأغلب جيوب انتهاكاتها حقوق الإنسان كانتهاك حقوق المرأة و التعصب
الفكري و الديني، و الاستفراد ب " الحقيقة " هي أمراض اجتماعية منتشرة و
متغلغلة.
أن أهم الصعوبات قد تأتي من المجتمع
نفسه و قد يتضح في يوم ما أن اسهل التغييرات هو تغيير الدولة.
في المقابل لا شيء يمكن أن يضربنا اليوم
قدر المغالاة في التشاؤم بالتركيز على كل الصعوبات التي تتعرض لها حركتنا فهذه
الصعوبات و ثمنها الباهض لا تعني أن علينا أن نستسلم للإحباط و اليأس.
إن كان هناك مصدر لتفاؤلنا فليكن وعينا
بعمق تاريخنا في هذه الميادين و بعظمة الاشتراك في حلم هو اليوم حلم كل الإنسانية
و ليس حلم هذه الحضارة أو تلك و بحيوية القوى الاجتماعية التي أصبحت إرادة
المشاركة في صنع القرار العام عندها مطلبا لا رجعة فيه.
لقد اصبح اليوم المطلب الديمقراطي وهو
الجزء السياسي المحض لحقوق الإنسان ( من الإعلان ) تيارا قويا داخل المجتمع و
الدولة نفسها و أصبحت تتجمع حوله قوى فاعلة و مؤثرة داخل المجتمع، سواء أكان ذلك
في شكل نقابات أو أحزاب، او تنظيمات مهنية و إنسانية.
نحن لسنا أيضا نخبا معزولة متغربة
تتعالى على الجماهير، فالمجتمع العربي هو الذي افرزنا، كنخب جديدة لنمده بالأفكار
و المشاريع الجديدة التي هو في أمس الحاجة اليها لمواكبة العصر و التأقلم مع
التغيرات الهائلة التي أحدثها في عمقه انتشار الإعلام و التعليم و الاحتكاك
بالشعوب و الثقافات الأخرى. هو عهد الى قوى أخرى بترجمة حنينه الى الماضي و خوفه
من التغيير المفروض عليه ( و هي أمور مشروعة و يجب تفهمها و احترامها ) و لكنه عهد
الينا بترجمة حنينه الى المستقبل و إعداده لتغيير لا مفر منه.
نحن لسنا نبتة غريبة زرعت في هذه الأرض
و إنما حلقة من سلسلة قديمة قدم الأمة نفسها. نحن نواصل نضال من حاربوا ضد واد
البنات في الجاهلية كالبدوي صعصعة بن ناجي بن عقل، و من ناضلوا طوال أربعة عشرة
قرنا من اجل العدل و الاعتدال و حرية الفكر و العقل و المساواة كابن عربي و المعري
و ابن المقفع الخ…
نحن بهذا لا نفعل إلا وضع أنفسنا في
سياق حركة التحرر الآتية من أعماق الزمان لأن " حقوق الإنسان " ليست إلا
الصيغة العصرية لمطالب بعضها قديم قدم الإنسانية نفسها.
الفارق الوحيد أننا ننطق بلغة العصر حسب
ضروريات العصر فلا يمكن اليوم أن نستفرد بمشروع لأننا لسنا جزيرة في محيط و لا أن
نفرض مشروعنا على كل الأمم لأننا لا نستطيع ذلك كما لا نستطيعه أحد و من ثم فالحل
الأوحد هو مواصلة نضال آبائنا و أجدادنا عبر المشاركة في رؤية جماعية و حلم جماعي
يوحد اليوم لغة و تصرفات بشر من القارات الخمس و من مختلف الأديان و الأجناس.
الثابت اليوم انه ليست هناك قوة ما تضمن
لنا انتصار قيمنا وانما الأمر موكول في جزء هام منه إلى نضالنا على كل الأصعدة و
منها الفكري.
يكتسب النضال الثقافي هنا أهميته القصوى
لأن ( Althusser ) على حق عندما
يقول أن المعارك النظرية هي معارك سياسية في النظرية و أن ربح المعركة الفكرية هو
الشرط الأول لربح المعركة السياسية.
و في هذه المرحلة من تطور المشروع
الفكري – السياسي لا بد من الوعي بالأمراض الفتاكة التي تهدد المشروع و هي كثيرة و
من مصادر مختلفة.
هناك طبعا استحواذ النظم الاستبدادية
العربية على الخطاب بكلماته و شعاراته و أفكاره لافراغه من كل محتوى حقيقي.
هناك ازدواجية الخطاب التي تمارسها
النظم الغربية و سياسية الكيل بمكيالين و كلها أمور تضرب في الصميم مصداقية
المشروع خاصة عند الشباب.
يضاف إلى هذا انه مازال يروج بإصرار
غريب على أن مفاهيم حقوق الإنسان تتنافى مع الإسلام، و إنها مرفوضة لأنها غربية
المصدر مشبوهة النوايا و الجذور.
لابد إذن من التصدي للهجمات العنيفة أو
الإستراتيجيات الخبيثة التي تريد أن تضرب مصداقية و قيم فكر حقوق الإنسان، برفع
الإلتباسات، و دحض التشويه و إدانة كل ضروب الازدواجية و الاستعمال الرخيص لقيم و
مبادئ لا تتحمل التفويض و التمويه. لا بد خاصة من التعريف الإيجابي و البناء لفكر
نير و عقلاني و تقديمه للأجيال الصاعدة و إقناعها بمصداقيته و فاعليته لتهيأتها
على الصعيد الفكري لاندماج في ملحمة العالم و الإنسانية ككل، دون عقدة نقص او عقدة
تفوق، لتنهى عن المنكر ( بلغة العصر ) و تأمر بالمعروف ( بلغة العصر ) لتهيئ لخلق
و تصريف نظم سياسية فعالة بالمشاركة الجماعية و التقييم الدائم، إنسانية بقدرتها
على تطويق العنف و تعهّد الأمان الجماعي عبر تمكين كل الناس من حقوقها المشروعة.
ان هذه هي وظيفة المثقف الملتزم بقضايا
عصره. و قد حاولت أن اضطلع يوما بنصيبي المتواضع من المهمة علما بأنه عمل جماعي
مسترسل و لا نهاية له، و لان النضال الثقافي لا يكون الا توفر عنصر ضغط الحاجة
الجماعية و استعداد الفرد لان يكون صوت هذه الحاجة فإنني و جدت نفسي منذ السبعينات
منخرطا في معركة فكرية لم اكن واعيا في البداية حتى إن لها اسما هو حقوق الإنسان.
لقد علمتني التجربة إن إشكالية حقوق
الإنسان ليست كما يتصورها البعض قضية سياسية بحتة، تتلخص في نوع من المعارضة
الأنيقة، فالموضوع مطروح على كل مستويات الاهتمامات البشرية و الطريف في كل الامر إنني
جئت مثلا الى هذه الإشكالية من باب الطب بعد أن درست موضوع التجارب الطبية على
الإنسان فاكتشفت الخروقات الهائلة التي يتعرض لها الإنسان مريضا أو سويا من قبل
مهنة هي نظريا المهنة الأقرب إلى تواجه فطري غريزي للحفاظ على الإنسان و حقوقه
وذلك عندما يعتبر الطب نفسه مسؤولا بالدرجة الأولى عن غول اسمه "تقدم
العلة" أو "مصلحة الدولة" أو "مصلحة" لمجتمع" لا عن
الإنسان المتألم الذي بين يديه.
انه من السهل جدا نقد الدولة و
استبدادها و انتهاكاتها ( متناسين أن أغلب سياسات التحديث في عالمنا العربي انطلقت
منها ) و قد فعلت ذلك في كتاب "دع وطني يستيقظ" فدخل الكتاب السجن سنوات
طويلة و وقفت اكثر من مرة أمام القضاء للدفاع عن حقي في الرأي و التعبير.
لكن ماذا عن صلف العقائديين العلمانيين
منهم و المتدينين على حد السواء و الهوس الذي يمتلكهم عندما يسجنون العقل في قوالب
جاهزة يدعون أنها صالحة في كل مكان و زمان، ممهدين بذلك لكل أشكال العنف ؟
إن معارضة الاستبداد في السلطة بقى
دورانا في حلقة مفرغة إذ كان المشروع استبدال استبداد بآخر، لذلك كتبت في كتابي
"سجن العقل" للتركيز على هذا الخطر المتجدد. إلا أن الطامة الكبرى كانت
في اكتشافي لمدى الفوضى الفكرية عند بعض مناضلي حقوق الإنسان أنفسهم و اتضح لي
آنذاك أن أهل مكة ليسوا أدرى بشعبها.
لقد وقف يوما أحدهم في أحد مؤتمرات
الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ليدين باسم القومية ترشيح مواطن يهودي للهيئة
المديرة لأنه يهودي و واجهته آنذاك بالقول إنني فخور بعروبتي لأن الأمة العربية هي
الأمة العربية الوحيدة التي جعلت على مر العصور من زنجي هو عنترة رمزها للشجاعة، و
من مسيحي هو حاتم الطائي رمزها للكرم، و من يهودي هو السمو أل رمزها للوفاء، و
عندما جائت حرب الخليج فقدت كل المفاهيم تماسكها، و اشتدت الفوضى الفكرية و رأيت
مناضلي حقوق الإنسان ينادون في المظاهرات بالحرب الكيماوية، و يفاضلون بين
الدكتاتوريات و يضعون حقوق الشعوب في تناقض مع حقوق الإنسان، و اتضح آنذاك أن اهون
خصم هو النظام الاستبدادي و أن معركة الأفكار لا بد أن تربح داخل حركة حقوق
الإنسان نفسها و من ثم جاء هذا الكتاب و ما تبعه ( الإنسان الحرام ) مواصلة
لمحاولة إرساء دعائم فكر عربي مسلم لحقوق الإنسان ينطق بلغة الضاد، يواصل تيارا
هاما في تاريخنا و يربطنا بحركة فكرية عالمية نتأثر بها و نؤثر عليها في تناغم
ضروري بين الخصوصية و العالمية.
لقد ولد هذا الكتاب في تونس سنة 94شبه
ميت و بعد مخاض مؤلم فقد سحبت أفلامه من المطبعة و سحب من المعارض و لم تجرأ صحيفة
تونسية واحدة علىالاشارة إلى ظهوره فما بالك بالتعليق عليه؟
وكانت محتنه جزءا من محنتي ومحنة حركة
حقوق الإنسان التونسية وأحد مظاهرها .
ومن ثم أقدم امتناني وعميق شكري لمركز
القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ، الذي أتمنى له |أن يكون نقطة إشعاع للقيم الجديدة
، فلولاه لما أعطى هذا الكتاب فرصة أخرى للحياة .
ان "بعثه" في القاهرة لهو
دلالة على أن حركة حقوق الإنسان العربية ترفض كل محاولات الإجهاض وأنها قادرة
بتآزرها وتضمنها على تطويق العراقيل، وما أكثر الصعوبات والتحديات التي ستضل
تنتظرنا على طريق التحرر والكرامة، لكن ما أروع الإنجازات التي تدعونا والتي نحن
قادرون على تحقيقها. ألسنا من أمة تعلم أبناءها أنه "لو تعلقت همة المرء
بالعرش لناله" .
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب