شيخ علماء الإسلام
محمد زاهد الكوثري
عصره وآراؤه
دراسة تحليلية
لمؤلفاته
وآرائه الإصلاحية
تأليف
الدكتور عمار جيدل
كلية العلوم الإسلامية
جامعة الجزائر
E-mail. /
rdjidel@ayna.com
الإهداء
بسم الله وكفى، والصلاة والسلام على
النبي المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه أجمعين ومن سار على سنتّه و اقتدى
بهديه إلى يوم الدين، وبعد
يمثّل هذا العمل العلمي ثمرة من ثمرات
قلعة من قلاع العلوم الإسلامية في العالم الإسلامي بصفة عامة و الجزائر على الخصوص
- كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر-لهذا يشرفني أن أهديه إلى كل من حمل آمال
الأمة وآلامها في قلبه وعقله، إلى كل عامل على تجسيد أصالة أمته برنامجا في الثقافة والحضارة
والاجتماع و السياسة، إليكم جميعا أقدم هذا المؤلف.
كما أهديه إلى كل من رفض بيع دينه
بدنياه إلى كل من مال عن الانخراط في سلك الفساد-على تنوّع أشكاله- و الإفساد،
إليكم أيها المرابطون دون أصالة الأمة.
مقدمة الطبعة الأولى
يقوم العلماء بدور كبير و أساسي في
إصلاح التصور النظري الذي يعد الأرضية الأساسية لأي بناء حضاري واقع أو متوقّع،
لما للتصورات من علاقة وطيدة بالسلوك والأفعال والأحوال،لهذا يمر فهم المجتمعات باستيعاب
مؤلفات معاصريهم وفهمها فهما دقيقا.
ولا شك أن مفتاح فهم العصر الحديث قراءة
منتج علمائه وربطه بمصادره في الثقافة الإسلامية.
ومساهمة منا في فهم العصر والخلل الطارئ
عليه آثرت الكتابة عن شيخ علماء الإسلام محمد زاهد الكوثري.
وقد وقع اختيارنا على لهذا الأنموذج لما
يتوفّر عليه من عناصر رئيسة تسمح بقراءة متأنية للخلل الطارئ على العصر وسبل
معالجتها في فكر الرجل ، إذ تلخّصت في تجربته التعليمية والإصلاحية أنصع صورة
المقاومة الفكرية في ظل مشاكسات تعرّض لها منذ أيام التعلّم والتعليم إلى أن وسّد
في التراب، وقد تجلت تلك المشاكسة فيما يأتي:
1- حاصرته التيارات الظاهرية في العصر الحديث،فأصبح بموجب ذلك تحت
طائلة الإقصاء والإبعاد عن مراكز القرار الثقافي و التعليمي،بل عدت كتبه شبيهة
بالهروين والكوكايين إن لم تكن أخطر لدى البعض.
2- عمل الشيخ على ضفتين،جابه في الأولى التيار الظاهري ، وواجه في
الثانية تيار (التبديد) التجديد وفق المناهج الغربية،فحاول من خلال مواجهة
الفريقين إعادة مجد الإسلام وثقافته الأصيلة.
عزمت على كسر هذا الحصار والإقصاء
المسلّط عليه، وتسليط الضوء على هذه الشخصية العلمية الرائدة.
ومما زاد من تعلّقنا بالموضوع تميّز
الرجل بمجموعة من الميزات افتقدناها في علماء عصره،لعل أهمها:
1- عرف بجرأة فاق بها أقرانه،فكان يعزو الأقوال إلى أصحابها ويرد
الرأي إلى أصوله ويناقش أدلة هذا الفريق وذاك،غير آبه بالمصدر الذي صدرت منه،
رائده في كل ذلك الحق والحقيقة، فتراه يناقش من المتقدمين الإمام أحمد بن
حنبل،والخطيب البغدادي،و الجويني، والغزالي، والرازي، وابن تيمية، وابن القيم، …أما من المتأخرين فناقش محمد عبده ومحمد
بن عبد الوهاب، ومصطفى صبري، والمعلمي، ومحب الدين الخطيب، و…بالإضافة
إلى الفلاسفة والمستشرقين والمتغربين من أبناء جلدتنا.
2- حاول على غير المألوف بين علماء عصره الربط بين الجانبين النظري
والسلوكي في العقيدة الإسلامية،من هذا المنطلق سعى إلى بعث الأبعاد الوظيفية
للعقائد الإسلامية.
3- دوّن تعليقات متنوعة – في شتى فنون العلوم الإسلامية- لا يفرط
فيها باحث جاد،فكانت تعليقاته وتحقيقاته أهم من النصوص المحققة أو المعلّق عليها
كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة.
و رغم ما قلناه فقد وجدنا باحثين يصفونه
بأشنع الصفات،فهو عندهم(أنظر التفاصيل في ثنايا البحث) أشبه بالأفاك الكاذب ، هو
عند فريق آخر بقية السلف الصالح،فمن هو يا ترى هذا الرجل؟ وما درجة صحة هذه
الأحكام؟ وما القول الفصل في شأنه؟
الإجابة التفصيلية تستدعي وضع خطة نتوخى
من خلالها التعريف بالرجل تعريفا وافيا، ولكننا قبل ذلك ملزمون من الناحية
المنهجية بالتعريف بعصره بوصفه الجو الذي عاش فيه فاعلا ومتفاعلا، من هذا المنطلق
كانت خطتنا في العمل على النحو الآتي:
أولا:حديث عن مسرح الأحداث
ثانيا:التيارات السياسية التي عاصرها
ثالثا:التيارات الثقافية التي عاصرها
رابعا: مولد الشيخ ونشأته العلمية
خامسا:جهاده العلمي والسياسي
سادسا: سماته الأخلاقية ومنزلته ووفاته
جعلت عمدتي في الكتابة
عن الرجل مؤلفاته أولا ثم ما كتب عنه ،فكان أول ما استثمر ما كتبه عن نفسه في ثنايا
مؤلفاته وخاصة كتابه " التحرير
الوجيز فيما يبتغيه المستجيز" وجدناه حافلا
بتراجم شيوخه ، وبعض أعلام الحنفية،كما استفدت من كتابه
"إرغام المريد في شرح النظم العتيد "ضمنه تراجم
بعض شيوخه أيضا،و استفاد الباحث من الترجمة الوافية التي كتبها تلميذه أحمد خيري
رحمه الله في كتابه الموسوم "تاريخ
الكوثري"، وما أنجزه الأستاذ حامد إبراهيم
في أصول الدين بالأزهر القاهرة،بالإضافة إلى بحثنا عنه، المقدم لنيل درجة دكتوراه
دولة في أصول الدين (تخصص عقيدة)من جامعة الجزائر، والذي كان عنوانه"الكوثري وآراؤه
العقدية(المنهج والتطبيق « كما
استفدت من كتب أخرى تناولت الحديث عنه عرضا، مثل ما كتبه الشيخ محمد أبو زهرة ،
ويوسف البنوري ،و سلامة القضاعي والشيخ يوسف الدجوي، وحسام الدين القدسي وعلي سامي
النشار …هذه
عيّنة من المؤلفات التي استثمرتها في إنجاز هذا البحث، ولنا عودة إليه في قابل
الأيام وفق ما تجود به دور النشر والتوزيع من مراجع ومؤلفات جديدة أو مقالات.
قدّمنا هذا الجهد
خدمة لأولئك الذي عملوا على خدمة أمتهم في زمن قلّ فيه الاهتمام ببعث مشروع حضاري
مؤسس على أصالتنا في جو ما يحيط بنا من إكراهات محلية و جهوية ودولية، وإسهاما منا
في بعث الاهتمامات الحضارية في جيلنا الحاضر وتعهدا منا لبذرة المقاومة الفكرية
لدى أبنائنا من أجل تجسيد البناء
الحضاري المنشود في المستقبل.
والله من وراء القصد
وهو يهدي السبيل
وصلى الله على سيدنا
محمد
وعلى آله الطيبين
الطاهرين وصحبه أجمعين
أولا: مسرح الأحداث
1/1 فرشة عن
الدولة العثمانية
فهم شخصيات عثمانية
تركية، يقتضي الإحاطة بالظروف الحضارية التي كانت فيها هذه الشخصية فاعلة
ومتفاعلة، لهذا أرى نفسي ملزما بعرض صورة مختصرة عن تلك الظروف السياسية والفكرية
والاجتماعية،لنر دفه بعد ذلك بتعريف موجز بشخصيتنا المختارة ومجمل آرائها
الإصلاحية ومنزلتها.
عاش هؤلاء هذا العلم أعزّ أيامهم في كنف
الدولة العثمانية وبالتحديد في أواخر أيامها ، دولة كانت نواتها الأولى عشيرة من
الترك تسكن في أنحاء الأناضول([1])، لهذا بدأت الدولة وفق السنن الكونية صغيرة على
يد عثمان بن أرطغرل(699هـ/1299م)
([2]) المتحمّس
للعقيدة الإسلامية ومشاورة الفقهاء، حيث أوصى
ابنه وهو على فراش الموت بتوقير العلماء والتزام الشرع الشريف، والتشاور مع أربابه
في كل ما تقدم عليه، وعليك بتعظيم أمر الله والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته([3])
فظهرت الدولة العثمانية قوية منذ أيامها
الأولى ،جمعت إلى الطبيعة العسكري لأفراد جيشها([4]) قوة السلاح و قوة
الإيمان، فخولت لهم هذه العناصر عبور البحر الأسود (757هـ/1356م)([5])ثم
فتح القسطنطينية(857هـ/1453م)،فامتد سلطانها إلى سائر بلدان شبه جزيرة البلقان.
وواكب هذا الفتح تنازل المتوكل على الله
عن الخلافة(922هـ/1517م)لهم، كما تزامن مع انضمام سوريا ودخول العثمانيين مصر،
واستلام السلطان العثماني مفاتيح الحرمين الشريفين من ابن شريف مكة، وأصبح بذلك
خليفة المسلمين([6]).
وتوالت الفتوحات تترى الواحدة بعد الأخرى،
فشملت آسيا وأوربا وإفريقيا مستغلين في ذلك الظروف الدولية التي مرت بها المنطقة([7])، وخاصة انقسام
المسلمين إلى دويلات متناحرة متنافرة يتهددها الصليبيون من كل جهة.
وقد ساهم احترام وصية المؤسس الأول في
نجاح الدولة وسرعة بسط سلطانها على كثير من بلاد المسلمين، استجابة منهم لداعي
نصرة المسلمين الذين يهددهم الصليبيون من كل جهة ، لهذا حق فيهم في تلك الفترة اسم
منقذ العالم الإسلامي من الاندثار،إذ ما كان مستبعدا أن تتقلص دولة الإسلام،
والإسلام نفسه كدين عالمي من تلك الديار باستقرار الصليبيين فيها([8]).
وفي
ذلك يقول محرم([9])
لولا بنو عثـــمان
والسنن الذي
شرعوا لما وضح
السبيل الأقوم
سطعوا بآفاق
الخــلافة فانجـلى
عنها مــن الحدثــان
ليل مظلم
فهــم ولاة أمورها
وكفـــاتها
وهم حماة ثغـورها ،
وهم هم([10])
واستقر العمل في الدولة على النسق نفسه
إلى أن بلغت الدولة ذروتها في عهد السلطان سليمان القانوني (1512ـ1520م)بعد تغلبه
على الشاه الصفوي ([11]) وهيمنته
على المقدسات الإسلامية ودخولها تحت إشرافه([12])، وقد واكب هذا
النمو والازدهار ظهور بعض بوادر التململ في المجتمع العثماني ، تململ كانت له صلة
بالتطور العلمي الذي ظهر في أوربا مما بعث في الأوربيين أحقادهم الصليبية من جديد
و أطمعهم في بلاد المسلمين،فخططوا لضرب الدولة العلية وإضعافها ليتسنى تقسيمها في
قابل الأيام ([13])، وقد ساهم في
مشاريع الإجهاز على الدولة نخبة المجتمع الأوربي كما تؤكده شهادة دجوفارا وزير خارجية رومانيا
في كتابه” مائة مشروع لتقسيم الدولة
العثمانية “ ، الذي أكّد
مساهمة أغلب الدول الأوربية ((فرنسا ،
إنجلترا ،روسيا، بلجيكا
، هولندا ، إسبانيا،… ) بكفاءات علمية وسياسية
وعسكرية عالية المستوى(رجال الدين ، والساسة ، والأدباء، والأطباء ، والعسكر( … في
مشاريع الإطاحة ، منهم على سبيل المثال لا الحصر لايبنيتز
وبوانكرييه وفولتير وغيرهم كثير…([14])
بلغ الأوربيون ما أرادوا على حين غفلة
من العثمانيين ، فغزت فرنسا الجزائر(1830م)
ثم احتلت تونس ، وامتلكت إنجلترا قبرص ثم غزت مصر ، واحتل الروس رومانيا (البغدان …) مما أظهر التنافس على تركة الرجل المريض حسب تعبير قيصر روسيا
للسفير الإنجليزي ([15])
وتجاوزا لهذه المؤامرات ظهرت عدّة
محاولات إصلاحية بغرض منع سقوط الدولة أو
اللحاق بالآخر حينا آخر، أو بهدف تمثّل مسلكه الإداري دون الوقوع في شراك أفكاره .
فظهرت محاولات إصلاحية وفق المنظور
الإسلامي الأصيل على يد عثمان الثاني (1032هـ/1629م …) ثم ظهرت محاولات
الإصلاح وفق النمط الغربي على يد سليم الثالث(1222هـ/1807م)، أضفى عليها السلطان
عبد المجيد صبغة رسمية مستعينا بأحد المعجبين
بالفكر الغربي (مصطفى رشيد(.
وبرزت إلى الوجود محاولات إصلاحية
تلفيقية على يد أحمد الثالث(1143هـ/1730م)، والصدر الأعظم إبراهيم
باشا(1154هـ/1742م) ([16]).
وتلافيا لهذه الوضعية الخطيرة حاول السلطان عبد الحميد
الثاني إرجاع الدولة إلى سابق عهدها المجيد ،
فعمل على صد التيارات الانفصالية وحل المشاكل التي تتخبّط فيها الدولة ، فعمد إلى
الحيلة والتحايل من
أجل حماية هذا
الدرع الواقي لرسالة الإسلام
من الاندثار،وحكم
البلاد من جرّاء ذلك أكثر من ثلاثين سنة(1876ـ1909م) ، عاش في ظلها الكوثري أعزّ أيامه، ولهذا يعد التفصيل في وصف ذلك
العصر مفتاحا أساسيا في فهم شخصية الكوثري وكيفية تفاعله مع الأحداث السياسية
والثقافية التي عاصرها في العهد المشار إليه أو الذي تلاه وخاصة فترة حكم الاتحاد والترقي
ثم مرحلة الكماليين.
1/2عهد
السلطان عبد الحميد الثاني:
استهل عمله في ظل ظروف مأساوية بدأت
بوفاة عمه عبد المجيد (1277هـ/1861م) واغتيال أخيه عبد العزيز(1293هـ/1875م)، وقد
صادف ذلك تسرّب الأفكار المناهضة للأصالة الإسلامية من خلال مراد الخامس الذي كانت
تربطه بالدوائر الإنجليزية والماسونية علاقات حميمة بواسطة مدحت باشا ([17]).
بدأ السلطان حركته الإصلاحية بوضع صيغ
فعّالة للحد من خطورة التوجهات الانفصالية المشجعة من قبل الأوربيين ([18])
، قال السلطان
عبد الحميد الثاني :" منذ
قرن كامل خبرنا بآمال ونوايا العناصر البلغارية والروسية في الاستقلال الذاتي،
يسعى البلغار والسلاف نحو التخلّص من حكم العثمانيين"([19])
كما عمل في ذات الوقت على منع التدخّل
الأجنبي في الشؤون الداخلية للدولة والحد من خطورة الحركة الدستورية ( كانت على
أشدّها في تلك المرحلة) ([20])
بهدف بعث حركية سياسية إسلامية جديدة تتوخى
تطبيق الشريعة وتتمثّل مقاصدها ، فبدأ بخاصة نفسه آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر
ومحاربا لمظاهر الفساد الإداري والسياسي داخليا وقطع الطرق عن الأطماع الأجنبية
خارجيا مع
تقشّف متميّز.
وفي هذا الجو السياسي المشحون
بالمؤامرات ظهرت عدّة حركات سياسية جديدة بعضها متّصل بالأمة وآمالها وآلامها، وبعضها
الآخر يتوخى تحقيق رغبة الآخر في البلاد العثمانية، فمن الأولى كانت حركة الجامعة
الإسلامية، ومن الثانية كانت حركات الاتحاديين والكماليين.
1/2/1 الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية:
ظهرت الجامعة الإسلامية كفكرة فعالة على
الساحة السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي على يد شخصيتين
عالميتين، أولاهما جمال الدين الأفغاني ([21])، و ثانيتهما
السلطان عبد الحميد الثاني.
حاول من منصبه السياسي استغلالها باستعطاف المسلمين
نظرا للظروف الصعبة التي تمر بها بلاد
المسلمين بصفة عامة،و خاصة في ظل عدم وفاء الأوربيين بما أبرم من اتفاقات في مؤتمر
برلين(1878م)، وتسرّب تيار الإصلاحات وفق المنظور الغربي في دواليب السلطة وقد
واكب ذلك أزمة مالية خانقة مصحوبة بتحديات عسكرية([22]).
ورغم اتفاق الرجلين من حيث الغاية إلا
أنهما-للأسف الشديد-اختلفا من حيث الوسائل والأساليب المحققة لتلك الغايات.
فالأول: يرى أن أقصر طريق وأنجعه يتلخّص
في الثورة على الأنظمة ثم تتحد الحكومات، ولهذا اتهم بتأسيس جمعيات سرية و خاصة
بعد قتل الشاه([23]) الذي
أتهم بقتله أحد مريديه، وقد قالوا بأنه قال حين قتله خذها من جمال الدين".
أما الثاني:فيرى الحل في إحياء الدعوة
إلى الخلافة التي تمثّلها الدولة العثمانية.
لهذا لم يعمّر اتفاقهما طويلا نظرا
لاختلاف المسلكين، وتذكية خلافهما من قبل قوى([24]) لا تريد الخير للأمة،فأفلت فكرة الجامعة
الإسلامية، لتظهر بعد ذلك على يد السلطان عبد الحميد الثاني في ثوب جديد عرف باسم
الخلافة الإسلامية.
بدأ السلطان دعوته إلى الخلافة ( سنة
1904م)، وذلك بعد أن هيّأ لها الشروط الموضوعية-حسب تقديره- بغرض قطع الطريق على التيار
الدستوري([25])والحيلولة
دون توغّل الأوربيين في البلاد، والسعي إلى إحكام السيطرة على الولايات العربية
وغيرها من الولايات.
حاول السلطان وخز الضمير الإسلامي في
الداخل والخارج لعلّه يظفر بنصير لمواجهة الاستدمار العالمي،إلا أن الأزمات
الداخلية حالت دون بعث عناصر ديمومة فكرة
الخلافة الإسلامية([26])، ورغم المصاعب
المحيطة به من كل جانب لم ينثن وقام بأعمال جبارة لم يكتب لها النجاح المنتظر
للأسف الشديد.
وتتلخّص تلك المحاولات في التركيز على
مواجهة الأفكار الأوربية المتلبّسة بالتنظيمات الدستورية في الداخل من خلال الدعوة إلى إحياء
الخلافة والالتزام الفعلي بأحكام
الشريعة الإسلامية.
بدأ
السلطان بخاصة نفسه متقشّفا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر([27])محاربا
لمظاهر الفساد مع عمل دؤوب من أجل تحقيق الإصلاح الشامل.
أنشأ شبكة الطرقات بهدف تخفيف كلفة
النقل([28])، وأنشأ المؤسسات
العلمية كجامعة استنبول والعسكرية كالكليات العسكرية والمدارس التعليمية([29])،كما سعى إلى بعث
إعلام فعّال بإنشاء المجلات والنشريات والدوريات([30])، وحاول في الوقت
نفسه إصلاح التعليم بإدخال العلوم الدينية واللغة العربية في المقررات الرسمية،
وتشجيع استعمال لغة القرآن في المجال الثقافي والعلمي، وهذا رغم العراقيل التي
وضعها محمد سعيد باشا، ومنع إطلاق الترجمة الأوربية للأسماء العربية والتركية على
الشوارع([31])هذا
على الصعيد الداخلي،أما على الصعيد الخارجي فقد منح الأولوية للحد من نفوذ إنجلترا
وفرنسا وروسيا في الدولة العثمانية،فرغب في التقارب مع ألمانيا والاستفادة من
خبراتها العسكرية في تنظيم الجيش مع استثمار صلاته الدبلوماسية من أجل الاستفادة
من الخبرة البحرية الإنجليزية([32]).
وقد نتج عن التقارب العثماني الألماني
زيارة ولهلم الثاني للآستانة حيث طمأن خلالها السلطان، وأكّد له مساندة الشعب
الألماني لخليفة المسلمين([33]).
وقد شلّ اليهود والماسونيون
محاولات الإصلاح الداخلية والخارجية بهجمات سياسية شرسة، و خاصة بعد فشلهم في إقناعه ببيع فلسطين ، حيث يقول ردا على
رغبتهم في شراء فلسطين:"نكون قد وقّعنا قرارا بالموت على إخواننا (أهل
فلسطين) في الدين…لا
يريد الصهيونيون إنشاء حكومة لهم وانتخاب ممثلين سياسيين عنهم ، وإني أفهم جيدا
معنى تصوراتهم …إن
هرتزل يريد أرضا لإخوانه في دينه
"([34])
و قد سجّل تيودور هرتزل (الباعث الأول
لفكرة الدولة العبرية في فلسطين في مدينة بال السويسرية) للسلطان إخلاصه لدينه ووطنه
حيث قال عنه:" إنه
لا يتخلى أبدا عن القدس
"([35]) ، كما سجّل أنه
قال لمبعوث اليهود الراغب في شراء فلسطين:" لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد
لأنها ليست لي بل لشعبي ، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وسوف
نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا
…لا أستطيع أبدا أن أعطي أي جزء منها ،
ليحتفظ اليهود ببلايينهم"([36])
لم يرفض السلطان بيع فلسطين فحسب، بل
رفض المساومة والسمرسة نفسها، وأكد هرتزل هذه المعاني بوضوح،بيّن من خلاله عدم
رضوخ السلطان للترغيب والترهيب الذي سلّط عليه من كل جانب،وردا لما بذله اليهود من
وسائل ترغيب وترهيب، يقول السلطان عبد الحميد الثاني
: " فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود
على فلسطين بدون مقابل إنما لن تقسم إلا جثثنا ولن أقبل بتشريحها لأي غرض كان "([37])
استغل اليهود الظروف المحلية والدولية
أحسن استغلال فأوغروا قلوب الأوربيين عليه بما أوتوا من مكر و خديعة متأصّلة فيهم…وظلوا على تلك الحال من غير ملل أو كلل
إلى أن تمّ لهم المراد فخلع السلطان بأيد محلية (وطنية) -وإمعانا في الانتقام
بلّغه قرار خلعه الوسيط اليهود( قره صو) الذي ردّه خائبا في محاولات شراء
فلسطين([38])
ولّد تسارع الأحداث السياسية ظهور أحزاب
سياسية تتبنى طرحا مغايرا للاتجاه الأصيل في الأمة ولهذا تعد في أحسن أحوالها
محاولة لتمكين القيّم الغربية من المجتمعات الإسلامية.
سمح الوضع الجديد بانكشاف المستتر من
الجمعيات المتسرّبة في المجتمع العثماني،فنادى بعضهم بالإصلاح الجذري وفق المنظور
الغربي، واختارت مجموعة أخرى التلفيق بين الموروث الإسلامي والفكر الغربي،…واحتدم الصراع بين الفريقين في المجتمع
العثماني،فكانت الغلبة للمجموعة الأولى بقيادة مدحت باشا([39])(1238هـ-1301هـ)-(1822م-1883م)
الذي يعد جهده امتدادا مرتقبا لفريق متأصّل الجذور في المجتمع العثماني([40])
حاول مدحت باشا تطبيق النظام الإنجليزي
في الإدارة والحكم، فوضع الدستور للحد من صلاحيات السلطان الذي اختاره لمنصب
الصدارة العظمى إرضاء للمجتمع العثماني المريض،يؤكد هذا المعنى قول
السلطان:"لم أكن أستطيع الوقوف أمام تيار ذلك العهد،كنت مجبرا على التعاون
معهم،فقد كان من الضروري أن أتقدّم لشعب مريض أفصح أن اسم مدحت باشا يساوي في حساب
الجمل ([41]) دواء
الأمة أن تقدم له الدواء الذي طلبه"([42]).
اقترح الفريق المتسلّط الجديد إضافة
الصليب إلى راية الدولة إرضاء للغربيين، كما عمل على تدريس اللغات القومية في
المدارس الرسمية للدولة([43])، وإمعانا في خدمة
الأوربيين عينوا ولاة من غير المسلمين في ولايات أغلب سكانها مسلمين، وسمحوا
بالتحاق الطلبة غير المسلمين بالجيش والمدارس الحربية خاصة الأرمن المعروفين بسوء
أخلاقهم وعمالتهم للدول الغربية.
ليس هذا فحسب، بل أقحم الصدر
الأعظم(مدحت باشا) الدولة العثمانية في حرب خاسرة ضد روسيا(1877م)، ونجم عنها قبول
معاهدة سان ستيفانوس(03/03/1878م)،نالت الدولة العثمانية المهيبة([44])
بموجبها ذلا لا تحسد عليه،تدخّل بعدها السلطان
بغرض تخفيف آثارها الوخيمة،فعقد بموجب ذلك مؤتمر برلين(13/07/1878م) ([45])، وأقيل بعدها
مدحت باشا ونفي بموجب الدستور([46])،أرجع بعدها إلى
الواجهة السياسية للدولة بإيعاز من السلطان نفسه وهو أمر يدعو إلى الدهشة
والاستغراب.
وقد واكبت هذه الحركة مجموعة أخرى ركّزت
إصلاحاتها على الاستفادة من التجربة الإنسانية الأوربية في مجالات مخصوصة، منها
أساليب الحكم والإدارة والثقافة والاجتماع وخاصة ما جاءت به الثورة الفرنسية من
مثل الحرية والمساواة والعدالة، مع العمل على إيجاد مسوغات شرعية للاقتباس من
أوربا،فأرجعوا النظام البرلماني الأوربي في إنجلترا وفرنسا إلى الشورى في الشريعة
الإسلامية([47]).
مثّل الاتجاه ودافع عنه المفكر العثماني
ضياء باشا المفكر الوطني الملقّب بشاعر الحرية وأب الوطنية([48])بمفهومها
العثماني،فقد كان متمسكا بالدولة العثمانية واستمرار قوانينها ومعتقداتها التي
تشكل أساس حضارتها([49]) وتميّزها عن غيرها من الأمم الشرقية والغربية.
فتحت هذه الاتجاهات السياسية المتنافرة
باب الصراعات على مصراعيه،فظهر التشرذم والتحزّب والانتصار للآخر بشكل علني، وصرّح
على رؤوس الأشهاد برغبة جامحة في الدفاع عن الأوربيين ومثلهم ثقافيا وسياسيا
واجتماعيا، ثم توالى التنافس في صيغة الدفاع، فركّز البعض على العمل السياسي
الجماعي و اختار آخرون العمل الثقافي الفردي تهيئة للعقول لقبول الأفكار الأوربية.
[1]
/ أنظر الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها/عبد العزيز محمد
الشناوي1/33،البلاد العربية والدولة العثمانية/ساطع الحصري 11-13،الممسألة
الشرقية/محمد ثابت الشاذلي 397،يقظة العالم الإسلامي/فرنو ترجمة بهيج
شعبان1/67،الصراط المستقيم/(ضمن كتاب مورغان)بحث لحسن جنتاي2/61،دائرة معارف القرن
العشرين/محمد فريد وجدي 2/546
[2]
/ نسجت حول شخصيته أساطير كثيرة منها زواجه من مال خاتون، ولقاء والده بزاهد مسلم
أثّر في صياغة شخصيته، وقيل أيضا أنه رأى بشرى في منامه،أنظر وجدي المرجع السابق
والشناوي مرجع سابق
[3]
/ الحصري مرجع سابق129-140،الشاذلي/مرجع سابق60-62،الحروب العثمانية الفاريسة/عبد
اللطيف الهريدي19،دراسات تاريخية في النهضة العربية/محمد بديع الشريف23
[4]
الشناوي مرجع سابق1/33،الحصري مرجع سابق17
[5]
/الهريدي مرجع سابق19
[6]
/الشناوي مرجع سابق1/19-27، وجدي مرجع
سابق2/547،الحصري مرجع سابق43-45،15-17،32
[7]
/ الهريدي 18-19،الحصري15،الشناوي1/63
[8]
/موقف العقل والعلم والعالم من رب العتالمين وعباده المرسلين/مصطفى صبري1/7
[9]
/أحمد محرم بن حسن عبد الله شاعر مصري لد يعرف باسمه، وديوان الإسلام أو إلياذة
الإسلام ضمّنها تاريخ الإسلام شعرا، ولد سنة 1294هـ
/1877م، وتفي بدمنهور مصر ودفن بها سنة 1364هـ/1945م
أنظر
مشاهير شعراء العصر/أحمد عبيد1/114
[10]
/الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/محمد محمد حسين 1 /28
[11]
/الهريدي51-53
[12]
/ حركة الجامعة الإسلامية/أحمد فهد الشوابكة ، الحصري 9-10
[13]
/حاضر العالم الإسلامي/ لاوثروب تعليق شكيب أرسلان ترجمة عادل نويهض 3/208
[14]
/أنظر المرجع السابق، وانظر بحثنا أوجين يونغ وتأريخه للاستعمار في العالم
الإسلامي،بحث منشور بالجريدة الأسبوعية البصائر الجزائرية الصادرة بتاريخ
26/06/2000(ظهرت في خمس حلقات متتابعة)
[15]
/ المسألة الشرقية ومؤتمر باريس/مصطفى صفوت 17(النص بالإنجليزية).
[16]
/تاريخ الدولة العلية/محمد فريد 253،صفوت 21-22،الحصري81-93، الشوابكة24
[17]
/ حركة الجامعة الإسلامية/ الشوابكة11-12
[18]
/الدولة العثمانية…/الشناوي2/1065-1066،نكبة الأمة العربية بسقوط الخلافة
العثمانية/محمد الخير عبد القادر63
[19] مذكراتي السياسية / السلطان عبد الحميد
86،90-91
[20]
/البلاد العربية والدولة العثمانية/الحصري 93-94،حاضر العالم الإسلامي
1/308،الشناوي 2/1068-1071،الخلافة الإسلامية/سن جيونج 193، موقف العقل و العلم
والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين /صبري 4/331-334
[21]
/العالم الإسلامي والاستعمار السياسي/أنور الجندي170،الشناوي مرجع سابق
3/1813-1816
[22]
/الدولة العثمانية وشبه جزيرة العربية/رجب حراز53-55،مذكرات السلطان عبد الحميد
الثاني4-5،مجلة المجتمع/مقال عبد الحميد حرب عدد 532 ،يقظة العرب/جورج أنطونيوس
60،حاضر العالم الإسلامي2/308،الموسوعة الإسلامية/محسن الأمين 6/43-46،انتهاء
الخلافة العثمانية/حلمي أحمد شال 15
[23]
/الشاوي /مرجع سابق 3/1213-1216
[24]
/أنظر اليقظة القومية الكبرى/حسين صبحي 42-44،جمال الدين الأسد أبادي/ميرزا لطف
الله خان 140-141
[25]
/حركة الجامعة الإسلامية/الشوابكة 38
[26]
/ سياسة السلطان عبد الحميد/محمد عبد اللطيف الجعفري 40-41
[27]
/ذهب أنطونيوس و الشناوي إلى أنه من قبيل
التصنّع، وهو مخالف حسب تقديرنا لما وصفه به الثقات.
أنظر
الشناوي/المرجع السابق3/1205،أنطونيوس/مرجع سابق 138-139،مذكراتي السياسية/السلطان
عبد الحميد 97، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية/مصطفى حلمي 101
[28]
/فسرت كسابقها بأنها مؤامرة لتطويق الولايات العربية، أنظر يقظة العرب/أنطونيوس
143-144،الدولة العثمانية…/الشناوي3/1325
[29]
/الخلافة الإسلامية/سون جيونج 94
[30]
/الشناوي3/1205،مذكرات السلطان 153،حاضر العالم الإسلامي1/309
[31]
/الشناوي/مرجع سابق3/1205-1206
[32]
/ الخلافة الإسلامية/سون جيونج 94-209
[33]
/المصدر السابق نفسه
[34]
/مذكراتي السياسية/السلطان عبد الحميد الثاني 34-35
[35]
/ يوميات هر تزل/تيودور هر تزل 29،35،36،خطر اليهودية/عبد الله التل 163
[36]
/يوميات هرتزل 29،35،36
[37]
/خطر اليهودية/التل 163
[38]
/النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة/مصطفى صبري111 ، مخططات الاستعمار
لمحاربة الإسلام/محمد محمود الصواف 176،التل مرجع سابق232، الأسرار الخفية/حلمي
257-259
[39]
/اعتبره أحمد أمين وحسن الأمين من رواد الإصلاح الاجتماعي والسياسي من منظور
إسلامي، و نقلا عنه ما يؤيد وجهة نظره،أنظر زعماء الإصلاح/أحمد أمين26-58،الموسوعة
الإسلامية/محسن الأمين 6/186-187.
والأصح
حسب تقديرنا صحة ما ذهبنا إليه، وقد يكون الرجل مرّ بمراحل، كان آخرها ما أثبتناه.
[40]
/مثل فؤاد باشا الذي يعد أحد الذين أعدّهم رشيد باشا لإكمال مسيرة الاقتباس من
الغرب،أنظر مذكرات السلطان عبد الحميد 134
[41]
/يعرف بحساب الجمل أبجد هوز…حساب
مخصوص ، وذلك أنهم وضعوا لكل حرف من أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت تخذ ضظغ،فمن
الألف إلى الطاء المهملة للآحاد(1-9)، ومن الياء إلى الصاد للعشرات(10-90)، ومن
القاف إلى الظاء لآحاد المئات(100-900)، و الغين ألفا، أنظر كشاف اصطلاحات
الفنون/التهانوي 2/11
[42]
/حركة الجامعة الإسلامية/الشوابكة30،مذكرات السلطان30
ظهر
حزب مدحت باشا في شكل باهت سنة 1859م ،أنظر الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب/رجب
حراز 43
[43]
/حاول تجسيدها مدحت باشا عندما كان واليا على الشام.،أنظر حاضر اللغة العربية في
بلاد الشام /سعيد الأفغاني 20
[44]
/مذكرات السلطان عبد الحميد142،الشوابكة/مرجع سابق 29
[45]
/المسألة الشرقية ومؤتمر باريس/مصطفى صفوت 17
[46]
/ المرجع السابق 30،عزل بموجب المادة 23 من الدستور
[47]
/المرجع نفسه31،33-34
[48]
/المسألة الشرقية /محمد ثابت الشاذلي53،نامق كمال/ الهريدي6،11
[49]
/الشوابكة مرجع سابق نفسه.
محمد زاهد الكوثري
عصره وآراؤه
دراسة تحليلية
لمؤلفاته
وآرائه الإصلاحية
تأليف
الدكتور عمار جيدل
كلية العلوم الإسلامية
جامعة الجزائر
E-mail. /
rdjidel@ayna.com
الإهداء
بسم الله وكفى، والصلاة والسلام على
النبي المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه أجمعين ومن سار على سنتّه و اقتدى
بهديه إلى يوم الدين، وبعد
يمثّل هذا العمل العلمي ثمرة من ثمرات
قلعة من قلاع العلوم الإسلامية في العالم الإسلامي بصفة عامة و الجزائر على الخصوص
- كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر-لهذا يشرفني أن أهديه إلى كل من حمل آمال
الأمة وآلامها في قلبه وعقله، إلى كل عامل على تجسيد أصالة أمته برنامجا في الثقافة والحضارة
والاجتماع و السياسة، إليكم جميعا أقدم هذا المؤلف.
كما أهديه إلى كل من رفض بيع دينه
بدنياه إلى كل من مال عن الانخراط في سلك الفساد-على تنوّع أشكاله- و الإفساد،
إليكم أيها المرابطون دون أصالة الأمة.
مقدمة الطبعة الأولى
يقوم العلماء بدور كبير و أساسي في
إصلاح التصور النظري الذي يعد الأرضية الأساسية لأي بناء حضاري واقع أو متوقّع،
لما للتصورات من علاقة وطيدة بالسلوك والأفعال والأحوال،لهذا يمر فهم المجتمعات باستيعاب
مؤلفات معاصريهم وفهمها فهما دقيقا.
ولا شك أن مفتاح فهم العصر الحديث قراءة
منتج علمائه وربطه بمصادره في الثقافة الإسلامية.
ومساهمة منا في فهم العصر والخلل الطارئ
عليه آثرت الكتابة عن شيخ علماء الإسلام محمد زاهد الكوثري.
وقد وقع اختيارنا على لهذا الأنموذج لما
يتوفّر عليه من عناصر رئيسة تسمح بقراءة متأنية للخلل الطارئ على العصر وسبل
معالجتها في فكر الرجل ، إذ تلخّصت في تجربته التعليمية والإصلاحية أنصع صورة
المقاومة الفكرية في ظل مشاكسات تعرّض لها منذ أيام التعلّم والتعليم إلى أن وسّد
في التراب، وقد تجلت تلك المشاكسة فيما يأتي:
1- حاصرته التيارات الظاهرية في العصر الحديث،فأصبح بموجب ذلك تحت
طائلة الإقصاء والإبعاد عن مراكز القرار الثقافي و التعليمي،بل عدت كتبه شبيهة
بالهروين والكوكايين إن لم تكن أخطر لدى البعض.
2- عمل الشيخ على ضفتين،جابه في الأولى التيار الظاهري ، وواجه في
الثانية تيار (التبديد) التجديد وفق المناهج الغربية،فحاول من خلال مواجهة
الفريقين إعادة مجد الإسلام وثقافته الأصيلة.
عزمت على كسر هذا الحصار والإقصاء
المسلّط عليه، وتسليط الضوء على هذه الشخصية العلمية الرائدة.
ومما زاد من تعلّقنا بالموضوع تميّز
الرجل بمجموعة من الميزات افتقدناها في علماء عصره،لعل أهمها:
1- عرف بجرأة فاق بها أقرانه،فكان يعزو الأقوال إلى أصحابها ويرد
الرأي إلى أصوله ويناقش أدلة هذا الفريق وذاك،غير آبه بالمصدر الذي صدرت منه،
رائده في كل ذلك الحق والحقيقة، فتراه يناقش من المتقدمين الإمام أحمد بن
حنبل،والخطيب البغدادي،و الجويني، والغزالي، والرازي، وابن تيمية، وابن القيم، …أما من المتأخرين فناقش محمد عبده ومحمد
بن عبد الوهاب، ومصطفى صبري، والمعلمي، ومحب الدين الخطيب، و…بالإضافة
إلى الفلاسفة والمستشرقين والمتغربين من أبناء جلدتنا.
2- حاول على غير المألوف بين علماء عصره الربط بين الجانبين النظري
والسلوكي في العقيدة الإسلامية،من هذا المنطلق سعى إلى بعث الأبعاد الوظيفية
للعقائد الإسلامية.
3- دوّن تعليقات متنوعة – في شتى فنون العلوم الإسلامية- لا يفرط
فيها باحث جاد،فكانت تعليقاته وتحقيقاته أهم من النصوص المحققة أو المعلّق عليها
كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة.
و رغم ما قلناه فقد وجدنا باحثين يصفونه
بأشنع الصفات،فهو عندهم(أنظر التفاصيل في ثنايا البحث) أشبه بالأفاك الكاذب ، هو
عند فريق آخر بقية السلف الصالح،فمن هو يا ترى هذا الرجل؟ وما درجة صحة هذه
الأحكام؟ وما القول الفصل في شأنه؟
الإجابة التفصيلية تستدعي وضع خطة نتوخى
من خلالها التعريف بالرجل تعريفا وافيا، ولكننا قبل ذلك ملزمون من الناحية
المنهجية بالتعريف بعصره بوصفه الجو الذي عاش فيه فاعلا ومتفاعلا، من هذا المنطلق
كانت خطتنا في العمل على النحو الآتي:
أولا:حديث عن مسرح الأحداث
ثانيا:التيارات السياسية التي عاصرها
ثالثا:التيارات الثقافية التي عاصرها
رابعا: مولد الشيخ ونشأته العلمية
خامسا:جهاده العلمي والسياسي
سادسا: سماته الأخلاقية ومنزلته ووفاته
جعلت عمدتي في الكتابة
عن الرجل مؤلفاته أولا ثم ما كتب عنه ،فكان أول ما استثمر ما كتبه عن نفسه في ثنايا
مؤلفاته وخاصة كتابه " التحرير
الوجيز فيما يبتغيه المستجيز" وجدناه حافلا
بتراجم شيوخه ، وبعض أعلام الحنفية،كما استفدت من كتابه
"إرغام المريد في شرح النظم العتيد "ضمنه تراجم
بعض شيوخه أيضا،و استفاد الباحث من الترجمة الوافية التي كتبها تلميذه أحمد خيري
رحمه الله في كتابه الموسوم "تاريخ
الكوثري"، وما أنجزه الأستاذ حامد إبراهيم
في أصول الدين بالأزهر القاهرة،بالإضافة إلى بحثنا عنه، المقدم لنيل درجة دكتوراه
دولة في أصول الدين (تخصص عقيدة)من جامعة الجزائر، والذي كان عنوانه"الكوثري وآراؤه
العقدية(المنهج والتطبيق « كما
استفدت من كتب أخرى تناولت الحديث عنه عرضا، مثل ما كتبه الشيخ محمد أبو زهرة ،
ويوسف البنوري ،و سلامة القضاعي والشيخ يوسف الدجوي، وحسام الدين القدسي وعلي سامي
النشار …هذه
عيّنة من المؤلفات التي استثمرتها في إنجاز هذا البحث، ولنا عودة إليه في قابل
الأيام وفق ما تجود به دور النشر والتوزيع من مراجع ومؤلفات جديدة أو مقالات.
قدّمنا هذا الجهد
خدمة لأولئك الذي عملوا على خدمة أمتهم في زمن قلّ فيه الاهتمام ببعث مشروع حضاري
مؤسس على أصالتنا في جو ما يحيط بنا من إكراهات محلية و جهوية ودولية، وإسهاما منا
في بعث الاهتمامات الحضارية في جيلنا الحاضر وتعهدا منا لبذرة المقاومة الفكرية
لدى أبنائنا من أجل تجسيد البناء
الحضاري المنشود في المستقبل.
والله من وراء القصد
وهو يهدي السبيل
وصلى الله على سيدنا
محمد
وعلى آله الطيبين
الطاهرين وصحبه أجمعين
أولا: مسرح الأحداث
1/1 فرشة عن
الدولة العثمانية
فهم شخصيات عثمانية
تركية، يقتضي الإحاطة بالظروف الحضارية التي كانت فيها هذه الشخصية فاعلة
ومتفاعلة، لهذا أرى نفسي ملزما بعرض صورة مختصرة عن تلك الظروف السياسية والفكرية
والاجتماعية،لنر دفه بعد ذلك بتعريف موجز بشخصيتنا المختارة ومجمل آرائها
الإصلاحية ومنزلتها.
عاش هؤلاء هذا العلم أعزّ أيامهم في كنف
الدولة العثمانية وبالتحديد في أواخر أيامها ، دولة كانت نواتها الأولى عشيرة من
الترك تسكن في أنحاء الأناضول([1])، لهذا بدأت الدولة وفق السنن الكونية صغيرة على
يد عثمان بن أرطغرل(699هـ/1299م)
([2]) المتحمّس
للعقيدة الإسلامية ومشاورة الفقهاء، حيث أوصى
ابنه وهو على فراش الموت بتوقير العلماء والتزام الشرع الشريف، والتشاور مع أربابه
في كل ما تقدم عليه، وعليك بتعظيم أمر الله والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته([3])
فظهرت الدولة العثمانية قوية منذ أيامها
الأولى ،جمعت إلى الطبيعة العسكري لأفراد جيشها([4]) قوة السلاح و قوة
الإيمان، فخولت لهم هذه العناصر عبور البحر الأسود (757هـ/1356م)([5])ثم
فتح القسطنطينية(857هـ/1453م)،فامتد سلطانها إلى سائر بلدان شبه جزيرة البلقان.
وواكب هذا الفتح تنازل المتوكل على الله
عن الخلافة(922هـ/1517م)لهم، كما تزامن مع انضمام سوريا ودخول العثمانيين مصر،
واستلام السلطان العثماني مفاتيح الحرمين الشريفين من ابن شريف مكة، وأصبح بذلك
خليفة المسلمين([6]).
وتوالت الفتوحات تترى الواحدة بعد الأخرى،
فشملت آسيا وأوربا وإفريقيا مستغلين في ذلك الظروف الدولية التي مرت بها المنطقة([7])، وخاصة انقسام
المسلمين إلى دويلات متناحرة متنافرة يتهددها الصليبيون من كل جهة.
وقد ساهم احترام وصية المؤسس الأول في
نجاح الدولة وسرعة بسط سلطانها على كثير من بلاد المسلمين، استجابة منهم لداعي
نصرة المسلمين الذين يهددهم الصليبيون من كل جهة ، لهذا حق فيهم في تلك الفترة اسم
منقذ العالم الإسلامي من الاندثار،إذ ما كان مستبعدا أن تتقلص دولة الإسلام،
والإسلام نفسه كدين عالمي من تلك الديار باستقرار الصليبيين فيها([8]).
وفي
ذلك يقول محرم([9])
لولا بنو عثـــمان
والسنن الذي
شرعوا لما وضح
السبيل الأقوم
سطعوا بآفاق
الخــلافة فانجـلى
عنها مــن الحدثــان
ليل مظلم
فهــم ولاة أمورها
وكفـــاتها
وهم حماة ثغـورها ،
وهم هم([10])
واستقر العمل في الدولة على النسق نفسه
إلى أن بلغت الدولة ذروتها في عهد السلطان سليمان القانوني (1512ـ1520م)بعد تغلبه
على الشاه الصفوي ([11]) وهيمنته
على المقدسات الإسلامية ودخولها تحت إشرافه([12])، وقد واكب هذا
النمو والازدهار ظهور بعض بوادر التململ في المجتمع العثماني ، تململ كانت له صلة
بالتطور العلمي الذي ظهر في أوربا مما بعث في الأوربيين أحقادهم الصليبية من جديد
و أطمعهم في بلاد المسلمين،فخططوا لضرب الدولة العلية وإضعافها ليتسنى تقسيمها في
قابل الأيام ([13])، وقد ساهم في
مشاريع الإجهاز على الدولة نخبة المجتمع الأوربي كما تؤكده شهادة دجوفارا وزير خارجية رومانيا
في كتابه” مائة مشروع لتقسيم الدولة
العثمانية “ ، الذي أكّد
مساهمة أغلب الدول الأوربية ((فرنسا ،
إنجلترا ،روسيا، بلجيكا
، هولندا ، إسبانيا،… ) بكفاءات علمية وسياسية
وعسكرية عالية المستوى(رجال الدين ، والساسة ، والأدباء، والأطباء ، والعسكر( … في
مشاريع الإطاحة ، منهم على سبيل المثال لا الحصر لايبنيتز
وبوانكرييه وفولتير وغيرهم كثير…([14])
بلغ الأوربيون ما أرادوا على حين غفلة
من العثمانيين ، فغزت فرنسا الجزائر(1830م)
ثم احتلت تونس ، وامتلكت إنجلترا قبرص ثم غزت مصر ، واحتل الروس رومانيا (البغدان …) مما أظهر التنافس على تركة الرجل المريض حسب تعبير قيصر روسيا
للسفير الإنجليزي ([15])
وتجاوزا لهذه المؤامرات ظهرت عدّة
محاولات إصلاحية بغرض منع سقوط الدولة أو
اللحاق بالآخر حينا آخر، أو بهدف تمثّل مسلكه الإداري دون الوقوع في شراك أفكاره .
فظهرت محاولات إصلاحية وفق المنظور
الإسلامي الأصيل على يد عثمان الثاني (1032هـ/1629م …) ثم ظهرت محاولات
الإصلاح وفق النمط الغربي على يد سليم الثالث(1222هـ/1807م)، أضفى عليها السلطان
عبد المجيد صبغة رسمية مستعينا بأحد المعجبين
بالفكر الغربي (مصطفى رشيد(.
وبرزت إلى الوجود محاولات إصلاحية
تلفيقية على يد أحمد الثالث(1143هـ/1730م)، والصدر الأعظم إبراهيم
باشا(1154هـ/1742م) ([16]).
وتلافيا لهذه الوضعية الخطيرة حاول السلطان عبد الحميد
الثاني إرجاع الدولة إلى سابق عهدها المجيد ،
فعمل على صد التيارات الانفصالية وحل المشاكل التي تتخبّط فيها الدولة ، فعمد إلى
الحيلة والتحايل من
أجل حماية هذا
الدرع الواقي لرسالة الإسلام
من الاندثار،وحكم
البلاد من جرّاء ذلك أكثر من ثلاثين سنة(1876ـ1909م) ، عاش في ظلها الكوثري أعزّ أيامه، ولهذا يعد التفصيل في وصف ذلك
العصر مفتاحا أساسيا في فهم شخصية الكوثري وكيفية تفاعله مع الأحداث السياسية
والثقافية التي عاصرها في العهد المشار إليه أو الذي تلاه وخاصة فترة حكم الاتحاد والترقي
ثم مرحلة الكماليين.
1/2عهد
السلطان عبد الحميد الثاني:
استهل عمله في ظل ظروف مأساوية بدأت
بوفاة عمه عبد المجيد (1277هـ/1861م) واغتيال أخيه عبد العزيز(1293هـ/1875م)، وقد
صادف ذلك تسرّب الأفكار المناهضة للأصالة الإسلامية من خلال مراد الخامس الذي كانت
تربطه بالدوائر الإنجليزية والماسونية علاقات حميمة بواسطة مدحت باشا ([17]).
بدأ السلطان حركته الإصلاحية بوضع صيغ
فعّالة للحد من خطورة التوجهات الانفصالية المشجعة من قبل الأوربيين ([18])
، قال السلطان
عبد الحميد الثاني :" منذ
قرن كامل خبرنا بآمال ونوايا العناصر البلغارية والروسية في الاستقلال الذاتي،
يسعى البلغار والسلاف نحو التخلّص من حكم العثمانيين"([19])
كما عمل في ذات الوقت على منع التدخّل
الأجنبي في الشؤون الداخلية للدولة والحد من خطورة الحركة الدستورية ( كانت على
أشدّها في تلك المرحلة) ([20])
بهدف بعث حركية سياسية إسلامية جديدة تتوخى
تطبيق الشريعة وتتمثّل مقاصدها ، فبدأ بخاصة نفسه آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر
ومحاربا لمظاهر الفساد الإداري والسياسي داخليا وقطع الطرق عن الأطماع الأجنبية
خارجيا مع
تقشّف متميّز.
وفي هذا الجو السياسي المشحون
بالمؤامرات ظهرت عدّة حركات سياسية جديدة بعضها متّصل بالأمة وآمالها وآلامها، وبعضها
الآخر يتوخى تحقيق رغبة الآخر في البلاد العثمانية، فمن الأولى كانت حركة الجامعة
الإسلامية، ومن الثانية كانت حركات الاتحاديين والكماليين.
1/2/1 الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية:
ظهرت الجامعة الإسلامية كفكرة فعالة على
الساحة السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي على يد شخصيتين
عالميتين، أولاهما جمال الدين الأفغاني ([21])، و ثانيتهما
السلطان عبد الحميد الثاني.
حاول من منصبه السياسي استغلالها باستعطاف المسلمين
نظرا للظروف الصعبة التي تمر بها بلاد
المسلمين بصفة عامة،و خاصة في ظل عدم وفاء الأوربيين بما أبرم من اتفاقات في مؤتمر
برلين(1878م)، وتسرّب تيار الإصلاحات وفق المنظور الغربي في دواليب السلطة وقد
واكب ذلك أزمة مالية خانقة مصحوبة بتحديات عسكرية([22]).
ورغم اتفاق الرجلين من حيث الغاية إلا
أنهما-للأسف الشديد-اختلفا من حيث الوسائل والأساليب المحققة لتلك الغايات.
فالأول: يرى أن أقصر طريق وأنجعه يتلخّص
في الثورة على الأنظمة ثم تتحد الحكومات، ولهذا اتهم بتأسيس جمعيات سرية و خاصة
بعد قتل الشاه([23]) الذي
أتهم بقتله أحد مريديه، وقد قالوا بأنه قال حين قتله خذها من جمال الدين".
أما الثاني:فيرى الحل في إحياء الدعوة
إلى الخلافة التي تمثّلها الدولة العثمانية.
لهذا لم يعمّر اتفاقهما طويلا نظرا
لاختلاف المسلكين، وتذكية خلافهما من قبل قوى([24]) لا تريد الخير للأمة،فأفلت فكرة الجامعة
الإسلامية، لتظهر بعد ذلك على يد السلطان عبد الحميد الثاني في ثوب جديد عرف باسم
الخلافة الإسلامية.
بدأ السلطان دعوته إلى الخلافة ( سنة
1904م)، وذلك بعد أن هيّأ لها الشروط الموضوعية-حسب تقديره- بغرض قطع الطريق على التيار
الدستوري([25])والحيلولة
دون توغّل الأوربيين في البلاد، والسعي إلى إحكام السيطرة على الولايات العربية
وغيرها من الولايات.
حاول السلطان وخز الضمير الإسلامي في
الداخل والخارج لعلّه يظفر بنصير لمواجهة الاستدمار العالمي،إلا أن الأزمات
الداخلية حالت دون بعث عناصر ديمومة فكرة
الخلافة الإسلامية([26])، ورغم المصاعب
المحيطة به من كل جانب لم ينثن وقام بأعمال جبارة لم يكتب لها النجاح المنتظر
للأسف الشديد.
وتتلخّص تلك المحاولات في التركيز على
مواجهة الأفكار الأوربية المتلبّسة بالتنظيمات الدستورية في الداخل من خلال الدعوة إلى إحياء
الخلافة والالتزام الفعلي بأحكام
الشريعة الإسلامية.
بدأ
السلطان بخاصة نفسه متقشّفا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر([27])محاربا
لمظاهر الفساد مع عمل دؤوب من أجل تحقيق الإصلاح الشامل.
أنشأ شبكة الطرقات بهدف تخفيف كلفة
النقل([28])، وأنشأ المؤسسات
العلمية كجامعة استنبول والعسكرية كالكليات العسكرية والمدارس التعليمية([29])،كما سعى إلى بعث
إعلام فعّال بإنشاء المجلات والنشريات والدوريات([30])، وحاول في الوقت
نفسه إصلاح التعليم بإدخال العلوم الدينية واللغة العربية في المقررات الرسمية،
وتشجيع استعمال لغة القرآن في المجال الثقافي والعلمي، وهذا رغم العراقيل التي
وضعها محمد سعيد باشا، ومنع إطلاق الترجمة الأوربية للأسماء العربية والتركية على
الشوارع([31])هذا
على الصعيد الداخلي،أما على الصعيد الخارجي فقد منح الأولوية للحد من نفوذ إنجلترا
وفرنسا وروسيا في الدولة العثمانية،فرغب في التقارب مع ألمانيا والاستفادة من
خبراتها العسكرية في تنظيم الجيش مع استثمار صلاته الدبلوماسية من أجل الاستفادة
من الخبرة البحرية الإنجليزية([32]).
وقد نتج عن التقارب العثماني الألماني
زيارة ولهلم الثاني للآستانة حيث طمأن خلالها السلطان، وأكّد له مساندة الشعب
الألماني لخليفة المسلمين([33]).
وقد شلّ اليهود والماسونيون
محاولات الإصلاح الداخلية والخارجية بهجمات سياسية شرسة، و خاصة بعد فشلهم في إقناعه ببيع فلسطين ، حيث يقول ردا على
رغبتهم في شراء فلسطين:"نكون قد وقّعنا قرارا بالموت على إخواننا (أهل
فلسطين) في الدين…لا
يريد الصهيونيون إنشاء حكومة لهم وانتخاب ممثلين سياسيين عنهم ، وإني أفهم جيدا
معنى تصوراتهم …إن
هرتزل يريد أرضا لإخوانه في دينه
"([34])
و قد سجّل تيودور هرتزل (الباعث الأول
لفكرة الدولة العبرية في فلسطين في مدينة بال السويسرية) للسلطان إخلاصه لدينه ووطنه
حيث قال عنه:" إنه
لا يتخلى أبدا عن القدس
"([35]) ، كما سجّل أنه
قال لمبعوث اليهود الراغب في شراء فلسطين:" لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد
لأنها ليست لي بل لشعبي ، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وسوف
نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا
…لا أستطيع أبدا أن أعطي أي جزء منها ،
ليحتفظ اليهود ببلايينهم"([36])
لم يرفض السلطان بيع فلسطين فحسب، بل
رفض المساومة والسمرسة نفسها، وأكد هرتزل هذه المعاني بوضوح،بيّن من خلاله عدم
رضوخ السلطان للترغيب والترهيب الذي سلّط عليه من كل جانب،وردا لما بذله اليهود من
وسائل ترغيب وترهيب، يقول السلطان عبد الحميد الثاني
: " فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود
على فلسطين بدون مقابل إنما لن تقسم إلا جثثنا ولن أقبل بتشريحها لأي غرض كان "([37])
استغل اليهود الظروف المحلية والدولية
أحسن استغلال فأوغروا قلوب الأوربيين عليه بما أوتوا من مكر و خديعة متأصّلة فيهم…وظلوا على تلك الحال من غير ملل أو كلل
إلى أن تمّ لهم المراد فخلع السلطان بأيد محلية (وطنية) -وإمعانا في الانتقام
بلّغه قرار خلعه الوسيط اليهود( قره صو) الذي ردّه خائبا في محاولات شراء
فلسطين([38])
ولّد تسارع الأحداث السياسية ظهور أحزاب
سياسية تتبنى طرحا مغايرا للاتجاه الأصيل في الأمة ولهذا تعد في أحسن أحوالها
محاولة لتمكين القيّم الغربية من المجتمعات الإسلامية.
سمح الوضع الجديد بانكشاف المستتر من
الجمعيات المتسرّبة في المجتمع العثماني،فنادى بعضهم بالإصلاح الجذري وفق المنظور
الغربي، واختارت مجموعة أخرى التلفيق بين الموروث الإسلامي والفكر الغربي،…واحتدم الصراع بين الفريقين في المجتمع
العثماني،فكانت الغلبة للمجموعة الأولى بقيادة مدحت باشا([39])(1238هـ-1301هـ)-(1822م-1883م)
الذي يعد جهده امتدادا مرتقبا لفريق متأصّل الجذور في المجتمع العثماني([40])
حاول مدحت باشا تطبيق النظام الإنجليزي
في الإدارة والحكم، فوضع الدستور للحد من صلاحيات السلطان الذي اختاره لمنصب
الصدارة العظمى إرضاء للمجتمع العثماني المريض،يؤكد هذا المعنى قول
السلطان:"لم أكن أستطيع الوقوف أمام تيار ذلك العهد،كنت مجبرا على التعاون
معهم،فقد كان من الضروري أن أتقدّم لشعب مريض أفصح أن اسم مدحت باشا يساوي في حساب
الجمل ([41]) دواء
الأمة أن تقدم له الدواء الذي طلبه"([42]).
اقترح الفريق المتسلّط الجديد إضافة
الصليب إلى راية الدولة إرضاء للغربيين، كما عمل على تدريس اللغات القومية في
المدارس الرسمية للدولة([43])، وإمعانا في خدمة
الأوربيين عينوا ولاة من غير المسلمين في ولايات أغلب سكانها مسلمين، وسمحوا
بالتحاق الطلبة غير المسلمين بالجيش والمدارس الحربية خاصة الأرمن المعروفين بسوء
أخلاقهم وعمالتهم للدول الغربية.
ليس هذا فحسب، بل أقحم الصدر
الأعظم(مدحت باشا) الدولة العثمانية في حرب خاسرة ضد روسيا(1877م)، ونجم عنها قبول
معاهدة سان ستيفانوس(03/03/1878م)،نالت الدولة العثمانية المهيبة([44])
بموجبها ذلا لا تحسد عليه،تدخّل بعدها السلطان
بغرض تخفيف آثارها الوخيمة،فعقد بموجب ذلك مؤتمر برلين(13/07/1878م) ([45])، وأقيل بعدها
مدحت باشا ونفي بموجب الدستور([46])،أرجع بعدها إلى
الواجهة السياسية للدولة بإيعاز من السلطان نفسه وهو أمر يدعو إلى الدهشة
والاستغراب.
وقد واكبت هذه الحركة مجموعة أخرى ركّزت
إصلاحاتها على الاستفادة من التجربة الإنسانية الأوربية في مجالات مخصوصة، منها
أساليب الحكم والإدارة والثقافة والاجتماع وخاصة ما جاءت به الثورة الفرنسية من
مثل الحرية والمساواة والعدالة، مع العمل على إيجاد مسوغات شرعية للاقتباس من
أوربا،فأرجعوا النظام البرلماني الأوربي في إنجلترا وفرنسا إلى الشورى في الشريعة
الإسلامية([47]).
مثّل الاتجاه ودافع عنه المفكر العثماني
ضياء باشا المفكر الوطني الملقّب بشاعر الحرية وأب الوطنية([48])بمفهومها
العثماني،فقد كان متمسكا بالدولة العثمانية واستمرار قوانينها ومعتقداتها التي
تشكل أساس حضارتها([49]) وتميّزها عن غيرها من الأمم الشرقية والغربية.
فتحت هذه الاتجاهات السياسية المتنافرة
باب الصراعات على مصراعيه،فظهر التشرذم والتحزّب والانتصار للآخر بشكل علني، وصرّح
على رؤوس الأشهاد برغبة جامحة في الدفاع عن الأوربيين ومثلهم ثقافيا وسياسيا
واجتماعيا، ثم توالى التنافس في صيغة الدفاع، فركّز البعض على العمل السياسي
الجماعي و اختار آخرون العمل الثقافي الفردي تهيئة للعقول لقبول الأفكار الأوربية.
[1]
/ أنظر الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها/عبد العزيز محمد
الشناوي1/33،البلاد العربية والدولة العثمانية/ساطع الحصري 11-13،الممسألة
الشرقية/محمد ثابت الشاذلي 397،يقظة العالم الإسلامي/فرنو ترجمة بهيج
شعبان1/67،الصراط المستقيم/(ضمن كتاب مورغان)بحث لحسن جنتاي2/61،دائرة معارف القرن
العشرين/محمد فريد وجدي 2/546
[2]
/ نسجت حول شخصيته أساطير كثيرة منها زواجه من مال خاتون، ولقاء والده بزاهد مسلم
أثّر في صياغة شخصيته، وقيل أيضا أنه رأى بشرى في منامه،أنظر وجدي المرجع السابق
والشناوي مرجع سابق
[3]
/ الحصري مرجع سابق129-140،الشاذلي/مرجع سابق60-62،الحروب العثمانية الفاريسة/عبد
اللطيف الهريدي19،دراسات تاريخية في النهضة العربية/محمد بديع الشريف23
[4]
الشناوي مرجع سابق1/33،الحصري مرجع سابق17
[5]
/الهريدي مرجع سابق19
[6]
/الشناوي مرجع سابق1/19-27، وجدي مرجع
سابق2/547،الحصري مرجع سابق43-45،15-17،32
[7]
/ الهريدي 18-19،الحصري15،الشناوي1/63
[8]
/موقف العقل والعلم والعالم من رب العتالمين وعباده المرسلين/مصطفى صبري1/7
[9]
/أحمد محرم بن حسن عبد الله شاعر مصري لد يعرف باسمه، وديوان الإسلام أو إلياذة
الإسلام ضمّنها تاريخ الإسلام شعرا، ولد سنة 1294هـ
/1877م، وتفي بدمنهور مصر ودفن بها سنة 1364هـ/1945م
أنظر
مشاهير شعراء العصر/أحمد عبيد1/114
[10]
/الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/محمد محمد حسين 1 /28
[11]
/الهريدي51-53
[12]
/ حركة الجامعة الإسلامية/أحمد فهد الشوابكة ، الحصري 9-10
[13]
/حاضر العالم الإسلامي/ لاوثروب تعليق شكيب أرسلان ترجمة عادل نويهض 3/208
[14]
/أنظر المرجع السابق، وانظر بحثنا أوجين يونغ وتأريخه للاستعمار في العالم
الإسلامي،بحث منشور بالجريدة الأسبوعية البصائر الجزائرية الصادرة بتاريخ
26/06/2000(ظهرت في خمس حلقات متتابعة)
[15]
/ المسألة الشرقية ومؤتمر باريس/مصطفى صفوت 17(النص بالإنجليزية).
[16]
/تاريخ الدولة العلية/محمد فريد 253،صفوت 21-22،الحصري81-93، الشوابكة24
[17]
/ حركة الجامعة الإسلامية/ الشوابكة11-12
[18]
/الدولة العثمانية…/الشناوي2/1065-1066،نكبة الأمة العربية بسقوط الخلافة
العثمانية/محمد الخير عبد القادر63
[19] مذكراتي السياسية / السلطان عبد الحميد
86،90-91
[20]
/البلاد العربية والدولة العثمانية/الحصري 93-94،حاضر العالم الإسلامي
1/308،الشناوي 2/1068-1071،الخلافة الإسلامية/سن جيونج 193، موقف العقل و العلم
والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين /صبري 4/331-334
[21]
/العالم الإسلامي والاستعمار السياسي/أنور الجندي170،الشناوي مرجع سابق
3/1813-1816
[22]
/الدولة العثمانية وشبه جزيرة العربية/رجب حراز53-55،مذكرات السلطان عبد الحميد
الثاني4-5،مجلة المجتمع/مقال عبد الحميد حرب عدد 532 ،يقظة العرب/جورج أنطونيوس
60،حاضر العالم الإسلامي2/308،الموسوعة الإسلامية/محسن الأمين 6/43-46،انتهاء
الخلافة العثمانية/حلمي أحمد شال 15
[23]
/الشاوي /مرجع سابق 3/1213-1216
[24]
/أنظر اليقظة القومية الكبرى/حسين صبحي 42-44،جمال الدين الأسد أبادي/ميرزا لطف
الله خان 140-141
[25]
/حركة الجامعة الإسلامية/الشوابكة 38
[26]
/ سياسة السلطان عبد الحميد/محمد عبد اللطيف الجعفري 40-41
[27]
/ذهب أنطونيوس و الشناوي إلى أنه من قبيل
التصنّع، وهو مخالف حسب تقديرنا لما وصفه به الثقات.
أنظر
الشناوي/المرجع السابق3/1205،أنطونيوس/مرجع سابق 138-139،مذكراتي السياسية/السلطان
عبد الحميد 97، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية/مصطفى حلمي 101
[28]
/فسرت كسابقها بأنها مؤامرة لتطويق الولايات العربية، أنظر يقظة العرب/أنطونيوس
143-144،الدولة العثمانية…/الشناوي3/1325
[29]
/الخلافة الإسلامية/سون جيونج 94
[30]
/الشناوي3/1205،مذكرات السلطان 153،حاضر العالم الإسلامي1/309
[31]
/الشناوي/مرجع سابق3/1205-1206
[32]
/ الخلافة الإسلامية/سون جيونج 94-209
[33]
/المصدر السابق نفسه
[34]
/مذكراتي السياسية/السلطان عبد الحميد الثاني 34-35
[35]
/ يوميات هر تزل/تيودور هر تزل 29،35،36،خطر اليهودية/عبد الله التل 163
[36]
/يوميات هرتزل 29،35،36
[37]
/خطر اليهودية/التل 163
[38]
/النكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة/مصطفى صبري111 ، مخططات الاستعمار
لمحاربة الإسلام/محمد محمود الصواف 176،التل مرجع سابق232، الأسرار الخفية/حلمي
257-259
[39]
/اعتبره أحمد أمين وحسن الأمين من رواد الإصلاح الاجتماعي والسياسي من منظور
إسلامي، و نقلا عنه ما يؤيد وجهة نظره،أنظر زعماء الإصلاح/أحمد أمين26-58،الموسوعة
الإسلامية/محسن الأمين 6/186-187.
والأصح
حسب تقديرنا صحة ما ذهبنا إليه، وقد يكون الرجل مرّ بمراحل، كان آخرها ما أثبتناه.
[40]
/مثل فؤاد باشا الذي يعد أحد الذين أعدّهم رشيد باشا لإكمال مسيرة الاقتباس من
الغرب،أنظر مذكرات السلطان عبد الحميد 134
[41]
/يعرف بحساب الجمل أبجد هوز…حساب
مخصوص ، وذلك أنهم وضعوا لكل حرف من أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت تخذ ضظغ،فمن
الألف إلى الطاء المهملة للآحاد(1-9)، ومن الياء إلى الصاد للعشرات(10-90)، ومن
القاف إلى الظاء لآحاد المئات(100-900)، و الغين ألفا، أنظر كشاف اصطلاحات
الفنون/التهانوي 2/11
[42]
/حركة الجامعة الإسلامية/الشوابكة30،مذكرات السلطان30
ظهر
حزب مدحت باشا في شكل باهت سنة 1859م ،أنظر الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب/رجب
حراز 43
[43]
/حاول تجسيدها مدحت باشا عندما كان واليا على الشام.،أنظر حاضر اللغة العربية في
بلاد الشام /سعيد الأفغاني 20
[44]
/مذكرات السلطان عبد الحميد142،الشوابكة/مرجع سابق 29
[45]
/المسألة الشرقية ومؤتمر باريس/مصطفى صفوت 17
[46]
/ المرجع السابق 30،عزل بموجب المادة 23 من الدستور
[47]
/المرجع نفسه31،33-34
[48]
/المسألة الشرقية /محمد ثابت الشاذلي53،نامق كمال/ الهريدي6،11
[49]
/الشوابكة مرجع سابق نفسه.
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب