اقتصاديات اللغة العربية – البعد المنسي

اقتصادياتاللغة العربية – البعد المنسي

د.رضا المنسي*
اللغة ليست قيمة في حد ذاتها، وإنما تنطوي على قيمة. وتمثل هذه القيمة قيمة اقتصادية من الممكن أن تضفي قيمة مضافة كبيرة على الاقتصاد القومي!! فهي تعد أداة -مثل النقود - تنطوي على تسهيل تلبية خيارات الأفراد وتوسيع مجال الفعللديهم. فإذا كانت النقود وسيطاً للتبادل فإن اللغة تسهل التبادل؛وبالتالي تضيف اللغة قيمة اقتصادية إلى حائزيها تحتاج إلى وضع معايير لتحديدها. وقديماً رأى النبي سليمان عليه السلام أن كلام الفرد العادل كالفضة الخالصة. ولذلك تحولت الكلمات إلى شيء يمكن نفاده أو نادر أو له قيمة؛ لأن تكلم الفرد بكلمات معينة يتطلب نفقات سابقة من أجل إنتاج هذه الكلمات تتمثل في نفقات تعلم اللغة.
وأصبح النظر للغات بوصفها سلعاً أمراً مسوّغاً بما أن اكتسابها بوصفها لغات أجنبية يتطلب نفقات. وتمثل هذه النفقات الأساس الاقتصادي لصناعة كاملة: ناشرين، ودور طباعة، ومدارس لغات، واستديوهات تسجيل مواد سمعية وبصرية، ومنتجين لبرامج تعليم اللغة بالحاسب ... الخ. وهناك لغات مختارة قليلة يمكنها أن تعزز صناعة كهذه، وهى اللغات التي يوجد عليها طلب كبير في السوق الدولية للغات لقيمتها الاقتصادية المرتفعة، والتي ليس من بينها اللغة العربية.
وتعد اللغة بالنسبة لاقتصاد السوق مسألة محورية. وتنشأ أهميتها الكبيرة من كون النشاط الاقتصادي يعتمد على الاتصال بدرجة كبيرة، وأن العناصر الأساسية للاتصال الاقتصادي عناصر لغوية. ولن يستطيع الفرد إنتاج العمل في الأسواق دون تمكنه من أداة لغوية معينة، هي لغة سوق العمل الذي يرغب العمل فيه. وتعد المعرفة القاصرة للفرد بلغة سوق العمل مثل عدم توافر رأس مال نقدي لدى رجل الأعمال الذي يريد إنشاء مشروع معين. وعلى الرغم من عدم وجود نشاط اقتصادي من دون اتصال، فإن الاتصال يستلزم نفقات ترجع جزئياً إلى التعدد اللغوي في العالم. وسواء كان هناك فهم اقتصادي أم لا، فإن الاستثمار في لغة معينة لغرض أو لآخر هو مسألة نفقات وأرباح.
وتتطلب اللغة نفقات استثمارية كبيرة تعجز السوق الخاصة عن توفيرها؛ وهو ما يجعل من الخطورة ترك الاستثمار في اللغة كلية لآليات السوق الحرة. وهنا يتحتم تدخل الدولة من أجل إزالة " فشل السوق " الذي يوجد في سوقاللغة بدرجة أكبر منه في سوق الصناعات التقليدية. إلا أن تحليل البعدالاقتصادي للغة ليس بهذه السهولة. فقد يصبح ضخ أموال عامة في بعض اللغاتخياراً غير رشيداً وفقاً لآلية " النفقة – العائد "؛ لأن هذاالاستثمار لن يحقق أويعد بتحقيق عوائد اقتصادية مناسبة في حالة انخفاضالقيمة الاقتصادية للغة في السوق الدولية للغات. ويصعبعلى الدولة حين ذلك إيجاد مبرر اقتصادي لشعبها لضخأموال عامة في لغة لا تعد بتحقيق عائد مناسب. وهنا يستند دعم اللغة إلىالبعد الآخر لها وهو قيمتها الثقافية كمبرر لقرار الإنفاق الذي يسير في اتجاه مضاد لمنطق السوق.
ورغم تفوق اللغة العربية على جميع لغات العالم في القيمة الثقافية بوصفها لغة القرآن الكريم ولغة الضاد، إلا أن قيمتها الاقتصادية تتأخر كثيراً مقارنة بكثير من هذه اللغات. فرجل الأعمال السعودي – على سبيل المثال - لا يستطيع أن يتعامل في سوق أمريكية من دون تمكن كاف من الإنجليزية، بينما يستطيع رجل الأعمال الأمريكي القيام بأعمال في السعودية دون إتقان العربية. وهذا يدل على أن القيمة الاقتصادية للغة الإنجليزية في السوق السعودية أكبر من القيمة الاقتصادية للغة العربية في السوق الأمريكية.
وإدخال اللغة في الدراسات الاقتصادية لا يزال أمراً مجهولاً في عالمنا العربي، رغم كثرة ما كتب عن ذلك في العالم الغربي. ويفرض واقع اللغة العربية سواء في أسواقها المحلية أو في السوق الدولية للغات على الحكومات والاقتصاديين إدخال البعد الاقتصادي لهذه اللغة في حيز اهتمامهم خاصة عندما نفاجأ بتفوق اللغة العبرية على اللغة العربية في السوق الدولية للغات رغم صغر حجم جماعتها اللغوية والانحسار التدريجي للغة العربية أمام بعض اللغات الأخرى في أسواقها المحلية - وخاصة الأسواق الخليجية - لعوامل اقتصادية.
فمتى يأتي الوقت الذي تسعى فيه الحكومات العربية إلى رفع القيمة الاقتصادية للغة العربية في السوق الدولية للغات والعمل على تسويقها عالمياً بما يؤدي إلى جعلها مورداً للدخل القومي يفوق كثيراً من الصناعت التقليدية ؟
تبدو أن الخيارات محدودة، ولا يوجد خيار لتطوير اللغة العربية إلا خيار وضع القيمة الاقتصادية لها في بؤرة الاهتمام، والإقلاع عن نظرتنا التقليدية لها التي تمجد قيمتها الثقافية .. وفقط.
*أستاذ مساعد اقتصاد ومالية عامة- جامعة الملك سعود