إيجار
المال الشائع في الفقه الإسلامي
د. مازن مصباح
صباح
كلية التربية - الأستاذ
المشارك في الفقه المقارن
جامعة الأزهر –
غزة – فلسطين
ملخص: يتناول هذا البحث حكم
الانتفاع بالحصة الشائعة بالإيجار وقد جاء هذا البحث في أربعة مباحث، ففي الأول
عرفت الملكية الشائعة، وبينت طبيعة حق الشريك في المال الشائع ومصادر الشيوع، وفي
الثاني عرفت الإجارة وبينت مشروعيتها، وجاء الثالث متضمناً مذاهب الفقهاء في تأجير
الشريك لحصته الشائعة لأجنبي بدون موافقة بقية الشركاء، وأوردت مذاهب الفقهاء في
ذلك وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشات وبينت الراجح منها، وفي الرابع تناولت تأجير
الشريك لكل المال الشائع بدون موافقة بقية الشركاء وما يترتب على ذلك، ثم ختمت
بخاتمة تضمنت أهم النتائج.
Common Wealth Lease in Islamic Fiqh
Abstract: This
research discusses the judgment of benefiting by the common part of a lease. It
is divided into four chapters.
In the first
chapter I defined the common ownership and showed the right of the partner in
the common wealth and the source of its circulation
In the second
chapter I defined the lease and showed its legality. While the third chapter
includes the scholars' creeds concerning letting a partner's share to a
foreigner without partners' agreement, and showed the scholars ways and their evidences
and what controversies it takes and
showed the best of them.
In the fourth
chapter I discussed the partner's renting the whole common wealth without
partner's agreement and its consequences. Then, I concluded with important
findings.
المقدمة:
الحمد
لله رب العالمين , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين ومن تبع هداه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
لقد
جاءت الشريعة الإسلامية بأحكام بُنيت على أساس رعاية مصالح العباد في العاجل
والآجل، فكل أحكام الشريعة بنيت على جلب المنافع ودرء المفاسد وهذا أمر ملحوظ
باستقراء أحكام الشريعة الإسلامية.
ولقد
حرصت الشريعة الإسلامية على تشريع أحكام تنظم معاملات المسلمين فيما بينهم وتعمل
على الحرص على أن تتم تلك المعاملات ضمن المعايير والضوابط التي وضعتها الشريعة
حتى يكون التعامل قائماً على أساس إعطاء الحقوق لأصحابها وعدم الاستغلال، وإن كانت
جالبة للنفع لمنْ قام بها، لأن ذلك في عرف الشريعة يُعد أمراً غير جائز لمخالفته
ضوابطها ومعاييرها التي وضعتها لكي تكون المعاملات التي تنشأ بين المسلمين سليمة
وصحيحة.
ومن
تلكم الأمور التي جاءت الشريعة الإسلامية لتنظيمها العلاقات المشتركة التي تنشأ
بين الأفراد في الملكية المشتركة والتي حددت لها الشريعة الإسلامية أحكاماً لا يجوز
لأي واحد من الشركاء الخروج عنها نظراً لعدم انفراده لوحده بملكية الشيء المشترك،
بخلاف ما لو كان مالكاً لشيء ملكاً تاماً لا يشاركه في ملكيته أحد فيحق له التصرف
فيه كيفما شاء في حدد ما أباحته الشريعة الإسلامية.
ولذا
قيدت الشريعة تصرف الشريك فيما هو مملوك له ولغيره فيما يسمى بالملكية الشائعة،
وقد يتصرف الشريك تصرفاً ما في حصته الشائعة بأن يقوم بتأجيرها لشريكه، أو يقوم
بتأجيرها لشخص أجنبي ليس شريكاً معه ومع بقية شركائه في ذلك المال الشائع، بل وقد
يقدم الشريك على تأجير كل المال الشائع لأجنبي وهذا التصرف يكون بغير إذن بقية
الشركاء، ولأهمية هذا الأمر قمت بالبحث في هذا المجال وحاولت قدر الإمكان
والاستطاعة القيام بالإحاطة بهذا الموضوع على حسب جهدي، ولقد جاء هذا البحث في مقدمة
وأربعة مباحث على النحو التالي:
مقدمة.
المبحث
الأول:
تعريف الشيوع وبيان طبيعة حق الشريك في المال الشائع وفيه مطلبان:
المطلب
الأول: تعريف الشيوع.
المطلب
الثاني: طبيعة حق الشريك في المال الشائع، ومصادر الشيوع.
المبحث
الثاني:
تعريف الإجارة وبيان مشروعيتها.
المبحث
الثالث:
إيجار الشريك لحصته في المال الشائع دون موافقة بقية الشركاء.
المبحث
الرابع:
تأجير الشريك لكل المال الشائع بدون موافقة بقية الشركاء.
خاتمة.
فما
كان صواباً فمن الله عز وجل، وما كان خطأً مجانباً الصواب فمني ومن الشيطان، ربنا
لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا.
المبحث الأول
تعريف الشيوع
وبيان طبيعة حق
الشريك في المال الشائع
المطلب الأول
تعريف الشيوع
الشيوع
في اللغة:
يُطلق على الشيء غير المميز، أو على الذي لم يُعزل عن غيره ويكون مختلطاً بأجزاء
أخرى، يقال فلان نصيبه في الشيء شائع ومشاع أي غير محدد وغير معزول عن غيره، قال
أبو سعيد: هما متشايعان ومشتاعان في دار أو في أرض إذا كانا شريكين، ومنه قيل سهم
شائع كأنه ممتزج لعدم تميزه([1]).
الشيوع
في الاصطلاح:عرفت
المادة (138) من مجلة الأحكام العدلية المشاع بأنه: "ما يحتوي على حصص شائعة
كالنصف والربع والسدس وغير ذلك من لحصص السارية إلى كل جزء من أجزاء المال منقولاً
كان أم غير منقول"([2]).
ولقد
سميت الحصة السارية في المال المشترك حصة شائعة وذلك لعدم تعيينها في أي قسم من
أقسام المال الشائع.
وقد
عرفت المادة (139) من المجلة الحصة الشائعة : "بأنها الحصة السارية إلى كل
جزء من أجزاء المال المشترك، فالحصة السارية هي الحصة الشائعة أو المشاعة ومجموع
الحصص المشتركة لا يعد مشاعاً، فالمزرعة المشتركة من حيث كل حصة على حدة مشاعة،
ومن حيث مجموع الحصص غير مشاعة بل مشتركة بين الشركاء".
وقد
عرفها – الملكية الشائعة – بعض المحدثين بقوله: "هي ما تعلقت بجزء نسبي غير
معين ومحدد، وتكون كل ذرة من المال الشائع مشتركة بين جميع الشركاء فإذا كانت
الدار مثلاً مشتركة بين خمسة أشخاص فإن لكل واحد منهم الخمس في كل ذرة من ذراتها
دون الاستئثار بنصيب معين منها"([3]).
المطلب الثاني
طبيعة حق الشريك في
المال الشائع ومصادر الشيوع
إنَّ
الشريك في المال الشائع المالك لجزءٍ منه يُعد مالكاً له ملكية تامة، وذلك لأنَّ
حصته الشائعة التي يملكها تنتشر وتتفرق في كل جزءٍ من أجزاء المال الشائع، غير
أنَّ تلك الملكية وإنْ كانت تامة إلا أنها تُعد مُقيدة فلا يحق له أن ينتفع بكل
المال الشائع أو جزءٍ منه وذلك لأنه يُعد قد انتفع بما يملكه هو ويملكه غيره، وكذا
لو تصرف الشريك أي تصرف في المال الشائع قبل القسمة في أي جزءٍ من أجزاء المال
الشائع فتصرفه يكون واقعاً على ما يملك وما يملك غيره وعلى ذلك فالمال الشائع لا
يُعد مملوكاً كله ملكية تامة للشريك ولكن ملكه يكون بمقدار حصته الشائعة، وبالتالي
لا يحق له أن يستأثر بكل مزايا ومميزات الشيء المملوك ملكية شائعة وذلك لاشتراك
بقية الشركاء في هذا المال المشترك، لأن لهم نفس الامتيازات التي يتمتع بها وذلك
بما تخوله لهم الحصة التي يملكونها في المال الشائع المشترك فيما بينهم([4]).
مصادر الشيوع :
تتنوع
مصادر الشيوع فمنها ما هو قائم على الرضا بين الشركاء، ومنها ما هو جبراً عنهم لا
إرادة لهم في حصوله ولا رغبة لهم في ذلك.
ومن
أهم مصادر الشيوع القائم على الرغبة والرضا من كل الشركاء: البيع والشراء والوقف
والوصية والشركة.
وأما
مصادر الشيوع الجبري الذي لا دخل للشركاء فيه ويحدث بلا رغبة من أي أحدٍ منهم :
الاختلاط الاضطراري ويُقصد به الاختلاط الحاصل بغير إرادة الشركاء في الملك ويتحقق
هذا الاختلاط في حالتين :
الأولى: إذا اختلط المالان وكانا من
جنس واحد كاختلاط الحنطة بالحنطة وغير ذلك فنلحظ أنه في حالة اختلاط الجنسين
المتماثلين لا يمكن التفريق بينهما ولا تميز أحدهما عن الآخر.
الثانية: إذا اختلط المالان وكانا
مختلفين في الجنس مع إمكان التميز بينهما ولكن بعد عناءٍ ومشقة كاختلاط الحنطة
بالشعير.
فإذا
وقع الاختلاط في أيٍ من الحالتين كان المال المختلط مشتركاً بين المالكين على قدر
نسبة ما لكل منهما قبل الخلط، فإذا حدث أن تلف بعد الاختلاط وكان التلف قد أصاب
أحد المالين وعُلم صاحبه فإنه يتحمل ذلك التلف، فإنْ لم يكنْ معلوماً كان التالف
من المال بنسبة ما لكل شريك([5]).
وأهم
أسباب الشيوع – إن كان جبرياً – هو الميراث حيث يكون المال – الذي هو مال التركة –
مشاعاً بين جميع الورثة.
المبحث الثاني
تعريف الإجارة
وبيان مشروعيتها
أولاً– الإجارة لغةً:
من
مصدر أجر إجارة ويقال أيضاً آجر – بالمد – إيجاراً ويستعمل الممدود من باب
المفاعلة فيكون مصدره المؤاجرة.
قال
الزمخشري : "يقال آجرته مؤاجرة مثل عاقدته معاقدة وعاملته معاملة"([6]).
وقال
صاحب القاموس : "وآجر المملوك آجراً – فآجره إيجاراً ومؤاجرة، والأجرة
الكراء، واستأجرته وآجرته صار أجيري"([7]).
ثانياً– الإجارة اصطلاحاً:
سأقوم
فيما يلي بإيراد تعريف الإجارة عند الفقهاء :
عرفها
الحنفية بقولهم : "بيع منفعة معلومة بأجر معلوم"([8]).
عرفها
المالكية بقولهم : "تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض"([9]).
عرفها
الشافعية بقولهم : "عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض
معلوم"([10]).
عرفها
الحنابلة بقولهم : "عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عين معينة أو
موصوفة في الذمة أو عملٍ معلومٍ بعوضٍ معلوم"([11]).
بالتأمل
في تلك التعاريف نجد أن بعض الفقهاء عرفها بأنها عقد تمليك بمعنى أن العين تُملك
بالإجارة كما تُملك في البيع([12])،
وبعضهم عرفها على أنها عقد على منفعة وهو قول أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية
والشافعية والحنابلة([13]).
فمن
عرفها بأنها عقد تمليك نظر إلى ثمرة العقد وحكمه فإن الغرض الأساسي من العقد وما
يهدف إليه المتعاقدان هو نقل ملكية المنفعة إلى المستأجر خلال المدة المتفق عليها
في العقد ونقل الأجرة إلى المؤجر.
ومن
قال بأنها عقد على منفعة فقد عرفها بالسبب الذي يترتب عليه الحكم فالسبب في
الإيجار هو العقد ويترتب على هذا العقد تملك المستأجر للمنفعة.
مشروعية الإجارة:
عامة
أهل العلم على أن الإجارة جائزة([14])،
واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أولاً–
الكتاب:
استدلوا بقوله تعالى : "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجروهنَّ"([15]).
وجه
الدلالة: "تدل
الآية بمنطوقها الصريح على الأمر بإعطاء الأجرة مقابل الإرضاع، والمراد أعطوهنَّ
أجراً إذا أرضعنَّ لكم بعقدٍ، بدليل "لكم"، والأجرة ثمرة مترتبة على ذلك
العقد، فدل ذلك على مشروعية عقد الإجارة.
ثانياً–
السنة:
1– عن أبي هريرة t أنه r قال : "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل
أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم
يوفهِ أجره"([16]).
وجه
الدلالة: تضمن
هذا الحديث وعيداً لمن استأجر أجيراً ولم يعطهِ حقه فهذا دليل واضح منطوقه صريح في
جواز الإجارة، ووجوب الوفاء بالأجر فور استيفاء المنفعة، فلو لم تكنْ الإجارة
مشروعة لما استحق من منع الأجرة عن الأجير هذا الوعيد الشديد.
2– ما روي من حديث الهجرة:
"واستأجر النبي r وأبو بكر t رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً([17])،
وهو على دين كفار قريش وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث
ليالٍ فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليالٍ ثلاث فارتحلا"([18]).
وجه
الدلالة:
يدل الحديث دلالة واضحة على جواز الإجارة حيث استأجر الرسول r رجلاً غير مسلم ليدلهم على الطريق، ففعله r يدل على مشروعية الإجارة ولو كان المستأجر غير مسلم، فلو لم تكن
مشروعة لما فعلها النبي r.
3– ما روي عن أبي هريرة t عن النبي r قال: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه:
وأنت؟ قال: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"([19]).
وجه
الدلالة: يدل
الحديث على جواز الإجارة على رعي الغنم، وفعله r له دليل واضح على مشروعية الإجارة وما يترتب عليها من أجر.
ثالثاً–
الإجماع :
أجمعت
الأمة على جوا عقد الإجارة ومشروعيته، ولا يقدح في ثبوت الإجماع ما حكي عن بعض
العلماء من القول بعدم جواز الإجارة وذلك لأن الإجماع منعقد قبله فلا يُلتفت إلى
ما جاء على خلاف ذلك الإجماع([20]).
والقائلون
بعدم الجواز يستدلون بأن عقد الإجارة عقد يرد على المنافع وهي لحظة العقد معدومة،
والعقد على المعدوم باطل فكان ذلك غرراً وهو منهي عنه، والمنهي عنه لا يكون
مشروعاً([21]).
وأجيب
عن ذلك:
إنَّ المنافع وإنْ لم تكن موجودة عند العقد إلا أنها مقدرة الوجود شرعاً حتى يرد
عليها العقد، ولأنها مستوفاة في الغالب([22])،
كما أن تصحيح عقد الإجارة والقول بمشروعية نوع من أنواع الرخص التي شرعتها الشريعة
الإسلامية تخفيفاً عن المكلفين ورفعاً للحرج عنهم، وبالتالي يترجح قول الجمهور
بمشروعية عقد الإجارة وجوازها([23]).
رابعاً–
المعقول:
إن
الحاجة داعية إلى الإجارة وذلك لأن حاجة الناس إلى المنافع كحاجتهم إلى الأعيان،
فلما أجاز الشارع العقد على الأعيان وجب أن يجوز على المنافع بالإجارة([24]).
المبحث الثالث
إيجار الشريك لحصته
في المال الشائع
دون موافقة بقية
الشركاء
لا
خلاف بين الفقهاء في جواز إجارة الحصة الشائعة للشريك وذلك لأن استيفاء منفعة
الحصة الشائعة المؤجرة أمر ممكن ومقدور عليه وذلك لأن المال جزء منه للشريك المؤجر
والجزء الآخر للشريك المستأجر، فالمستأجر انتفاعه حاصل بحصته لملكيته إياها،
وانتفاعه بحصة شريكه حاصل بالإجارة فيكون قد تم له الانتفاع بالعين المؤجرة([25]).
أما
في حالة إجارة الحصة الشائعة من الأجنبي فقد وقع الاختلاف بين الفقهاء، وسأقوم
فيما يلي ببيان ذلك.
أولاً– مذهب الأحناف:
1– ذهب الإمام أبو حنيفة –
يرحمه الله – إلى القول بعدم جواز إيجار الحصة الشائعة من غير الشريك وإنْ كانت
معلومة القدر كنصف وثلث وربع، وأما تأجيرها للشريك فهو أمر جائز.
وحجة
الإمام:
أنَّ المنفعة التي عُقد العقد من أجل استيفائها لابد أن تكون معلومة علماً يمنع من
حدوث المخاصمة والمنازعة بين طرفي العقد، كما أنه يجب أن تكون مدة المنفعة مقدور
على استيفائها حقيقة وشرعاً، وفي حالة إيجار الحصة الشائعة من غير الشريك فلا يمكن
تسليمها إلا بتسليم كل العين، ومن ناحية أخرى فالمستأجر لا يستطيع أن ينتفع بهذه
الحصة الشائعة – التي قام باستئجارها – وحدها مع الشيوع، وذلك لأن كل جزء من
أجزائها مشترك، ومن ثمَّ فإن الانتفاع بها لا يحصل إلا بالانتفاع ببقية حصص
الشركاء الآخرين وذلك لارتباط الحصة المؤجرة بحصص الشركاء الآخرين([26]).
ويعزز
الإمام – يرحمه الله – رأيه بأن يضرب لما سبق مثلاً لشخص قام بتأجير نصف داره
شائعاً لشخص آخر فذلك العقد فاسد، وذلك لأن المقصود من عقد الإيجار تمكن المستأجر
من الانتفاع بالعين المؤجرة وفي هذه الحالة الانتفاع المطلوب حدوثه يتطلب أن ينتفع
المستأجر بكل المال الشائع وهذا لا يتصور حدوثه إلا إذا سُلم كل المال الشائع
للمستأجر وهذا لا يمكن حدوثه لأن بقية الشركاء لهم الحق في بقية أجزاء ذلك المال
المشترك وإعطاء الحق للمستأجر بالانتفاع بالمال الشائع يتعارض مع ملكية بقية
الشركاء لحصصهم في ذلك المال الشائع وهذا يمنع من انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة
له، وهذا الذي ذهب إليه الإمام أبو حنيفة – يرحمه الله – هو رأي زفر أيضاً([27]).
2– ذهب الإمامان أبو يوسف ومحمد
– يرحمهما الله – إلى القول بأنه يحق للشريك في المال الشائع أن يقوم بتأجير حصته
الشائعة من ذلك المال للشريك أو للأجنبي سواء أكان المال قابلاً للقسمة أم لا،
ولكن هذا الحق مقيد بشرط أن يبين المؤجر مقدار حصته فإذا لم يستطع بيانها فالإجارة
تكون غير جائزة ودليلهما على ذلك :
أولاً: إنَّ عقد الإيجار يعد بيعاً
للمنفعة وطريق الإيجار إقامة الأعيان مقام المنافع، وبالتالي يكون الإيجار كبيع
الأعيـان، وكما يجري بيع الأعيان في الشائع فكذا يجري فيه – أي الشائع – بيع
المنافع.
ثانياً:
إنَّ العقود
التي يبطلها أو يصححها الشارع لا يفرق فيها بين الشريك وغيره، فكما ثبت أن إجارة
الشائع من الشريك جائزة ثبت أن الشيوع لا يبطل الإجارة، فوجب القول بصحة الإجارة
مشاعاً من الأجنبي كما تصح من الشريك فلا فرق بين الشريك وغيره في جواز تأجير
الحصة الشائعة، فكيف يمكن القول بجواز عقد الإيجار للحصة الشائعة للشريك وعدم
جوازها للأجنبي؟ وحيث لا فرق فالحكم واحد وهو الجواز.
وهما
بهذا يردان على الإمام أبي حنيفة – يرحمه الله – وزفر – يرحمه الله – بقياسهما
الإيجار لغير الشريك على الإيجار للشريك([28])،
وهذا كله في الشيوع الأصلي.
أما
في حالة الشيوع الطارئ([29])،
فلا خلاف في أحقية الشريك في تأجير حصته لأجنبي بناءً على أن عقد الإيجار هو
بمثابة عقود متجددة، فلو استأجر شخصان عيناً ثم مات أحدهما، فعقد الإيجار يفسخ في
حق الميت، ويظل نافذاً بالنسبة للحي بالرغم من طروء الشيوع، وكذلك إذا قام أحد
الشركاء بتأجير كل داره لرجل ثم فسخ العقد في النصف([30])،
والفتوى في المذهب على قول الإمام أبي حنيفة – يرحمه الله -([31]).
[1] لسان العرب : مادة شيع،
المصباح المنير : الشين مع العين، ص 450.
[2] درر الحكام في شرح مجلة
الأحكام العدلية (1/103).
[3] المدخل في التعريف بالفقه
الإسلامي، د. محمد مصطفى شلبي، ص 402.
[4] الملكية في الشريعة
الإسلامية مع مقارنتها بالقوانين الوضعية للأستاذ الشيخ على الخفيف (2/10).
[5] الفتاوى الهندية (2/301)،
البناية في شرح الهداية (6/74)، المجموع (10/407 – 408)، درر الحكام في شرح مجلة
الأحكام (3/10 – 13 المادة 1061).
[6] المصباح المنير، ص 6،
الألف مع الجيم.
[7] القاموس المحيط (1/376).
[8] بدائع الصنائع (4/173)،
المبسوط (15/74).
[9] حاشية الدسوقي (4/2)ن
مواهب الجليل (7/493)، التاج والإكليل (7/493)، مغني المحتاج (2/333)، أسنى
المطالب (2/403).
[10] مغني المحتاج (2/232)، أسنى المطالب (2/403)،
حواشي الشرواني (7/497)، حاشية البيجوري (2/49)، بجيرمي على الخطيب (3/560).
[11] شرح
منتهى الإرادات (2/350).
[12] مغني
المحتاج (2/322).
[13] بدائع
الصنائع (4/173)، حاشية الدسوقي (4/2)، المبدع (5/62).
[14] بدائع
الصنائع (4/173)، بداية المجتهد (2/193).
[15] سورة
الطلاق، الآية (6).
[16] رواه
البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة، باب إثم من منع أجر الأجير، حديث رقم (2270،
4/447) كما في فتح الباري شرح صحيح البخاري.
[17] الخريت:
الدليل الحاذق وهو الماهر في هداية الطريق، القاموس المحيط (1/152).
[18] رواه
البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب استئجار المشركين عند الضرورة، حديث رقم (2263،
4/442) كما في فتح الباري
[19] رواه
البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب إثم من منع أجر الأجير.
[20] بدائع
الصنائع (4/174)، مغني المحتاج (2/332)، المغني (5/432).
[21] بداية
المجتهد (2/193)، بدائع الصنائع (4/174).
[22] بداية
المجتهد (2/193).
[23] بدائع
الصنائع (4/174)، المغني (5/43).
[24] تبيين
الحقائق (5/127)، درر الحكام (2/230).
[25] تبيين
الحقائق (5/127)، درر الحكام (2/230).
[26] حاشية
الشلبي على تبيين الحقائق (5/125– 126)، بدائع الصنائع (5/2561)، تكملة فتح القدير
(9/98-100).
[27] حاشية
الشلبي على تبيين الحقائق (5/125).
[28] المرجع
السابق (5/126).
[29] الشيوع
الطارئ: هو ما يحدث بعد العقد وله صور منها:
أ– أن يكون
بصورة الاستحقاق: كما لو قام شخص بتأجير داره ثم ظهر أن نصفها مستحق، تبقى الإجارة
في نصفها الآخر الشائع.
ب- في حالة الإقالة: وذلك كما إذا قام الشركاء
بتأجير دار مشتركة بينهم فيتقايل الطرفان في نصفها، فالإجارة في النصف الثاني
المشاع صحيحة.
ج– في حالة
الوفاة: كأن يؤجر رجلان داراً مشتركة بينهما من إنسان فيتوفى أحدهما، فتنفسخ
الإجارة في حصة المتوفى وتبقى في حصة الحي.
والشيوع الطارئ لا يفسد الإجارة في ظاهره
الرواية سواء أكانت الإجارة للشريك أم لأجنبي، وسواء أكان المعقود عليه يحتمل
القسمة أم لا.
تبيين الحقائق (5/126-127)، حاشية ابن عابدين
(5/29-30).
[30] بدائع الصنائع (5/2561) وما بعدها، تبيين
الحقائق (5/126-127)، حاشية ابن عابدين (5/29-30).
[31] حاشية الشلبي على التبيين (5/125)، حاشية ابن
عابدين (5/39) وما بعدها، و ص (75).
المال الشائع في الفقه الإسلامي
د. مازن مصباح
صباح
كلية التربية - الأستاذ
المشارك في الفقه المقارن
جامعة الأزهر –
غزة – فلسطين
ملخص: يتناول هذا البحث حكم
الانتفاع بالحصة الشائعة بالإيجار وقد جاء هذا البحث في أربعة مباحث، ففي الأول
عرفت الملكية الشائعة، وبينت طبيعة حق الشريك في المال الشائع ومصادر الشيوع، وفي
الثاني عرفت الإجارة وبينت مشروعيتها، وجاء الثالث متضمناً مذاهب الفقهاء في تأجير
الشريك لحصته الشائعة لأجنبي بدون موافقة بقية الشركاء، وأوردت مذاهب الفقهاء في
ذلك وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشات وبينت الراجح منها، وفي الرابع تناولت تأجير
الشريك لكل المال الشائع بدون موافقة بقية الشركاء وما يترتب على ذلك، ثم ختمت
بخاتمة تضمنت أهم النتائج.
Common Wealth Lease in Islamic Fiqh
Abstract: This
research discusses the judgment of benefiting by the common part of a lease. It
is divided into four chapters.
In the first
chapter I defined the common ownership and showed the right of the partner in
the common wealth and the source of its circulation
In the second
chapter I defined the lease and showed its legality. While the third chapter
includes the scholars' creeds concerning letting a partner's share to a
foreigner without partners' agreement, and showed the scholars ways and their evidences
and what controversies it takes and
showed the best of them.
In the fourth
chapter I discussed the partner's renting the whole common wealth without
partner's agreement and its consequences. Then, I concluded with important
findings.
المقدمة:
الحمد
لله رب العالمين , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين ومن تبع هداه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
لقد
جاءت الشريعة الإسلامية بأحكام بُنيت على أساس رعاية مصالح العباد في العاجل
والآجل، فكل أحكام الشريعة بنيت على جلب المنافع ودرء المفاسد وهذا أمر ملحوظ
باستقراء أحكام الشريعة الإسلامية.
ولقد
حرصت الشريعة الإسلامية على تشريع أحكام تنظم معاملات المسلمين فيما بينهم وتعمل
على الحرص على أن تتم تلك المعاملات ضمن المعايير والضوابط التي وضعتها الشريعة
حتى يكون التعامل قائماً على أساس إعطاء الحقوق لأصحابها وعدم الاستغلال، وإن كانت
جالبة للنفع لمنْ قام بها، لأن ذلك في عرف الشريعة يُعد أمراً غير جائز لمخالفته
ضوابطها ومعاييرها التي وضعتها لكي تكون المعاملات التي تنشأ بين المسلمين سليمة
وصحيحة.
ومن
تلكم الأمور التي جاءت الشريعة الإسلامية لتنظيمها العلاقات المشتركة التي تنشأ
بين الأفراد في الملكية المشتركة والتي حددت لها الشريعة الإسلامية أحكاماً لا يجوز
لأي واحد من الشركاء الخروج عنها نظراً لعدم انفراده لوحده بملكية الشيء المشترك،
بخلاف ما لو كان مالكاً لشيء ملكاً تاماً لا يشاركه في ملكيته أحد فيحق له التصرف
فيه كيفما شاء في حدد ما أباحته الشريعة الإسلامية.
ولذا
قيدت الشريعة تصرف الشريك فيما هو مملوك له ولغيره فيما يسمى بالملكية الشائعة،
وقد يتصرف الشريك تصرفاً ما في حصته الشائعة بأن يقوم بتأجيرها لشريكه، أو يقوم
بتأجيرها لشخص أجنبي ليس شريكاً معه ومع بقية شركائه في ذلك المال الشائع، بل وقد
يقدم الشريك على تأجير كل المال الشائع لأجنبي وهذا التصرف يكون بغير إذن بقية
الشركاء، ولأهمية هذا الأمر قمت بالبحث في هذا المجال وحاولت قدر الإمكان
والاستطاعة القيام بالإحاطة بهذا الموضوع على حسب جهدي، ولقد جاء هذا البحث في مقدمة
وأربعة مباحث على النحو التالي:
مقدمة.
المبحث
الأول:
تعريف الشيوع وبيان طبيعة حق الشريك في المال الشائع وفيه مطلبان:
المطلب
الأول: تعريف الشيوع.
المطلب
الثاني: طبيعة حق الشريك في المال الشائع، ومصادر الشيوع.
المبحث
الثاني:
تعريف الإجارة وبيان مشروعيتها.
المبحث
الثالث:
إيجار الشريك لحصته في المال الشائع دون موافقة بقية الشركاء.
المبحث
الرابع:
تأجير الشريك لكل المال الشائع بدون موافقة بقية الشركاء.
خاتمة.
فما
كان صواباً فمن الله عز وجل، وما كان خطأً مجانباً الصواب فمني ومن الشيطان، ربنا
لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا.
المبحث الأول
تعريف الشيوع
وبيان طبيعة حق
الشريك في المال الشائع
المطلب الأول
تعريف الشيوع
الشيوع
في اللغة:
يُطلق على الشيء غير المميز، أو على الذي لم يُعزل عن غيره ويكون مختلطاً بأجزاء
أخرى، يقال فلان نصيبه في الشيء شائع ومشاع أي غير محدد وغير معزول عن غيره، قال
أبو سعيد: هما متشايعان ومشتاعان في دار أو في أرض إذا كانا شريكين، ومنه قيل سهم
شائع كأنه ممتزج لعدم تميزه([1]).
الشيوع
في الاصطلاح:عرفت
المادة (138) من مجلة الأحكام العدلية المشاع بأنه: "ما يحتوي على حصص شائعة
كالنصف والربع والسدس وغير ذلك من لحصص السارية إلى كل جزء من أجزاء المال منقولاً
كان أم غير منقول"([2]).
ولقد
سميت الحصة السارية في المال المشترك حصة شائعة وذلك لعدم تعيينها في أي قسم من
أقسام المال الشائع.
وقد
عرفت المادة (139) من المجلة الحصة الشائعة : "بأنها الحصة السارية إلى كل
جزء من أجزاء المال المشترك، فالحصة السارية هي الحصة الشائعة أو المشاعة ومجموع
الحصص المشتركة لا يعد مشاعاً، فالمزرعة المشتركة من حيث كل حصة على حدة مشاعة،
ومن حيث مجموع الحصص غير مشاعة بل مشتركة بين الشركاء".
وقد
عرفها – الملكية الشائعة – بعض المحدثين بقوله: "هي ما تعلقت بجزء نسبي غير
معين ومحدد، وتكون كل ذرة من المال الشائع مشتركة بين جميع الشركاء فإذا كانت
الدار مثلاً مشتركة بين خمسة أشخاص فإن لكل واحد منهم الخمس في كل ذرة من ذراتها
دون الاستئثار بنصيب معين منها"([3]).
المطلب الثاني
طبيعة حق الشريك في
المال الشائع ومصادر الشيوع
إنَّ
الشريك في المال الشائع المالك لجزءٍ منه يُعد مالكاً له ملكية تامة، وذلك لأنَّ
حصته الشائعة التي يملكها تنتشر وتتفرق في كل جزءٍ من أجزاء المال الشائع، غير
أنَّ تلك الملكية وإنْ كانت تامة إلا أنها تُعد مُقيدة فلا يحق له أن ينتفع بكل
المال الشائع أو جزءٍ منه وذلك لأنه يُعد قد انتفع بما يملكه هو ويملكه غيره، وكذا
لو تصرف الشريك أي تصرف في المال الشائع قبل القسمة في أي جزءٍ من أجزاء المال
الشائع فتصرفه يكون واقعاً على ما يملك وما يملك غيره وعلى ذلك فالمال الشائع لا
يُعد مملوكاً كله ملكية تامة للشريك ولكن ملكه يكون بمقدار حصته الشائعة، وبالتالي
لا يحق له أن يستأثر بكل مزايا ومميزات الشيء المملوك ملكية شائعة وذلك لاشتراك
بقية الشركاء في هذا المال المشترك، لأن لهم نفس الامتيازات التي يتمتع بها وذلك
بما تخوله لهم الحصة التي يملكونها في المال الشائع المشترك فيما بينهم([4]).
مصادر الشيوع :
تتنوع
مصادر الشيوع فمنها ما هو قائم على الرضا بين الشركاء، ومنها ما هو جبراً عنهم لا
إرادة لهم في حصوله ولا رغبة لهم في ذلك.
ومن
أهم مصادر الشيوع القائم على الرغبة والرضا من كل الشركاء: البيع والشراء والوقف
والوصية والشركة.
وأما
مصادر الشيوع الجبري الذي لا دخل للشركاء فيه ويحدث بلا رغبة من أي أحدٍ منهم :
الاختلاط الاضطراري ويُقصد به الاختلاط الحاصل بغير إرادة الشركاء في الملك ويتحقق
هذا الاختلاط في حالتين :
الأولى: إذا اختلط المالان وكانا من
جنس واحد كاختلاط الحنطة بالحنطة وغير ذلك فنلحظ أنه في حالة اختلاط الجنسين
المتماثلين لا يمكن التفريق بينهما ولا تميز أحدهما عن الآخر.
الثانية: إذا اختلط المالان وكانا
مختلفين في الجنس مع إمكان التميز بينهما ولكن بعد عناءٍ ومشقة كاختلاط الحنطة
بالشعير.
فإذا
وقع الاختلاط في أيٍ من الحالتين كان المال المختلط مشتركاً بين المالكين على قدر
نسبة ما لكل منهما قبل الخلط، فإذا حدث أن تلف بعد الاختلاط وكان التلف قد أصاب
أحد المالين وعُلم صاحبه فإنه يتحمل ذلك التلف، فإنْ لم يكنْ معلوماً كان التالف
من المال بنسبة ما لكل شريك([5]).
وأهم
أسباب الشيوع – إن كان جبرياً – هو الميراث حيث يكون المال – الذي هو مال التركة –
مشاعاً بين جميع الورثة.
المبحث الثاني
تعريف الإجارة
وبيان مشروعيتها
أولاً– الإجارة لغةً:
من
مصدر أجر إجارة ويقال أيضاً آجر – بالمد – إيجاراً ويستعمل الممدود من باب
المفاعلة فيكون مصدره المؤاجرة.
قال
الزمخشري : "يقال آجرته مؤاجرة مثل عاقدته معاقدة وعاملته معاملة"([6]).
وقال
صاحب القاموس : "وآجر المملوك آجراً – فآجره إيجاراً ومؤاجرة، والأجرة
الكراء، واستأجرته وآجرته صار أجيري"([7]).
ثانياً– الإجارة اصطلاحاً:
سأقوم
فيما يلي بإيراد تعريف الإجارة عند الفقهاء :
عرفها
الحنفية بقولهم : "بيع منفعة معلومة بأجر معلوم"([8]).
عرفها
المالكية بقولهم : "تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض"([9]).
عرفها
الشافعية بقولهم : "عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض
معلوم"([10]).
عرفها
الحنابلة بقولهم : "عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عين معينة أو
موصوفة في الذمة أو عملٍ معلومٍ بعوضٍ معلوم"([11]).
بالتأمل
في تلك التعاريف نجد أن بعض الفقهاء عرفها بأنها عقد تمليك بمعنى أن العين تُملك
بالإجارة كما تُملك في البيع([12])،
وبعضهم عرفها على أنها عقد على منفعة وهو قول أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية
والشافعية والحنابلة([13]).
فمن
عرفها بأنها عقد تمليك نظر إلى ثمرة العقد وحكمه فإن الغرض الأساسي من العقد وما
يهدف إليه المتعاقدان هو نقل ملكية المنفعة إلى المستأجر خلال المدة المتفق عليها
في العقد ونقل الأجرة إلى المؤجر.
ومن
قال بأنها عقد على منفعة فقد عرفها بالسبب الذي يترتب عليه الحكم فالسبب في
الإيجار هو العقد ويترتب على هذا العقد تملك المستأجر للمنفعة.
مشروعية الإجارة:
عامة
أهل العلم على أن الإجارة جائزة([14])،
واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أولاً–
الكتاب:
استدلوا بقوله تعالى : "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجروهنَّ"([15]).
وجه
الدلالة: "تدل
الآية بمنطوقها الصريح على الأمر بإعطاء الأجرة مقابل الإرضاع، والمراد أعطوهنَّ
أجراً إذا أرضعنَّ لكم بعقدٍ، بدليل "لكم"، والأجرة ثمرة مترتبة على ذلك
العقد، فدل ذلك على مشروعية عقد الإجارة.
ثانياً–
السنة:
1– عن أبي هريرة t أنه r قال : "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل
أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم
يوفهِ أجره"([16]).
وجه
الدلالة: تضمن
هذا الحديث وعيداً لمن استأجر أجيراً ولم يعطهِ حقه فهذا دليل واضح منطوقه صريح في
جواز الإجارة، ووجوب الوفاء بالأجر فور استيفاء المنفعة، فلو لم تكنْ الإجارة
مشروعة لما استحق من منع الأجرة عن الأجير هذا الوعيد الشديد.
2– ما روي من حديث الهجرة:
"واستأجر النبي r وأبو بكر t رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً([17])،
وهو على دين كفار قريش وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث
ليالٍ فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليالٍ ثلاث فارتحلا"([18]).
وجه
الدلالة:
يدل الحديث دلالة واضحة على جواز الإجارة حيث استأجر الرسول r رجلاً غير مسلم ليدلهم على الطريق، ففعله r يدل على مشروعية الإجارة ولو كان المستأجر غير مسلم، فلو لم تكن
مشروعة لما فعلها النبي r.
3– ما روي عن أبي هريرة t عن النبي r قال: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه:
وأنت؟ قال: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"([19]).
وجه
الدلالة: يدل
الحديث على جواز الإجارة على رعي الغنم، وفعله r له دليل واضح على مشروعية الإجارة وما يترتب عليها من أجر.
ثالثاً–
الإجماع :
أجمعت
الأمة على جوا عقد الإجارة ومشروعيته، ولا يقدح في ثبوت الإجماع ما حكي عن بعض
العلماء من القول بعدم جواز الإجارة وذلك لأن الإجماع منعقد قبله فلا يُلتفت إلى
ما جاء على خلاف ذلك الإجماع([20]).
والقائلون
بعدم الجواز يستدلون بأن عقد الإجارة عقد يرد على المنافع وهي لحظة العقد معدومة،
والعقد على المعدوم باطل فكان ذلك غرراً وهو منهي عنه، والمنهي عنه لا يكون
مشروعاً([21]).
وأجيب
عن ذلك:
إنَّ المنافع وإنْ لم تكن موجودة عند العقد إلا أنها مقدرة الوجود شرعاً حتى يرد
عليها العقد، ولأنها مستوفاة في الغالب([22])،
كما أن تصحيح عقد الإجارة والقول بمشروعية نوع من أنواع الرخص التي شرعتها الشريعة
الإسلامية تخفيفاً عن المكلفين ورفعاً للحرج عنهم، وبالتالي يترجح قول الجمهور
بمشروعية عقد الإجارة وجوازها([23]).
رابعاً–
المعقول:
إن
الحاجة داعية إلى الإجارة وذلك لأن حاجة الناس إلى المنافع كحاجتهم إلى الأعيان،
فلما أجاز الشارع العقد على الأعيان وجب أن يجوز على المنافع بالإجارة([24]).
المبحث الثالث
إيجار الشريك لحصته
في المال الشائع
دون موافقة بقية
الشركاء
لا
خلاف بين الفقهاء في جواز إجارة الحصة الشائعة للشريك وذلك لأن استيفاء منفعة
الحصة الشائعة المؤجرة أمر ممكن ومقدور عليه وذلك لأن المال جزء منه للشريك المؤجر
والجزء الآخر للشريك المستأجر، فالمستأجر انتفاعه حاصل بحصته لملكيته إياها،
وانتفاعه بحصة شريكه حاصل بالإجارة فيكون قد تم له الانتفاع بالعين المؤجرة([25]).
أما
في حالة إجارة الحصة الشائعة من الأجنبي فقد وقع الاختلاف بين الفقهاء، وسأقوم
فيما يلي ببيان ذلك.
أولاً– مذهب الأحناف:
1– ذهب الإمام أبو حنيفة –
يرحمه الله – إلى القول بعدم جواز إيجار الحصة الشائعة من غير الشريك وإنْ كانت
معلومة القدر كنصف وثلث وربع، وأما تأجيرها للشريك فهو أمر جائز.
وحجة
الإمام:
أنَّ المنفعة التي عُقد العقد من أجل استيفائها لابد أن تكون معلومة علماً يمنع من
حدوث المخاصمة والمنازعة بين طرفي العقد، كما أنه يجب أن تكون مدة المنفعة مقدور
على استيفائها حقيقة وشرعاً، وفي حالة إيجار الحصة الشائعة من غير الشريك فلا يمكن
تسليمها إلا بتسليم كل العين، ومن ناحية أخرى فالمستأجر لا يستطيع أن ينتفع بهذه
الحصة الشائعة – التي قام باستئجارها – وحدها مع الشيوع، وذلك لأن كل جزء من
أجزائها مشترك، ومن ثمَّ فإن الانتفاع بها لا يحصل إلا بالانتفاع ببقية حصص
الشركاء الآخرين وذلك لارتباط الحصة المؤجرة بحصص الشركاء الآخرين([26]).
ويعزز
الإمام – يرحمه الله – رأيه بأن يضرب لما سبق مثلاً لشخص قام بتأجير نصف داره
شائعاً لشخص آخر فذلك العقد فاسد، وذلك لأن المقصود من عقد الإيجار تمكن المستأجر
من الانتفاع بالعين المؤجرة وفي هذه الحالة الانتفاع المطلوب حدوثه يتطلب أن ينتفع
المستأجر بكل المال الشائع وهذا لا يتصور حدوثه إلا إذا سُلم كل المال الشائع
للمستأجر وهذا لا يمكن حدوثه لأن بقية الشركاء لهم الحق في بقية أجزاء ذلك المال
المشترك وإعطاء الحق للمستأجر بالانتفاع بالمال الشائع يتعارض مع ملكية بقية
الشركاء لحصصهم في ذلك المال الشائع وهذا يمنع من انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة
له، وهذا الذي ذهب إليه الإمام أبو حنيفة – يرحمه الله – هو رأي زفر أيضاً([27]).
2– ذهب الإمامان أبو يوسف ومحمد
– يرحمهما الله – إلى القول بأنه يحق للشريك في المال الشائع أن يقوم بتأجير حصته
الشائعة من ذلك المال للشريك أو للأجنبي سواء أكان المال قابلاً للقسمة أم لا،
ولكن هذا الحق مقيد بشرط أن يبين المؤجر مقدار حصته فإذا لم يستطع بيانها فالإجارة
تكون غير جائزة ودليلهما على ذلك :
أولاً: إنَّ عقد الإيجار يعد بيعاً
للمنفعة وطريق الإيجار إقامة الأعيان مقام المنافع، وبالتالي يكون الإيجار كبيع
الأعيـان، وكما يجري بيع الأعيان في الشائع فكذا يجري فيه – أي الشائع – بيع
المنافع.
ثانياً:
إنَّ العقود
التي يبطلها أو يصححها الشارع لا يفرق فيها بين الشريك وغيره، فكما ثبت أن إجارة
الشائع من الشريك جائزة ثبت أن الشيوع لا يبطل الإجارة، فوجب القول بصحة الإجارة
مشاعاً من الأجنبي كما تصح من الشريك فلا فرق بين الشريك وغيره في جواز تأجير
الحصة الشائعة، فكيف يمكن القول بجواز عقد الإيجار للحصة الشائعة للشريك وعدم
جوازها للأجنبي؟ وحيث لا فرق فالحكم واحد وهو الجواز.
وهما
بهذا يردان على الإمام أبي حنيفة – يرحمه الله – وزفر – يرحمه الله – بقياسهما
الإيجار لغير الشريك على الإيجار للشريك([28])،
وهذا كله في الشيوع الأصلي.
أما
في حالة الشيوع الطارئ([29])،
فلا خلاف في أحقية الشريك في تأجير حصته لأجنبي بناءً على أن عقد الإيجار هو
بمثابة عقود متجددة، فلو استأجر شخصان عيناً ثم مات أحدهما، فعقد الإيجار يفسخ في
حق الميت، ويظل نافذاً بالنسبة للحي بالرغم من طروء الشيوع، وكذلك إذا قام أحد
الشركاء بتأجير كل داره لرجل ثم فسخ العقد في النصف([30])،
والفتوى في المذهب على قول الإمام أبي حنيفة – يرحمه الله -([31]).
[1] لسان العرب : مادة شيع،
المصباح المنير : الشين مع العين، ص 450.
[2] درر الحكام في شرح مجلة
الأحكام العدلية (1/103).
[3] المدخل في التعريف بالفقه
الإسلامي، د. محمد مصطفى شلبي، ص 402.
[4] الملكية في الشريعة
الإسلامية مع مقارنتها بالقوانين الوضعية للأستاذ الشيخ على الخفيف (2/10).
[5] الفتاوى الهندية (2/301)،
البناية في شرح الهداية (6/74)، المجموع (10/407 – 408)، درر الحكام في شرح مجلة
الأحكام (3/10 – 13 المادة 1061).
[6] المصباح المنير، ص 6،
الألف مع الجيم.
[7] القاموس المحيط (1/376).
[8] بدائع الصنائع (4/173)،
المبسوط (15/74).
[9] حاشية الدسوقي (4/2)ن
مواهب الجليل (7/493)، التاج والإكليل (7/493)، مغني المحتاج (2/333)، أسنى
المطالب (2/403).
[10] مغني المحتاج (2/232)، أسنى المطالب (2/403)،
حواشي الشرواني (7/497)، حاشية البيجوري (2/49)، بجيرمي على الخطيب (3/560).
[11] شرح
منتهى الإرادات (2/350).
[12] مغني
المحتاج (2/322).
[13] بدائع
الصنائع (4/173)، حاشية الدسوقي (4/2)، المبدع (5/62).
[14] بدائع
الصنائع (4/173)، بداية المجتهد (2/193).
[15] سورة
الطلاق، الآية (6).
[16] رواه
البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة، باب إثم من منع أجر الأجير، حديث رقم (2270،
4/447) كما في فتح الباري شرح صحيح البخاري.
[17] الخريت:
الدليل الحاذق وهو الماهر في هداية الطريق، القاموس المحيط (1/152).
[18] رواه
البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب استئجار المشركين عند الضرورة، حديث رقم (2263،
4/442) كما في فتح الباري
[19] رواه
البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب إثم من منع أجر الأجير.
[20] بدائع
الصنائع (4/174)، مغني المحتاج (2/332)، المغني (5/432).
[21] بداية
المجتهد (2/193)، بدائع الصنائع (4/174).
[22] بداية
المجتهد (2/193).
[23] بدائع
الصنائع (4/174)، المغني (5/43).
[24] تبيين
الحقائق (5/127)، درر الحكام (2/230).
[25] تبيين
الحقائق (5/127)، درر الحكام (2/230).
[26] حاشية
الشلبي على تبيين الحقائق (5/125– 126)، بدائع الصنائع (5/2561)، تكملة فتح القدير
(9/98-100).
[27] حاشية
الشلبي على تبيين الحقائق (5/125).
[28] المرجع
السابق (5/126).
[29] الشيوع
الطارئ: هو ما يحدث بعد العقد وله صور منها:
أ– أن يكون
بصورة الاستحقاق: كما لو قام شخص بتأجير داره ثم ظهر أن نصفها مستحق، تبقى الإجارة
في نصفها الآخر الشائع.
ب- في حالة الإقالة: وذلك كما إذا قام الشركاء
بتأجير دار مشتركة بينهم فيتقايل الطرفان في نصفها، فالإجارة في النصف الثاني
المشاع صحيحة.
ج– في حالة
الوفاة: كأن يؤجر رجلان داراً مشتركة بينهما من إنسان فيتوفى أحدهما، فتنفسخ
الإجارة في حصة المتوفى وتبقى في حصة الحي.
والشيوع الطارئ لا يفسد الإجارة في ظاهره
الرواية سواء أكانت الإجارة للشريك أم لأجنبي، وسواء أكان المعقود عليه يحتمل
القسمة أم لا.
تبيين الحقائق (5/126-127)، حاشية ابن عابدين
(5/29-30).
[30] بدائع الصنائع (5/2561) وما بعدها، تبيين
الحقائق (5/126-127)، حاشية ابن عابدين (5/29-30).
[31] حاشية الشلبي على التبيين (5/125)، حاشية ابن
عابدين (5/39) وما بعدها، و ص (75).
الخميس سبتمبر 08, 2016 10:34 am من طرف د.خالد محمود
» "خواطر "يا حبيبتي
الجمعة أبريل 08, 2016 8:25 am من طرف د.خالد محمود
» خواطر "يا حياتي "
الجمعة أبريل 08, 2016 8:15 am من طرف د.خالد محمود
» الطريق الى الجنة
الأحد مارس 06, 2016 4:19 pm من طرف د.خالد محمود
» الحديث الاول من الأربعين النووية "الاخلاص والنية "
الأحد مارس 06, 2016 4:02 pm من طرف د.خالد محمود
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:04 am من طرف معهد تيب توب للتدريب
» البرنامج التدريبي أكتوبر - نوفمبر - ديسمبر 2015
الأربعاء سبتمبر 16, 2015 1:03 am من طرف معهد تيب توب للتدريب