غسيل الأموال وبيان
حكمه
في الفقه الإسلامي
والنظم المعاصرة
الدكتور
عبد الله محمد عبد الله
مستشار
سابق بمحكمتي التمييز والدستورية بدولة الكويت
(طبعة
تمهيدية)
مقدمة
ومدخل:
الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
تلقيت
دعوة كريمة من عمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ورئيس اللجنة التحضيرية
للمؤتمر الثالث للاقتصاد الإسلامي الذي سيعقد بإذن الله تعالى بجامعة أم القرى
بمكـة المكرمـة خلال شهر محرم 1424هـ- مارس2003م للمشاركة في هذا المؤتمر، وقد
رأيت الاستجابة لهذه الدعوة والمشاركة عن طريق الكتابة في إحدى الموضوعات التي
بينتها المحاول، ورأيت موضوع "غسيل الأموال" من الموضوعات التي تستحق أن
يُعنى بـها عناية خاصة لأنـها من الموضوعات التي تتصل بالاقتصاد الإسلامي وبالتالي
تـهم البنوك الإسلامية أيضاً.
ويهتم العالم اليوم به عناية كبيرة إدراكاً من
المجتمع الدولي لآثارها السلبية على الاستقرار الاقتصادي وبخاصة على مناخ
الاستثمار المحلي والدولي، ولذلك زاد الاهتمام بطرق مواجهتها من قبل العديد من
الدول والمنظمات الدولية والمراكز الدولية الكبرى، حيث تهدد هذه الظاهرة الاقتصاد
العالمي بل اقتصاديات العالم النامي ومن بينها البلاد العربية والإسلامية، ومن ثم
تشكلت مجموعة الدول السبع[i]
بل الثمان بعد انضمام روسيا إليها لبحثه، وقد أصدرت تقريرها وملاحقها في إبريل
1990 بعد دراسة استمرت سبعة أشهر وتضمن التقرير 40 نقطة في برنامج يتعامل مع موضوع
غسيل الأموال على مستوى عالمي، وسيأتي بيانـها خلال البحث.
وإذا ما
بحثنا عناصر هذا الموضوع على عجل يظهر لنا أن مفهوم غسيل الأموال أو الجريمة
البيضاء أو الاقتصاد الخفي كما يُطلق عليه فريق من الباحثين ويقصد منه إضفاء صفة
المشروعية على أموال متحصلة من طرق غير مشروعة، ويحدد البعض الأعمال غير المشروعة
في صور منها:
1-
التجارة في المخدرات، وأنشطة البغاء والدعارة.
2-
الأموال المتحصلة بسبب الرشوة أو الفساد الإداري والاختلاس.
3-
الأموال المتحصلة عن التهرب من الضرائب.
4-
الأموال المتحصلة مقابل صفقات الأسلحة.
5-
الأموال المتحصلة مقابل أعمال التجسس الدولي.
6-
الأموال المتحصلة عن تزييف النقد والشيكات المصرفية، وتزوير الاعتمادات السندية،
وغيرها كما سيأتي خلال البحث.
كل هذه
الدخول التي تتحقق من الأنشطة السابقة غير مسجلة في الحسابات القومية للدول،
وتتدرج تحت مسمى الاقتصاد الخفي التي لا تسجل ضمن حسابات الناتج القومي إما بسبب
التهرب من التزامات قانونية أو بسبب أن هذه الأنشطة تعد مخالفة للقانون.
وإذا
دققنا النظر في هذه الأموال ومصادرها ثم في طرق الالتواء التي يسلكها أصحابـها
لإخفائها أو إظهارها بمظهر الكسب المشروع نجد أن الفقه الإسلامي قد عنى عناية
كبيرة في دراستها أو التحذير من مغبتها ديناً ودنيا على مات سنذكره في الفصول
التالية.
وسنتناول
فيما يأتي المكاسب وبيان الحلال والحرام منها، ثم بيان الدور الرقابي الذي قرره
الفقه الإسلامي عن طريق تفعيل دور المحتسب في المجتمع، ثم الطرق التي سنها الإسلام
في التخلص من المال الحرام في المباحث التالية:
المبحث
الأول: في بيان طرق الكسب المشروعة في الإسلام.
المبحث
الثاني: في الكسب غير المشروع (الحرام والشبهة).
المبحث
الثالث: في إجراء مقارنة بين الأموال المعدنية لدى القائلين بغسل الأموال وفي
الفقه الإسلامي.
المبحث
الرابع: في طرق مواجهة الكسب غير المشروع في الشريعة الإسلامية والنظم المعاصرة.
! ! !
المبحث الأول
في بيان طرق الكسب
المشروعة
في هذا
المبحث نتناول مسألة الكسب المشروع من خلال ثلاثة مؤلفات لثلاثة من كبار الأئمة
هم: الإمام محمد حسن الشيباني، والإمام أبي الحسن الماوردي، والإمام أبي حامد
الغزالي.
كتب
الإمام محمد بن الحسن من أئمة الحنفية في المكاسب وشرحه الإمام
أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي في المبسوط، وقد عُرّف الاكتساب بأنه تحصيل المال
بما حلَّ من الأسباب، وقال: إن الكسب يُستعمل في كل باب، وقد قال تعالى )أنفقوا من طيبات ما كسبتم([ii] وقال تعالى )وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت
أيديكم([iii]، أي بجنايتكم على
أنفسكم وقد سمَّى جناية المرء على نفسه كسبا.
وقال جل
وعلا في آية السرقة "جزاءً بما كسبا"[iv]،
أي باشر بارتكاب المحظور، فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الإطلاق منه
اكتساب المال، واستفتح الإمام محمد بن الحسن كتابه ببعض الآثار، ومن ذلك قول
الإمام عمر بن الخطاب وكان يُقدم درجة من الكسب على درجة الجهاد فيقول (لأن أموت
بين شعبتي جبل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إليّ من أن أُقتل مجاهداً في
سبيل الله، لأن الله تعالى قدَّم الذين يضربون في الأرض ليبتغوا من فضله على
المجاهدين بقوله تعالى ) وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله( الآية[v].
ثم ذكر
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه فإذا يداه
قد اكتبتا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أضرب بالمر والمسحاة
لأنفق على عيالي، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: " كفان يحبهما
الله تعالى"[vi].
وفي هذا
بين أن المرء باكتساب ما لا بد منه ينال من الدرجات أعلاها، وإنما ينال ذلك بإقامة
الفريضة ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان فرضاً بمنـزلة الطهارة
لأداء الصلاة.
ثم قال
وبيان ذلك من وجوه:
أحدها-
أنه لا يمكنه من أداء الفرائض إلا بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة،
ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب بالانتهاب، والانتهاب يستوجب العقاب، وفي
التغالب فساد، والله لا يحب الفساد، فعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت.
وكذلك لا
يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة، وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له ذلك إلا
بالاكتساب عادة، ومالا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضاً[vii].
وللإمام
الماوردي فلسفة متكاملة عن نظرية الكسب ويربطها بصلاح أمر الدنيا التي صلاحها من
وجهين:
أحدهما
ما ينتظم به أمور الناس جميعاً، والآخر ما يصلح به حال كل واحد من أهلها، ويقول:
هما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه، وبيَّن أن صلاح الدنيا
لا يتحقق إلا بستة قواعد، هي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب
دائم، وأمل فسيح، ويسترسل في بيان وتوضيح هذه الأمور الستة ومدى ارتباطها وشدة
علاقتها بصلاح أمر الدنيا وأهلها لو تتبعناها لخرج بنا عنا المقصود، ولكن نكتفي
بذكر شيء مما له صلة بموضوعنا وهي القاعدة الثالثة وهي المادة الكافية، ويقول في
توضيح هذه القاعدة لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى )وما جعلناهم جسداً لا يأكلون
الطعام وما كانوا خالدين([viii] فإذا عدم المادة
التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة ولم يستقم دين، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من
الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه لأن الشيء القائم بغيره
يكمل بكماله ويختل باختلاله.
ويتناول
سد حاجات الناس من وجهين: بمادة وكسب، فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية
بذواتـها، وهي شيئان: نبت نام، وحيوان متناسل، قال تعالى (وأنه هو أغنى وأقنى)[ix]
أي: أغنى بالمال وأقنى: جعل لهم قِنية وهي أصول الأموال.
وأما
الكسب فيكون بالأفعال الموصلة إلى المادة والتصرف المؤدي إلى الحاجة وذلك من
وجهين:
أحدهما:
تقلبٌ في تجارة، والثاني: تصرفٌ في صناعة.
وهذان
هما فرع لوجهي المادة فصارت أسباب المواد المألوفة وجهات المكاسب المعروفة من
أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة.
وحُكي عن
المأمون أنه قال: معايش الناس على أربعة أقسام: زراعة، وصناعة، وتجارة، وإمارة،
فمن خرج عنها كان كلاًّ عليها[x].
ولا يسمح
المقام بتتبع ما جادت به قريحة الإمام وكلامه الممتع وقلمه السيّال في توضيح جوانب
هذه المواد الأربع، ولكن انظر دقة كلامه وحصافة رأيه وهو يتكلم عن الصناعة أنـها
تنقسم إلى صناعة فكر وصناعة عمل وصناعة مشتركة بين فكر وعمل، وأن أشرف الصناعات
صناعة الفكر، وهذه تنقسم إلى قسمين:
أحدهم ما
وقف على التدبيرات الصادرة عن نتائج الآراء الصحيحة كسياسة الناس وتدبير البلاد.
والثاني
ما أدت إلى المعلومات الحادثة عن الأفكار النظرية.
ويُقّسم
صناعة العمل إلى مرتبتين أيضاً: أعلاه رتبة العمل الصناعي وهو الذي يحتاج إلى
معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره وإلى عمل يدوي وكد كنقل الأحجار وحمل الأثقال
وهو دون الأول في الرتبة[xi].
وإذا
تأمل العاقل فيما كتبه هذا الحبر وما وضع من منهج في كتابه "أدب الدنيا
والدين" لو وضعه السامعون موضع التنفيذ لكانوا رواداً في عالم الصناعة.
ولا
يفوتنا ونحن نتحدث عن العمل المشروع والكسب الحلال أن نُعرج على ما كتبه الإمام
الغزالي في كتاب "الإحياء " في مباحث آداب الكسب والمعاش، فقد قسَّم
الناس إلى ثلاثة أقسام: رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل شغله معاده
عن معاشه فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده
فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السراء
ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب
الشريعة.
ويذكر
آداب التجارة والصناعات وضروب الاكتساب وسننها ويشرحها في خمسة أبواب كالآتي:
الباب
الأول: في فضل الكسب والحث عليه.
الباب
الثاني: في علم صحيح البيع والشراء والمعاملات.
الباب
الثالث: في بيان العدل في المعاملة.
الباب
الرابع: في بيان الإحسان فيها.
الباب
الخامس: في شفقة التاجر على نفسه ودينه[xii].
وتناول
في الباب الثاني الكلام على جملة من الأبواب المعاملات، فقال: الباب الثاني في علم
الكسب بطريق البيع والربا والسلم والإجارة والقراض والشركة وبيان شروط الشرع في
صحة هذه التصرفات التي هي مدار الكسب في الشرع.
ويحث على
تحصيل علم هذا الباب وانه واجب على كل مسلم مكتسب، لأن طلب العلم فريضة على كل
مكتسب والمكتسب يحتاج إلى علم الكسب وأنه بتحصيله علم هذا الباب يقف على مفسدات
المعاملة فيتقيها وما شدَّ عنه من فروع المشكلة فيقع على سبب إشكالها فيتوقف فيها
إلى أن يسأل فإنه إذا لم يعلم أسباب الفساد بعلم إجمالي فلا يدري متى يجب عليه
التوقف والسؤال، فلا بد من هذا القدر من علم التجارة ليتميز له المباح من المحظور
وموضع الإشكال عن موضع الوضوح.
وخصَّ
هذه العقود الستة لأن المكاسب لا تنفك عنها وهي: البيع والربا والسلم والإجارة
والشركة والقراض.
وأحكامها
مفصلة في كتب الفقه على المذاهب وكذلك في مكتب التفسير والأحاديث المتعلقة
بالأحكام، ولهذا نتجاوزها ونخص بعض ما جاء في كتاب الإحياء لأنه غالباً لا يبحثها
الفقهاء.
فمثلاً
عندما يتكلم على عقد الربا يؤكد أن الله تعالى حرَّمه وشدد الأمر فيه وينبه على
وجوب الاحتراز فيه على الصيارفة المتعاملين على النقدين وعلى المتعاملين على
الأطعمة، إذ لا ربا إلا في نقد أوفي طعام، وعلى الصيرفي أن يحترز من النسيئة
والفضل، أما النسيئة بأن لا يبيع شيئاً من جواهر النقدين إلا يداً بيد وهو أن يجري
التقابض في المجلس وهذا احتراز من النسيئة، وتسليم الصيارفة الذهب إلى دار الضرب
وشراء الدنانير المضروبة حرام من حيث النساء ومن حيث إن الغالب أن يجري فيه تفاضل
إذ لا يرد المضروب بمثل وزنه.
وأما
الفضائل فيحترز في ثلاثة أمور: في بيع المسكر بالصحيح فلا تجوز المعاملة فيهما إلا
مع المماثلة، وفي بيع الجيد بالردئ فلا ينبغي أن يشتري رديئاً بجيد دونه في الوزن،
أو يبيع رديئاً بجيد فوقه في الوزن أعني إذا باع الذهب بالذهب والفضة بالفضة فإن
اختلف الجنسان فلا حرج في الفضل، والثالث في المركبات من الذهب والفضة كالدنانير
المخلوطة من الذهب والفضة إن كان مقدار الذهب مجهولاً لم تصح المعاملة عليها أصلاً
إلا إذا كان ذلك نقداً جارياً في البلد فإنا نرخص في المعاملة عليه إذا لم يقابل
بالنقد وكذا الدراهم المغشوشة بالنحاس إن لم تكن رائجة في البلد لم تصح المعاملة
عليها لأن المقصود منها النقرة وهي مجهولة، وإن كان نقداً رائجاً في البلد رخصنا
المعاملة لأجل الحاجة[xiii].
وتحدث في
الباب الثالث عن العدل واجتناب الظلم في المعاملة، وينّبه في هذا الباب على أمر جد
خطير فيذكر أن المعاملة قد تجري على وجه يحكم المفتي بصحتها وانعقادها ولكن تشتمل
على ظلم يتعرض به المعامل لسخط الله تعالى إذ ليس كل نـهي يقتضي فساد العقد، وهذا
الظلم يعني به ما استضرَّ به الغير وهو منقسم إلى ما يعمّ ضرره وإلى ما يخص
المعامل.
ويذكر
فيما يعمّ ضرره أنواعاً منها:
1-
الاحتكار، فبائع الطعام ينتظر به غلاء الأسعار وهو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع،
وذُكر عن بعض أهل العلم في قوله تعالى "ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم نذقه منع
عذاب أليم"[xiv].إن
الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد.
2- ترويج
الزيف من الدراهم في أثناء النقد، فهو ظلم إذ يستضرّ به المعامل إن لم يعرف وإن
عرف فسيروجه على غيره فكذلك الثالث والرابع ولا يزال يتردد في الأيدي ويعم الضرر
ويتسع الفساد ويكون وزر الكل وباله راجعاً إليه فإنه هو الذي فتح هذا الباب.
وذكر
أن في الزيف خمسة أمور:
الأول:
أنه إذا رُدّ عليه شيء منه فينبغي أن يطرحه في بئر بحيث لا تمتد إليه اليد وإياه أن
يروجه في بيع آخر، وإن أفسده بحيث لا يمكن التعامل به جاز.
الثاني:
أنه يجب على التاجر تعلم النقد لا ليستقصي لنفسه ولكن لئلا يسلم إلى مسلم زيفاً
وهو لا يدري فيكون آثماً بتقصيره في تعلم ذلك العلم.
الثالث:
إنه إن سلم وعرف العامل أنه زيف لم يخرج عن الإثم لأنه ليس يأخذه إلا ليروجه على
غيره ولا ليخبره ولو لم يعزم على ذلك لكان لا يرغب في أخذه أصلاً، فإنما يتخلص من
إثم الضرر الذي يخص معاملة فقط.
الرابع:
أن يأخذ الزيف ليعمل بقوله صلى الله عليه وسلم" رحم الله امرءا سهل البيع سهل
الشراء سهل القضاء سهل الاقتضاء"[xv]،
فهو داخل في بركة هذا الدعاء إن عزم على طرحه في بئر، وإن كان عازماً على روجه
فهذا شر روّجه الشيطان عليه.
الخامس:
وهو خاص بالنقود المزيفة.
أما ما
يخص ضرره العامل فهو كل ما يستضرّ به العامل وإنما العدل أن لا يضر بأخيه المسلم،
والضابط الكلي أن لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه فكل ما لو عومل به شقّ عليه وثقل
على قلبه فينبغي أن لا يُعامل غيره به[xvi].
هذا وليس
مقصودنا في هذا المبحث استقصاء أبواب المعاملات فإن ذلك يخرج بنا عن المقصود وقد
تكفلت كتبه الفقه بيان ذلك.
المبحث الثاني
في الكسب غير المشروع
]الحرام والشبهةnad]فصَّل
الإمام الغزالي الكلام على الحلال والحرام في الكتاب الرابع من ريع العائدات من كتاب "إحياء علوم
الدين"، ونحن نجتزئ منه ما يتصل ببحثنا وقد أحلنا على كتب الفقه ما يتصل بطلب
الحلال، أما المال الحرام فقد قال: إن المال الحرام إنما يحرم إما لمعنى في عينه
أو خلل في جهة اكتسابه.
أما
الحرام لصفة في عينه كالخمر والخنزير وغيرهما وتفصيله أن الأعيان المأكولة على وجه
الأرض لا تعدو على ثلاثة أقسام: فإنـها إما أن تكون من المعادن كالملح والطين
وغيرهما أو من النبات أو من الحيوانات.
أما
المعادن فهي أجزاء الأرض وجميع ما يخرج منها فلا يحرم أكله إلا من حيث أنه يضر
بالآكل وفي بعضها ما يجري مجرى السم، والخبز لو كان مضرّاً لحرم أكله، وأما النبات
فلا يحرم منه إلا ما يزيل العقل أو يزيل الحياة فمزيل العقل البنج والخمر وسائر
المسكرات ومزيل الحياة السموم ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها.
وأما
الحيوانات فتنقسم إلة ما يؤكل وإلى ما يؤكل وتفصيله في كتاب الأطعمة.
والقسم
الثاني ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه.
ويقول:
وفيه يتسع النظر، لأن أخذ المال إما أن يكون باختيار المال أو بغير اختياره كالذي
يكون بغير اختياره كالإرث، والذي يكون باختياره إما أن لا يكون من مال كالمعادن أو
يكون مالك، والذي أخذ من مالك فإما أن يؤخذ قهراً أو يؤخذ تراضياً، والمأخوذ قهراً
إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكاة الممتنعين
والنفقات الواجبة عليهم، والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ كالبيع والصداق والأجرة
وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل ستة أقسام.
ثم يتكلم
عن درجات الحلال والحرام فيقول: الحرام كله خبيث لكن بعضه أخبث من بعض، والحلال
كله طيب لكن بعضه أطيب من بعض.
إلى أن
يقول: الورع عن الحرام على أربع درجات:
الأول:
ورع العدول وهو الذي يجب الفسق باقتحامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان
والتعرض للنار بسببه، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء.
الثاني:
ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في
التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة والتحرج منه من ورع
الصالحين.
الثالث:
ما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله ولكن يخاف من أداؤه إلى محرم وهو ترك ما لا
بأس به مخافة مما به بأس وهذا ورع المتقين.
الرابع:
ما لا بأس به أصلاً ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس، ولكنه يتناول لغير الله
وعلى غير نية التقوى به على عبادة التقوى به على عبادة الله والامتناع منه وهذا
ورع الصديقين فهذه درجات الحلال جملة.
وأما
الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى وهو الذي يشترط التورع عنه في العدالة وإطراح
سمة الفسق فهو أيضاً على درجات في الخبث، فالمأخوذ بعقد فاسد كالمعاطاة مثلاً فيما
يجوز فيه المعاطاة حرام ولكنه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر بل المغصوب أغلظ
إذ فيه ترك طريق الشرع في الاكتساب وإيذاء الغير، وليس في المعاطاة إيذاء وإنما
فيه ترك طريق التعبد فقط، ثم ترك طريق التعبد
بالمعاطاة أهون من تركه الربا، وهذا التفاوت يدرك بتشديد الشرع وعيده،
والمأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو من يتيم أخبث وأعظم من المأخوذ من قوي أو غني أو
فاسق لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذى، فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث
لا ينبغي أن يذهل عنها فلولا اختلاف درجات العصا لما اختلفت دركات النار[xvii].
ثم يضرب
الأمثال للدرجات الأربع في الورع وشواهدها، فيقول: أما الدرجة الأولى وهي ورع
العدول فكل ما اقتضى الفتوى تحريمه مما يدخل في المداخل الستة التي ذكرناها من
مداخل الحرام لفقد شرط من الشروط فهو الحرام المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق
والمعصية وهو الذي نريده بالحرام المطلق ولا يحتاج إلى أمثلة وشواهد.
وأما
الدرجة الثانية فأمثلتها كل شبهة لا توجب اجتنابـها ولكن يستحب اجتنابـها كما
سيأتي في باب الشبهات، أما ما يجب اجتنابـها فتلحق بالحرام ومنها ما يكره
اجتنابـها كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت، ومنها ما يستحب
اجتنابـها ولا يجب وهو الذي ينـزل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى
ما لا يريبك) [xviii]ونحمله
على نـهي التنزيه.
ثم
يتناول مراتب الشبهات ومثاراتـها وتمييزها عنا الحلال والحرام، ويستشهد بحديث
النعمان ابن بشير المتفق عليه "الحلال بيِِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور
مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع
في الشبهات وقع الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه"[xix].
قال هذا
الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة والمشكل منها المتوسط الذي لا يعرفه كثير من
الناس وهو الشبهة، ثم يتكلم عن الحلال المطلق ويُعرفه بأنه الذي خلا عن ذاته
الصفات الموجبة للتحريم في عينه وانحل عن أسبابه ما تطرق إليه تحريم أو كراهية
ويضرب له كماء المطر الذي يجمعه الإنسان مباشرة.
والحرام
المحض هو ما فيه محرمة لا شك فيها كالشدّة المطربة في الخمر، والنجاسة في البول،
أو حصل بسبب منهي عنه قطعاً كالمحصل من الظلم والربا ونظائره، فهذان طرفان ظاهران
ويلتحق بالطرفين ما تحقق أمره ولكنه احتمل تغيره ولم يكن كذلك الاحتمال سبب يدل
عليه.
ثم تكلم
عن الشبهة ويُعنى بـها ما اشتبه أمره بأن تعارض فيه اعتقادان صدرا عن سببين
مقتضيين للاعتقادين.
ويذكر
مثارات الشبهة وهي خمسة، ونذكرها باختصار:
المثار
الأول: الشك في السبب المحل والمحرم.
وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلاً أو غلب أحد
الاحتمالين، فأن تعادل الاحتمالين كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك،
وإن غلب أحد الاحتمالين بأن صدر عن دلالة معتبرة كان الحكم للغالب وهو على أربعة
أقسام:
الأول:
أن يكون التحريم معلوماً من قبل ثم يقع الشك في المحلل، فهذه الشبهة يجب اجتنابـها
ويحرم الإقدام عليها.
الثاني:
أن يعرف الحل ويشك في المحرم فالأصل الحل وله الحكم.
الثالث:
أن يكون الأصل والتحريم ولكن طرأ ما أوجب تحليله بطن غالب فهو مشكوك فيه والغالب
حله.
الرابع:
أن يكون الحل معلوماً ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن
شرعاً فيرفع الاستصحاب ويقضي بالتحريم إذ إن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع
غالب الظن.
وانتهى إلى
القول بأن كل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى
والاحتياط تركه، فالمقدم عليه لا يكون من زمرة المتقين الصالحين بل من زمرة العدول
الذين لا يقضى في فتوى الشرع بفسقهم وعصيانـهم واستحقاقهم للعقوبة.
المثار
الثاني: للشبهة شك منشئه الاختلاط.
وذلك بان
يختلط الحرام بالحلال ويشتبه الأمر ولا يتميز، وتحته ثلاثة أقسام لأن الخلط لا
يخلو إما أن يقع بعدد لا يحصر من الجانبين أو من أحدهما أو بعدد محصور، فإن اختلط
بمحصور فلا يخلو إما أن يكون اختلاط امتزاج بحيث لا يتميز كاختلاط المائعات أو
يكون اختلاط استبهام مع التميز للأعيان كاختلاط الدور والأفراس، والذي يختلط
بالاستبهام فلا يخلو إما أن يكون مما يقصد عينه كالعروض أو لا يقصد كالنقود، ويأتي
لكل نوع من هذه الأنواع بالأمثلة ومزيد بيان.
المثار
الثالث:
للشبهة أن يتصل السبب المحلل معصية كالبيع قفي وقت النداء يوم الجمعة والبيع على
بيع الغير والسوم على سومه، فكل نـهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن
الامتناع من جميع ذلك ورع وإن لم يكن المستفاد بهذه الأسباب محكوماً بتحريمه،
وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه
والجهل ولا اشتباه هاهنا بل العصيان، وتناول الحاصل من هذه الأمور مكروه والكراهة
تشبه التحريم فإن أُريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجود و إلا فينبغي أن
يُسمى هذا كراهة لا شبهة.
وقسم
الكراهة إلى ثلاث درجات:
الأولى:
منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم، والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة وبينهما
أوساط نازعة إلى الطرفين.
المثار
الرابع: للشبهة: الاختلاف في الأدلة، فإن ذلك كالاختلاف في السبب لأن السبب سبب
لحكم الحل والحرمة والدليل سبب لمعرفة الحل والحرمة فهو سبب في حق المعرفة،وما لم
يثبت في معرفة الغير فلا فائدة لثبوته في نفسه وإن جرى سببه في علم الله وهو إما
أن يكون لتعارض أدلة الشرع أو لتعارض العلامات الدالة أو لتعارض التشابه.
القسم
الأول: أن تتعارض أدلة الشرع، مثل تعارض عمومين من القرآن أو السنة، أو تعارض
قياسين، أو تعارض قياس وعموم، وكل ذلك يورث الشك ويرجع فيه إلى الاستصحاب أو الأصل
المعلوم قبله إن لم يكن ترجيح، فإن ظهر ترجيح جانب الحظر وجب الأخذ به، وإن ظهر في
جانب الحل جاز الأخذ به ولكن الورع تركه واتقاء مواضع الخلاف مهم في الورع في حق
المفتي والمقلد وإن كان المقلد يجوز له أن يأخذ بما أفتى له المفتي الذي يظن أنه
أفضل العلماء.
القسم
الثاني: تعارض العلامات الدالة على الحل والحرمة، كأن يرى عند رجل صالح مالاً
منهوباً فيدل صلاحه على أنه حلال ويدل نوع المال المنهوب على أنه حرام، فيتعارض
الأمران وكذلك يخبر عدل على أنه حرام وآخر على أنه حلال.
القسم
الثالث: تعارض الأشياء في الصفات التي تُناط بـها الأحكام[xx].
الهوامش
(1)
هي الولايات المتحدة الأمريكية- بريطانيا- اليابان- ألمانيا- إيطاليا- فرنسا- كندا
ثم انضمت إليها روسيا فصارت تعرف بمجموعة الثمان.
(2) سورة
البقرة آية (267).
(3)
سورة الشورى آية (30).
(4)
سورة المائدة آية (38).
(5) سورة
المزمل آية (20) وجاء في كنز العمال ج4/123 هذا الأثر بصيغة أخرى قال: عن عمر قال:
ما جاءني أجلي في مكان ما عدا الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأن بين
شعبتي رحلي أطلب من فضل الله وتلا )وآخرون يضربون في
الأرض يبتغون من فضل الله(
] كتاب البيوع باب في الكسب].
(6) انظر
الإصابة في تمييز الصحابة ج3/86 (رقم 3207ز) قال: روى الخطيب في المتفق بإسناد واه
وأبو موسى في الذيل بإسناد مجهول عن الحسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
رجع من تبوك استقبله سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: ما هذا الذي أراك بيدك؟ قال: من
أثر المر والمسحاة أضرب وأنفق على عيالي، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال:
هذه يد لا تمسها النار.
(7)
المبسوط ج30/244 وما بعدها لإلى آخر الكتاب.
(
سورة الأنبياء آية (.
(9)
سورة النجم آية (48).
(10)
كتاب أدب الدنيا والدين، ينظر الباب الرابع في أدب الدنيا.
(11) المصدر السابق.
(12)
إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، كتاب آداب الكسب والمعاش.
(13)
إحياء علوم الدين ج2/70.
(14)
سورة الحج آية (25).
(15) رواه
البخاري من حديث جابر كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبع، النظر
الفتح ج5/210.
(16)الإحياء
ج2/74- 76.
(17)
الإحياء ج2/94، 95.
(18) قال:
قال زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه النسائي والترمذي والحاكم
وصححاه من حديث الحسن بن علي. وانظر كشف الخفاء ومزيل الألباس، قال: رواه أبو داود
والطيالس وأحمد وأبو يعلى في مسانيدهم والدارمي والترمذي وآخرون عن الحسن بن علي
رقم عنده (1307) حرف الدال ج1/489.
(19)
الحديث: قال في تيسي الوصول ج4/166- أخرجه الخمسة من حديث النعمان بن بشير رضي
الله عنه.
(20)
الإحياء ج2/99- 117.
حكمه
في الفقه الإسلامي
والنظم المعاصرة
الدكتور
عبد الله محمد عبد الله
مستشار
سابق بمحكمتي التمييز والدستورية بدولة الكويت
(طبعة
تمهيدية)
مقدمة
ومدخل:
الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
تلقيت
دعوة كريمة من عمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ورئيس اللجنة التحضيرية
للمؤتمر الثالث للاقتصاد الإسلامي الذي سيعقد بإذن الله تعالى بجامعة أم القرى
بمكـة المكرمـة خلال شهر محرم 1424هـ- مارس2003م للمشاركة في هذا المؤتمر، وقد
رأيت الاستجابة لهذه الدعوة والمشاركة عن طريق الكتابة في إحدى الموضوعات التي
بينتها المحاول، ورأيت موضوع "غسيل الأموال" من الموضوعات التي تستحق أن
يُعنى بـها عناية خاصة لأنـها من الموضوعات التي تتصل بالاقتصاد الإسلامي وبالتالي
تـهم البنوك الإسلامية أيضاً.
ويهتم العالم اليوم به عناية كبيرة إدراكاً من
المجتمع الدولي لآثارها السلبية على الاستقرار الاقتصادي وبخاصة على مناخ
الاستثمار المحلي والدولي، ولذلك زاد الاهتمام بطرق مواجهتها من قبل العديد من
الدول والمنظمات الدولية والمراكز الدولية الكبرى، حيث تهدد هذه الظاهرة الاقتصاد
العالمي بل اقتصاديات العالم النامي ومن بينها البلاد العربية والإسلامية، ومن ثم
تشكلت مجموعة الدول السبع[i]
بل الثمان بعد انضمام روسيا إليها لبحثه، وقد أصدرت تقريرها وملاحقها في إبريل
1990 بعد دراسة استمرت سبعة أشهر وتضمن التقرير 40 نقطة في برنامج يتعامل مع موضوع
غسيل الأموال على مستوى عالمي، وسيأتي بيانـها خلال البحث.
وإذا ما
بحثنا عناصر هذا الموضوع على عجل يظهر لنا أن مفهوم غسيل الأموال أو الجريمة
البيضاء أو الاقتصاد الخفي كما يُطلق عليه فريق من الباحثين ويقصد منه إضفاء صفة
المشروعية على أموال متحصلة من طرق غير مشروعة، ويحدد البعض الأعمال غير المشروعة
في صور منها:
1-
التجارة في المخدرات، وأنشطة البغاء والدعارة.
2-
الأموال المتحصلة بسبب الرشوة أو الفساد الإداري والاختلاس.
3-
الأموال المتحصلة عن التهرب من الضرائب.
4-
الأموال المتحصلة مقابل صفقات الأسلحة.
5-
الأموال المتحصلة مقابل أعمال التجسس الدولي.
6-
الأموال المتحصلة عن تزييف النقد والشيكات المصرفية، وتزوير الاعتمادات السندية،
وغيرها كما سيأتي خلال البحث.
كل هذه
الدخول التي تتحقق من الأنشطة السابقة غير مسجلة في الحسابات القومية للدول،
وتتدرج تحت مسمى الاقتصاد الخفي التي لا تسجل ضمن حسابات الناتج القومي إما بسبب
التهرب من التزامات قانونية أو بسبب أن هذه الأنشطة تعد مخالفة للقانون.
وإذا
دققنا النظر في هذه الأموال ومصادرها ثم في طرق الالتواء التي يسلكها أصحابـها
لإخفائها أو إظهارها بمظهر الكسب المشروع نجد أن الفقه الإسلامي قد عنى عناية
كبيرة في دراستها أو التحذير من مغبتها ديناً ودنيا على مات سنذكره في الفصول
التالية.
وسنتناول
فيما يأتي المكاسب وبيان الحلال والحرام منها، ثم بيان الدور الرقابي الذي قرره
الفقه الإسلامي عن طريق تفعيل دور المحتسب في المجتمع، ثم الطرق التي سنها الإسلام
في التخلص من المال الحرام في المباحث التالية:
المبحث
الأول: في بيان طرق الكسب المشروعة في الإسلام.
المبحث
الثاني: في الكسب غير المشروع (الحرام والشبهة).
المبحث
الثالث: في إجراء مقارنة بين الأموال المعدنية لدى القائلين بغسل الأموال وفي
الفقه الإسلامي.
المبحث
الرابع: في طرق مواجهة الكسب غير المشروع في الشريعة الإسلامية والنظم المعاصرة.
! ! !
المبحث الأول
في بيان طرق الكسب
المشروعة
في هذا
المبحث نتناول مسألة الكسب المشروع من خلال ثلاثة مؤلفات لثلاثة من كبار الأئمة
هم: الإمام محمد حسن الشيباني، والإمام أبي الحسن الماوردي، والإمام أبي حامد
الغزالي.
كتب
الإمام محمد بن الحسن من أئمة الحنفية في المكاسب وشرحه الإمام
أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي في المبسوط، وقد عُرّف الاكتساب بأنه تحصيل المال
بما حلَّ من الأسباب، وقال: إن الكسب يُستعمل في كل باب، وقد قال تعالى )أنفقوا من طيبات ما كسبتم([ii] وقال تعالى )وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت
أيديكم([iii]، أي بجنايتكم على
أنفسكم وقد سمَّى جناية المرء على نفسه كسبا.
وقال جل
وعلا في آية السرقة "جزاءً بما كسبا"[iv]،
أي باشر بارتكاب المحظور، فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الإطلاق منه
اكتساب المال، واستفتح الإمام محمد بن الحسن كتابه ببعض الآثار، ومن ذلك قول
الإمام عمر بن الخطاب وكان يُقدم درجة من الكسب على درجة الجهاد فيقول (لأن أموت
بين شعبتي جبل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إليّ من أن أُقتل مجاهداً في
سبيل الله، لأن الله تعالى قدَّم الذين يضربون في الأرض ليبتغوا من فضله على
المجاهدين بقوله تعالى ) وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله( الآية[v].
ثم ذكر
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه فإذا يداه
قد اكتبتا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أضرب بالمر والمسحاة
لأنفق على عيالي، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: " كفان يحبهما
الله تعالى"[vi].
وفي هذا
بين أن المرء باكتساب ما لا بد منه ينال من الدرجات أعلاها، وإنما ينال ذلك بإقامة
الفريضة ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان فرضاً بمنـزلة الطهارة
لأداء الصلاة.
ثم قال
وبيان ذلك من وجوه:
أحدها-
أنه لا يمكنه من أداء الفرائض إلا بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة،
ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب بالانتهاب، والانتهاب يستوجب العقاب، وفي
التغالب فساد، والله لا يحب الفساد، فعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت.
وكذلك لا
يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة، وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له ذلك إلا
بالاكتساب عادة، ومالا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضاً[vii].
وللإمام
الماوردي فلسفة متكاملة عن نظرية الكسب ويربطها بصلاح أمر الدنيا التي صلاحها من
وجهين:
أحدهما
ما ينتظم به أمور الناس جميعاً، والآخر ما يصلح به حال كل واحد من أهلها، ويقول:
هما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه، وبيَّن أن صلاح الدنيا
لا يتحقق إلا بستة قواعد، هي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب
دائم، وأمل فسيح، ويسترسل في بيان وتوضيح هذه الأمور الستة ومدى ارتباطها وشدة
علاقتها بصلاح أمر الدنيا وأهلها لو تتبعناها لخرج بنا عنا المقصود، ولكن نكتفي
بذكر شيء مما له صلة بموضوعنا وهي القاعدة الثالثة وهي المادة الكافية، ويقول في
توضيح هذه القاعدة لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى )وما جعلناهم جسداً لا يأكلون
الطعام وما كانوا خالدين([viii] فإذا عدم المادة
التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة ولم يستقم دين، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من
الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه لأن الشيء القائم بغيره
يكمل بكماله ويختل باختلاله.
ويتناول
سد حاجات الناس من وجهين: بمادة وكسب، فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية
بذواتـها، وهي شيئان: نبت نام، وحيوان متناسل، قال تعالى (وأنه هو أغنى وأقنى)[ix]
أي: أغنى بالمال وأقنى: جعل لهم قِنية وهي أصول الأموال.
وأما
الكسب فيكون بالأفعال الموصلة إلى المادة والتصرف المؤدي إلى الحاجة وذلك من
وجهين:
أحدهما:
تقلبٌ في تجارة، والثاني: تصرفٌ في صناعة.
وهذان
هما فرع لوجهي المادة فصارت أسباب المواد المألوفة وجهات المكاسب المعروفة من
أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة.
وحُكي عن
المأمون أنه قال: معايش الناس على أربعة أقسام: زراعة، وصناعة، وتجارة، وإمارة،
فمن خرج عنها كان كلاًّ عليها[x].
ولا يسمح
المقام بتتبع ما جادت به قريحة الإمام وكلامه الممتع وقلمه السيّال في توضيح جوانب
هذه المواد الأربع، ولكن انظر دقة كلامه وحصافة رأيه وهو يتكلم عن الصناعة أنـها
تنقسم إلى صناعة فكر وصناعة عمل وصناعة مشتركة بين فكر وعمل، وأن أشرف الصناعات
صناعة الفكر، وهذه تنقسم إلى قسمين:
أحدهم ما
وقف على التدبيرات الصادرة عن نتائج الآراء الصحيحة كسياسة الناس وتدبير البلاد.
والثاني
ما أدت إلى المعلومات الحادثة عن الأفكار النظرية.
ويُقّسم
صناعة العمل إلى مرتبتين أيضاً: أعلاه رتبة العمل الصناعي وهو الذي يحتاج إلى
معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره وإلى عمل يدوي وكد كنقل الأحجار وحمل الأثقال
وهو دون الأول في الرتبة[xi].
وإذا
تأمل العاقل فيما كتبه هذا الحبر وما وضع من منهج في كتابه "أدب الدنيا
والدين" لو وضعه السامعون موضع التنفيذ لكانوا رواداً في عالم الصناعة.
ولا
يفوتنا ونحن نتحدث عن العمل المشروع والكسب الحلال أن نُعرج على ما كتبه الإمام
الغزالي في كتاب "الإحياء " في مباحث آداب الكسب والمعاش، فقد قسَّم
الناس إلى ثلاثة أقسام: رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل شغله معاده
عن معاشه فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده
فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السراء
ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب
الشريعة.
ويذكر
آداب التجارة والصناعات وضروب الاكتساب وسننها ويشرحها في خمسة أبواب كالآتي:
الباب
الأول: في فضل الكسب والحث عليه.
الباب
الثاني: في علم صحيح البيع والشراء والمعاملات.
الباب
الثالث: في بيان العدل في المعاملة.
الباب
الرابع: في بيان الإحسان فيها.
الباب
الخامس: في شفقة التاجر على نفسه ودينه[xii].
وتناول
في الباب الثاني الكلام على جملة من الأبواب المعاملات، فقال: الباب الثاني في علم
الكسب بطريق البيع والربا والسلم والإجارة والقراض والشركة وبيان شروط الشرع في
صحة هذه التصرفات التي هي مدار الكسب في الشرع.
ويحث على
تحصيل علم هذا الباب وانه واجب على كل مسلم مكتسب، لأن طلب العلم فريضة على كل
مكتسب والمكتسب يحتاج إلى علم الكسب وأنه بتحصيله علم هذا الباب يقف على مفسدات
المعاملة فيتقيها وما شدَّ عنه من فروع المشكلة فيقع على سبب إشكالها فيتوقف فيها
إلى أن يسأل فإنه إذا لم يعلم أسباب الفساد بعلم إجمالي فلا يدري متى يجب عليه
التوقف والسؤال، فلا بد من هذا القدر من علم التجارة ليتميز له المباح من المحظور
وموضع الإشكال عن موضع الوضوح.
وخصَّ
هذه العقود الستة لأن المكاسب لا تنفك عنها وهي: البيع والربا والسلم والإجارة
والشركة والقراض.
وأحكامها
مفصلة في كتب الفقه على المذاهب وكذلك في مكتب التفسير والأحاديث المتعلقة
بالأحكام، ولهذا نتجاوزها ونخص بعض ما جاء في كتاب الإحياء لأنه غالباً لا يبحثها
الفقهاء.
فمثلاً
عندما يتكلم على عقد الربا يؤكد أن الله تعالى حرَّمه وشدد الأمر فيه وينبه على
وجوب الاحتراز فيه على الصيارفة المتعاملين على النقدين وعلى المتعاملين على
الأطعمة، إذ لا ربا إلا في نقد أوفي طعام، وعلى الصيرفي أن يحترز من النسيئة
والفضل، أما النسيئة بأن لا يبيع شيئاً من جواهر النقدين إلا يداً بيد وهو أن يجري
التقابض في المجلس وهذا احتراز من النسيئة، وتسليم الصيارفة الذهب إلى دار الضرب
وشراء الدنانير المضروبة حرام من حيث النساء ومن حيث إن الغالب أن يجري فيه تفاضل
إذ لا يرد المضروب بمثل وزنه.
وأما
الفضائل فيحترز في ثلاثة أمور: في بيع المسكر بالصحيح فلا تجوز المعاملة فيهما إلا
مع المماثلة، وفي بيع الجيد بالردئ فلا ينبغي أن يشتري رديئاً بجيد دونه في الوزن،
أو يبيع رديئاً بجيد فوقه في الوزن أعني إذا باع الذهب بالذهب والفضة بالفضة فإن
اختلف الجنسان فلا حرج في الفضل، والثالث في المركبات من الذهب والفضة كالدنانير
المخلوطة من الذهب والفضة إن كان مقدار الذهب مجهولاً لم تصح المعاملة عليها أصلاً
إلا إذا كان ذلك نقداً جارياً في البلد فإنا نرخص في المعاملة عليه إذا لم يقابل
بالنقد وكذا الدراهم المغشوشة بالنحاس إن لم تكن رائجة في البلد لم تصح المعاملة
عليها لأن المقصود منها النقرة وهي مجهولة، وإن كان نقداً رائجاً في البلد رخصنا
المعاملة لأجل الحاجة[xiii].
وتحدث في
الباب الثالث عن العدل واجتناب الظلم في المعاملة، وينّبه في هذا الباب على أمر جد
خطير فيذكر أن المعاملة قد تجري على وجه يحكم المفتي بصحتها وانعقادها ولكن تشتمل
على ظلم يتعرض به المعامل لسخط الله تعالى إذ ليس كل نـهي يقتضي فساد العقد، وهذا
الظلم يعني به ما استضرَّ به الغير وهو منقسم إلى ما يعمّ ضرره وإلى ما يخص
المعامل.
ويذكر
فيما يعمّ ضرره أنواعاً منها:
1-
الاحتكار، فبائع الطعام ينتظر به غلاء الأسعار وهو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع،
وذُكر عن بعض أهل العلم في قوله تعالى "ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم نذقه منع
عذاب أليم"[xiv].إن
الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد.
2- ترويج
الزيف من الدراهم في أثناء النقد، فهو ظلم إذ يستضرّ به المعامل إن لم يعرف وإن
عرف فسيروجه على غيره فكذلك الثالث والرابع ولا يزال يتردد في الأيدي ويعم الضرر
ويتسع الفساد ويكون وزر الكل وباله راجعاً إليه فإنه هو الذي فتح هذا الباب.
وذكر
أن في الزيف خمسة أمور:
الأول:
أنه إذا رُدّ عليه شيء منه فينبغي أن يطرحه في بئر بحيث لا تمتد إليه اليد وإياه أن
يروجه في بيع آخر، وإن أفسده بحيث لا يمكن التعامل به جاز.
الثاني:
أنه يجب على التاجر تعلم النقد لا ليستقصي لنفسه ولكن لئلا يسلم إلى مسلم زيفاً
وهو لا يدري فيكون آثماً بتقصيره في تعلم ذلك العلم.
الثالث:
إنه إن سلم وعرف العامل أنه زيف لم يخرج عن الإثم لأنه ليس يأخذه إلا ليروجه على
غيره ولا ليخبره ولو لم يعزم على ذلك لكان لا يرغب في أخذه أصلاً، فإنما يتخلص من
إثم الضرر الذي يخص معاملة فقط.
الرابع:
أن يأخذ الزيف ليعمل بقوله صلى الله عليه وسلم" رحم الله امرءا سهل البيع سهل
الشراء سهل القضاء سهل الاقتضاء"[xv]،
فهو داخل في بركة هذا الدعاء إن عزم على طرحه في بئر، وإن كان عازماً على روجه
فهذا شر روّجه الشيطان عليه.
الخامس:
وهو خاص بالنقود المزيفة.
أما ما
يخص ضرره العامل فهو كل ما يستضرّ به العامل وإنما العدل أن لا يضر بأخيه المسلم،
والضابط الكلي أن لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه فكل ما لو عومل به شقّ عليه وثقل
على قلبه فينبغي أن لا يُعامل غيره به[xvi].
هذا وليس
مقصودنا في هذا المبحث استقصاء أبواب المعاملات فإن ذلك يخرج بنا عن المقصود وقد
تكفلت كتبه الفقه بيان ذلك.
المبحث الثاني
في الكسب غير المشروع
]الحرام والشبهةnad]فصَّل
الإمام الغزالي الكلام على الحلال والحرام في الكتاب الرابع من ريع العائدات من كتاب "إحياء علوم
الدين"، ونحن نجتزئ منه ما يتصل ببحثنا وقد أحلنا على كتب الفقه ما يتصل بطلب
الحلال، أما المال الحرام فقد قال: إن المال الحرام إنما يحرم إما لمعنى في عينه
أو خلل في جهة اكتسابه.
أما
الحرام لصفة في عينه كالخمر والخنزير وغيرهما وتفصيله أن الأعيان المأكولة على وجه
الأرض لا تعدو على ثلاثة أقسام: فإنـها إما أن تكون من المعادن كالملح والطين
وغيرهما أو من النبات أو من الحيوانات.
أما
المعادن فهي أجزاء الأرض وجميع ما يخرج منها فلا يحرم أكله إلا من حيث أنه يضر
بالآكل وفي بعضها ما يجري مجرى السم، والخبز لو كان مضرّاً لحرم أكله، وأما النبات
فلا يحرم منه إلا ما يزيل العقل أو يزيل الحياة فمزيل العقل البنج والخمر وسائر
المسكرات ومزيل الحياة السموم ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها.
وأما
الحيوانات فتنقسم إلة ما يؤكل وإلى ما يؤكل وتفصيله في كتاب الأطعمة.
والقسم
الثاني ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه.
ويقول:
وفيه يتسع النظر، لأن أخذ المال إما أن يكون باختيار المال أو بغير اختياره كالذي
يكون بغير اختياره كالإرث، والذي يكون باختياره إما أن لا يكون من مال كالمعادن أو
يكون مالك، والذي أخذ من مالك فإما أن يؤخذ قهراً أو يؤخذ تراضياً، والمأخوذ قهراً
إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكاة الممتنعين
والنفقات الواجبة عليهم، والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ كالبيع والصداق والأجرة
وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل ستة أقسام.
ثم يتكلم
عن درجات الحلال والحرام فيقول: الحرام كله خبيث لكن بعضه أخبث من بعض، والحلال
كله طيب لكن بعضه أطيب من بعض.
إلى أن
يقول: الورع عن الحرام على أربع درجات:
الأول:
ورع العدول وهو الذي يجب الفسق باقتحامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان
والتعرض للنار بسببه، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء.
الثاني:
ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في
التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة والتحرج منه من ورع
الصالحين.
الثالث:
ما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله ولكن يخاف من أداؤه إلى محرم وهو ترك ما لا
بأس به مخافة مما به بأس وهذا ورع المتقين.
الرابع:
ما لا بأس به أصلاً ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس، ولكنه يتناول لغير الله
وعلى غير نية التقوى به على عبادة التقوى به على عبادة الله والامتناع منه وهذا
ورع الصديقين فهذه درجات الحلال جملة.
وأما
الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى وهو الذي يشترط التورع عنه في العدالة وإطراح
سمة الفسق فهو أيضاً على درجات في الخبث، فالمأخوذ بعقد فاسد كالمعاطاة مثلاً فيما
يجوز فيه المعاطاة حرام ولكنه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر بل المغصوب أغلظ
إذ فيه ترك طريق الشرع في الاكتساب وإيذاء الغير، وليس في المعاطاة إيذاء وإنما
فيه ترك طريق التعبد فقط، ثم ترك طريق التعبد
بالمعاطاة أهون من تركه الربا، وهذا التفاوت يدرك بتشديد الشرع وعيده،
والمأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو من يتيم أخبث وأعظم من المأخوذ من قوي أو غني أو
فاسق لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذى، فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث
لا ينبغي أن يذهل عنها فلولا اختلاف درجات العصا لما اختلفت دركات النار[xvii].
ثم يضرب
الأمثال للدرجات الأربع في الورع وشواهدها، فيقول: أما الدرجة الأولى وهي ورع
العدول فكل ما اقتضى الفتوى تحريمه مما يدخل في المداخل الستة التي ذكرناها من
مداخل الحرام لفقد شرط من الشروط فهو الحرام المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق
والمعصية وهو الذي نريده بالحرام المطلق ولا يحتاج إلى أمثلة وشواهد.
وأما
الدرجة الثانية فأمثلتها كل شبهة لا توجب اجتنابـها ولكن يستحب اجتنابـها كما
سيأتي في باب الشبهات، أما ما يجب اجتنابـها فتلحق بالحرام ومنها ما يكره
اجتنابـها كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت، ومنها ما يستحب
اجتنابـها ولا يجب وهو الذي ينـزل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى
ما لا يريبك) [xviii]ونحمله
على نـهي التنزيه.
ثم
يتناول مراتب الشبهات ومثاراتـها وتمييزها عنا الحلال والحرام، ويستشهد بحديث
النعمان ابن بشير المتفق عليه "الحلال بيِِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور
مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع
في الشبهات وقع الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه"[xix].
قال هذا
الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة والمشكل منها المتوسط الذي لا يعرفه كثير من
الناس وهو الشبهة، ثم يتكلم عن الحلال المطلق ويُعرفه بأنه الذي خلا عن ذاته
الصفات الموجبة للتحريم في عينه وانحل عن أسبابه ما تطرق إليه تحريم أو كراهية
ويضرب له كماء المطر الذي يجمعه الإنسان مباشرة.
والحرام
المحض هو ما فيه محرمة لا شك فيها كالشدّة المطربة في الخمر، والنجاسة في البول،
أو حصل بسبب منهي عنه قطعاً كالمحصل من الظلم والربا ونظائره، فهذان طرفان ظاهران
ويلتحق بالطرفين ما تحقق أمره ولكنه احتمل تغيره ولم يكن كذلك الاحتمال سبب يدل
عليه.
ثم تكلم
عن الشبهة ويُعنى بـها ما اشتبه أمره بأن تعارض فيه اعتقادان صدرا عن سببين
مقتضيين للاعتقادين.
ويذكر
مثارات الشبهة وهي خمسة، ونذكرها باختصار:
المثار
الأول: الشك في السبب المحل والمحرم.
وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلاً أو غلب أحد
الاحتمالين، فأن تعادل الاحتمالين كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك،
وإن غلب أحد الاحتمالين بأن صدر عن دلالة معتبرة كان الحكم للغالب وهو على أربعة
أقسام:
الأول:
أن يكون التحريم معلوماً من قبل ثم يقع الشك في المحلل، فهذه الشبهة يجب اجتنابـها
ويحرم الإقدام عليها.
الثاني:
أن يعرف الحل ويشك في المحرم فالأصل الحل وله الحكم.
الثالث:
أن يكون الأصل والتحريم ولكن طرأ ما أوجب تحليله بطن غالب فهو مشكوك فيه والغالب
حله.
الرابع:
أن يكون الحل معلوماً ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن
شرعاً فيرفع الاستصحاب ويقضي بالتحريم إذ إن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع
غالب الظن.
وانتهى إلى
القول بأن كل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى
والاحتياط تركه، فالمقدم عليه لا يكون من زمرة المتقين الصالحين بل من زمرة العدول
الذين لا يقضى في فتوى الشرع بفسقهم وعصيانـهم واستحقاقهم للعقوبة.
المثار
الثاني: للشبهة شك منشئه الاختلاط.
وذلك بان
يختلط الحرام بالحلال ويشتبه الأمر ولا يتميز، وتحته ثلاثة أقسام لأن الخلط لا
يخلو إما أن يقع بعدد لا يحصر من الجانبين أو من أحدهما أو بعدد محصور، فإن اختلط
بمحصور فلا يخلو إما أن يكون اختلاط امتزاج بحيث لا يتميز كاختلاط المائعات أو
يكون اختلاط استبهام مع التميز للأعيان كاختلاط الدور والأفراس، والذي يختلط
بالاستبهام فلا يخلو إما أن يكون مما يقصد عينه كالعروض أو لا يقصد كالنقود، ويأتي
لكل نوع من هذه الأنواع بالأمثلة ومزيد بيان.
المثار
الثالث:
للشبهة أن يتصل السبب المحلل معصية كالبيع قفي وقت النداء يوم الجمعة والبيع على
بيع الغير والسوم على سومه، فكل نـهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن
الامتناع من جميع ذلك ورع وإن لم يكن المستفاد بهذه الأسباب محكوماً بتحريمه،
وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه
والجهل ولا اشتباه هاهنا بل العصيان، وتناول الحاصل من هذه الأمور مكروه والكراهة
تشبه التحريم فإن أُريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجود و إلا فينبغي أن
يُسمى هذا كراهة لا شبهة.
وقسم
الكراهة إلى ثلاث درجات:
الأولى:
منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم، والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة وبينهما
أوساط نازعة إلى الطرفين.
المثار
الرابع: للشبهة: الاختلاف في الأدلة، فإن ذلك كالاختلاف في السبب لأن السبب سبب
لحكم الحل والحرمة والدليل سبب لمعرفة الحل والحرمة فهو سبب في حق المعرفة،وما لم
يثبت في معرفة الغير فلا فائدة لثبوته في نفسه وإن جرى سببه في علم الله وهو إما
أن يكون لتعارض أدلة الشرع أو لتعارض العلامات الدالة أو لتعارض التشابه.
القسم
الأول: أن تتعارض أدلة الشرع، مثل تعارض عمومين من القرآن أو السنة، أو تعارض
قياسين، أو تعارض قياس وعموم، وكل ذلك يورث الشك ويرجع فيه إلى الاستصحاب أو الأصل
المعلوم قبله إن لم يكن ترجيح، فإن ظهر ترجيح جانب الحظر وجب الأخذ به، وإن ظهر في
جانب الحل جاز الأخذ به ولكن الورع تركه واتقاء مواضع الخلاف مهم في الورع في حق
المفتي والمقلد وإن كان المقلد يجوز له أن يأخذ بما أفتى له المفتي الذي يظن أنه
أفضل العلماء.
القسم
الثاني: تعارض العلامات الدالة على الحل والحرمة، كأن يرى عند رجل صالح مالاً
منهوباً فيدل صلاحه على أنه حلال ويدل نوع المال المنهوب على أنه حرام، فيتعارض
الأمران وكذلك يخبر عدل على أنه حرام وآخر على أنه حلال.
القسم
الثالث: تعارض الأشياء في الصفات التي تُناط بـها الأحكام[xx].
الهوامش
(1)
هي الولايات المتحدة الأمريكية- بريطانيا- اليابان- ألمانيا- إيطاليا- فرنسا- كندا
ثم انضمت إليها روسيا فصارت تعرف بمجموعة الثمان.
(2) سورة
البقرة آية (267).
(3)
سورة الشورى آية (30).
(4)
سورة المائدة آية (38).
(5) سورة
المزمل آية (20) وجاء في كنز العمال ج4/123 هذا الأثر بصيغة أخرى قال: عن عمر قال:
ما جاءني أجلي في مكان ما عدا الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأن بين
شعبتي رحلي أطلب من فضل الله وتلا )وآخرون يضربون في
الأرض يبتغون من فضل الله(
] كتاب البيوع باب في الكسب].
(6) انظر
الإصابة في تمييز الصحابة ج3/86 (رقم 3207ز) قال: روى الخطيب في المتفق بإسناد واه
وأبو موسى في الذيل بإسناد مجهول عن الحسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
رجع من تبوك استقبله سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: ما هذا الذي أراك بيدك؟ قال: من
أثر المر والمسحاة أضرب وأنفق على عيالي، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال:
هذه يد لا تمسها النار.
(7)
المبسوط ج30/244 وما بعدها لإلى آخر الكتاب.
(
سورة الأنبياء آية (.
(9)
سورة النجم آية (48).
(10)
كتاب أدب الدنيا والدين، ينظر الباب الرابع في أدب الدنيا.
(11) المصدر السابق.
(12)
إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، كتاب آداب الكسب والمعاش.
(13)
إحياء علوم الدين ج2/70.
(14)
سورة الحج آية (25).
(15) رواه
البخاري من حديث جابر كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبع، النظر
الفتح ج5/210.
(16)الإحياء
ج2/74- 76.
(17)
الإحياء ج2/94، 95.
(18) قال:
قال زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه النسائي والترمذي والحاكم
وصححاه من حديث الحسن بن علي. وانظر كشف الخفاء ومزيل الألباس، قال: رواه أبو داود
والطيالس وأحمد وأبو يعلى في مسانيدهم والدارمي والترمذي وآخرون عن الحسن بن علي
رقم عنده (1307) حرف الدال ج1/489.
(19)
الحديث: قال في تيسي الوصول ج4/166- أخرجه الخمسة من حديث النعمان بن بشير رضي
الله عنه.
(20)
الإحياء ج2/99- 117.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب